في الوقت الذي تحولت فيه سرقة الآثار في العالم الى قضية عادية كأية عملية جنائية أخرى باتت في الشرق الاوسط اخطر بكثير. إنها سرقة وطن وتاريخ. سرقة لحقيقة يحاول الاحتلال الاسرائيلي اخفاءها، ولهذا يشعر الفلسطينيون بالرعب وهم يراقبون كيف تسرق الآثار من وطنهم. ويخشون بان يكون وراء هذه السرقة محاولة تزييف للتاريخ تجعلهم بلا ماض وتراث وانتماء. فهم يراقبون كيف تتسع وتتطور، وكيف باتت نوعا من التجارة المربحة يديرها كبار التجارالفلسطينيون والاسرائيليون الذين يعملون على طريقة المافيا وتسخر السلطة الفلسطينية جهودها لوقف هذه الظاهرة ومكافحتها من جهة ولاسترجاع مئات الاف القطع الموجودة في المخازن الاسرائيلية من جهة اخرى. لكن أمام استمرار طوق الحصار واعادة احتلال المناطق الفلسطينية والأوضاع الأمنية الخطيرة، فإن القضية أصبحت أكثر تعقيداً والامكانات المتوافرة لهؤلاء التجار باتت أسهل بكثير مع استغلالهم الطوق الامني المفروض على المناطق الفلسطينية والذي يحول دون امكان وصول المراقبين الفلسطينيين. فانتقلت هذه السرقة وبشكل أكبر الى مناطق "ج" الخاضعة للسيطرة الاسرائيلية. وفي مثل هذا الوضع، فإن المستفيدين منها هم بالأساس سارقو الاثريات والتجار من الطرفين، وكما قال احدهم مازحا، عندما تحدثنا اليه، "فليستمر الوضع كما هو عليه. فكل يوم اضافي هو ربح صافٍ لنا". ويرى الفلسطينيون أن اسرائيل نجحت، في هذا الموضوع أيضاً، بتجنيد عدد كبير من الفلسطينيين للعمل معها، ومنهم من أصبحوا تجاراً كباراً في التنقيب والسرقة وجندوا معهم العديد من الفلسطينيين البسطاء الذين وجدوا في هذه السرقة مصدر رزق لهم في وقت لا تتوافر لهم لقمة الخبز بسبب الاوضاع الاقتصادية الصعبة. سرقة هرمية قبل الخوض في تفاصيل هذا الوضع لا بد من العودة الى بداية هذه الظاهرة في المناطق الفلسطينية . فهذه المنطقة وقعت تحت حكم العديد من الشعوب السامية من الآشورية وإلى البابلية وصولاً إلى الحكم اليوناني ثم الروماني وحتى القبائل العربية والفتح الاسلامي الذي انتهى بالحكم العثماني. كل هذه الشعوب خلفت وراءها القرى والعديد من الادوات التي كانت تستخدم في الحياة اليومية مثل الفخاريات والحلى والتوابيت والقطع النقدية والنقوش الجدارية والمخطوطات والمقابر. وقد بدا التنقيب عن الاثار في الاراضي الفلسطينية في نهاية الحكم العثماني ثم زاد في ما بعد في عهد الانتداب البريطاني، ما ادى الى انتقال العديد من القطع الاثرية الفلسطينية إلى متاحف أوروبية. ومع مجيء الاحتلال الاسرائيلي زادت عمليات التنقيب في مختلف المناطق وبدأت الظاهرة في ازدياد . وكما قال لنا الدكتور معين صادق رئيس قسم الاثار في جامعة الازهر في غزة فان الاحتلال، كثف منذ العام 1967 عمليات التنقيب عن الآثار الفلسطينية . فهذا المجال لم يستحوذ على اهتمام كبير من الادارة الاردنية التي كانت تسيطر على الضفة الغربية ولا من الادارة المصرية لقطاع غزة. وربما يعود ذلك الى عدم وجود كادر خبير في عملية التنقيب الامر الذي استغله الاحتلال ونجح في سرقة الكثير. ويضيف صادق: "ان الاحصاءات عن تلك الفترة تشير الى انه في كل سنة كانت تتم سرقة مئة الف قطعة اثرية فلسطينية، منها. وفي الكثير من الحالات كان السارق سلطة الآثار الآسرائيلية التي كانت تشرف على عملية التنقيب، وما تمت سرقته والعديد مما استخرجته تم اخفاؤه. لكن هناك أيضاً مجموعة من القطع موجودة اليوم في متاحف اسرائيلية ومخازن الحكومة في تل ابيب ومنها ما تمت سرقته من قبل تجار محترفين. وقد أخذ هذا الموضوع في المفاوضات التي كانت قائمة بين الطرفين اهتماماً كبيراً. وكما قال صادق فإن هذه القضية التي تعتبر حساسة جدا دونت في بروتوكول الشؤون المدنية لاتفاق القاهرة الذي نص على ان تقوم اسرائيل بتزويد الجانب الفلسطيني بقائمة للمواقع الفلسطينية التي نقبت اسرائيل فيها ووصف للقطع الاثرية التي استولت عليها وإعادة الاثريات التي حصلت عليها". إلا أن الاسرائيليين لم ينفذوا شيئا في هذا الموضوع، فلا تزال عملية سرقة الآثار مستمرة. حتى انها تطورت لتتخذ اساليب مبتكرة لسرقة أجود الآثار وأكبر كمية ممكنة. وكما وصفها مدير عام وزارة الآثار الدكتور حمدان طه قائلاً: "اليوم، وبكل صراحة نقول ان مافيا من الفلسطينيين والاسرائيليين تعمل على سرقة الآثار. فأسلوب السرقة ينفذ بطريقة مفبركة ومخطط لها تماماً كأسلوب المافيا. وتكون التركيبة بشكل هرمي. فالفلسطيني البسيط الذي يمكنه الحصول على هذه الأثريات يقوم ببيعها بأبخس الأسعار لتجار فلسطينيين صغار بسبب حاجته المالية في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة ولقلة الوعي الفلسطيني لمدى خطورة الجريمة التي ترتكب، وهذا التاجر يحولها الى تاجر اكبر منه ثم تصل الى التجار الاسرائيليين الذين يركزون تجارتهم على أكبر المتاحف الاسرائيلية والعالمية". ساعات قديمة للبيع كان من الصعب علينا الوصول الى التجار الفلسطينيين الذين يشغّلون الفلسطينيين "الصغار". فهؤلاء يعملون في سرية تامة، حتى من يبيعهم الاثريات من الفلسطينيين الصغار البسطاء لا يعرفونهم. فطريقة التهريب تتم عبر محطات عدة حتى تصل إلى التاجر الفلسطيني الكبير ثم الإسرائيلي الأكبر. ولكن في مدينة القدس حيث الأماكن الأثرية، ليس من الصعب الوصول الى بعض التجار الذين كانوا يعملون مع اخرين وقرروا الاستقلال لتحقيق أرباح أكبر. فهؤلاء وبموجب القانوني الاسرائيلي الذي يسمح بالاتجار بالاثريات يستطيعون ممارسة التجارة في مدينة القدس كيفما شاؤوا. فيصلون الى الحوانيت ويعرضون بضائعهم للبيع ويقوم صاحب الحانوت بالاتفاق على ثمن معين مع التاجر الكبير عبر التلفون ثم يشتري القطع بمبالغ تعتبر رخيصة جدا. بعض بائعي الاثريات يرون ان ما يفعلونه هو أمر قانوني في ظل غياب المراقبة الفلسطينية الأمر الذي يشجع شراء الاثريات بشكل شخصي ومن ثم تهريبها. ويقول تاجر فلسطيني: "نحن نعرف اننا نبيع اثريات ثمينة بأسعار زهيدة، لكن هذه المبالغ القليلة نحن بحاجة اليها اليوم لعدم توفر العمل والأوضاع الاقتصادية الصعبة". ويضيف محدثنا الذي رفض الكشف عن هويته: "قبل أشهر وجدت مع عدد من العمال الفلسطينيين تابوتاً فارغاً فيه عدد من السلاسل القديمة جداً. بداية شعرنا اننا وجدنا كنزاً سيغنينا طوال العمر لكن في ما بعد قلنا اننا سنضطر الى بيع ما وجدناه حتى نحصل على المال قبل كشف الأمر وخسارة كل شيء. وترددنا في بيعه لتجار فلسطينيين ام نقوم ببيعه بأنفسنا للإسرائيليين، فهؤلاء يشترون منا باسعار رخيصة لضمان ربح اكبر لهم من الاسرائيليين، لذا قررنا بيع ما نملك مباشرة للاسرائيليين. فوصلنا الى القدس ثم الى تل ابيب وهناك بعنا كل سلسلة بخمسة آلاف دولار مع اننا نعرف ان قيمتها تساوي أضعاف هذا المبلغ". وأصبح هذا المواطن الفلسطيني منذ ان حصل صدفة على هذه الاثريات واحداً من التجار، ربما لا يزال من الصغار، لكنه احترف مهنة التنقيب عن الاثريات وبيعها. اذ ان ثمن قطعة واحدة يغطي مصروف شهرين لعائلته بقيمة تضاعف راتبه الذي كان يحصل عليه من عمله المتقطع. ويحدثنا هذا التاجر الصغير عن زميل له وجد اواني فازا من نفق الملكة هيلانة وباع كل واحدة بمئة شاقل فقط حوالي 20 دولاراً لتاجر آخر مع انه يدرك تماماً أن سعره أكثر بكثير لكن وضعه الاقتصادي الصعب الزمه باتخاذ هذه الخطوة. بعض التجار، كما علمنا، يفضل تجارة الاثريات الفلسطينية في تركيا ومصر، فهناك الثمن يكون مرتفعاً جداً. لكن هناك طريقة اخرى يتبعها التجار الفلسطينيون بشكل علني عن طريق الصحف. فأحد الاعلانات التي نشرت في الصحافة الفلسطينية كانت لأحد التجار الفلسطينيين الكبار الذي اعلن عن استعداده لشراء الساعات القديمة من الفلسطينيين في الضفة وغزة. وتلقى هذا التاجر كميات كبيرة من هذه الساعات واشتراها بأبخس الأسعار ثم نجح في بيعها عبر الانترنت، لسويسريين يهتمون بهذا الصنف من الاثريات، بأسعار خيالية. السلطة تعمل والاحتلال يعرقل مدير عام وزارة الاثار الفلسطينية الدكتور حمدان طه، يقول إن "السلطة الفلسطينية ومنذ العام 1994 ، وبعد خمسين عاماً من عدم متابعة هذه الظاهرة، تبذل جهودا للحد منها، إلا أن تدهور الأوضاع الأمنية وبالتحديد منذ انطلاقة الانتفاضة حال دون الاستمرار في هذه المسيرة وساعد الحصار ومنع التجول في تسهيل عمل تجار سرقة الاثريات". ويضيف طه ان الاراضي الفلسطينية في الضفة وقطاع غزة كانت احدى اكبر مناطق النهب للتراث الحضاري في العالم وفي هذه المناطق نشأت مراكز للاتجار ذات اتصال دولي مع مراكز دولية في سويسرا وعواصم دول اوروبية ونشأت شبكة من العلاقات المحلية والدولية تشبه طريقة عمل المافيا في هذه المناطق. وهو أمر مقلق وخطير. ويقول طه، إن السلطة الفلسطينية تمكنت في فترة معينة وبعد اتفاقية اريحا ثم اوسلو من السيطرة على جزء من الاراضي الفلسطينية وتأسيس دائرة الآثار الفلسطينية بعد توقف عملها لمدة خمسين سنة. وهذه الدائرة تقوم على مبدأين أساسيين هما محاولة تطبيق القانون وملاحقة التجار والسارقين من جهة وتوعية المجتمع بأهمية التراث الحضاري والتعامل معه كتاريخ وليس كسلعة تشترى وتباع من جهة اخرى. وبهذا المعنى كان هناك ادراك لمعرفة ما جرى في ظل الاحتلال. ولكن اليوم مع عودة الاحتلال الى منطقتنا ازدهرت الظاهرة". ويضيف محدثنا ان "الاحتلال الاسرائيلي خلق نموذجاً سلبياً في هذ المجال إذ كان يستخدم الآثار كاداة لمنع البناء مما يشكل وعيا خاطئا لدى الفلسطيني حول أهمية الآثار كما انه جعل الفلسطيني العادي ينظر الى الآثار كما لو انها جزء من نظام الاحتلال". وتكمن المشكلة اليوم في عدم إمكان استمرار السلطة الفلسطينية في السيطرة على الظاهرة منذ انتفاضة الاقصى، فقبل ذلك كانت السيطرة ممكنة في المناطق "أ" و"ب" فيما تحول النشاط الى المناطق "ج" حيث سيطرة الاحتلال عليها، اما اليوم فتفشت الظاهرة في جميع المناطق. وكما يقول طه، "فمنذ انطلاق انتفاضة الأقصى يتم التنقيب غير القانوني في المواقع الاثرية، ويغذي الاحتلال الاسرائيلي مثل هذه الاعمال التي تمس بالفلسطينيين وتراثهم فيغض النظر عن ذلك بل ويسهّل أحياناً العمل بالسماح للتجار بالوصول متى وكيفما شاؤوا". في المناطق "ج" حيث السيطرة الإسرائيلية تنتشر هذه الظاهرة بشكل خطير حيث انهار نظام الحماية الاسرائيلية، فبمجرد عبور حاجز الرام ودخول القدس، يصبح التاجر الفلسطيني طليقاً يعمل كيفما يشاء بتجارة الآثار عبر المراكز في القدس وتل ابيب . ويشجع القانون الاسرائيلي، كما يرى الفلسطينيون، سرقة الآثار، حيث انه لا يمنع التجارة بها، فيما يمنع التنقيب عنها، بمعنى أن كل من يحصل على أي نوع من الاثريات بامكانه المتاجرة بها في المناطق الاسرائيلية من دون أية مشكلة، وهذا الأمر يختلف في المناطق الفلسطينية حيث يمنع القانون التنقيب والاتجار أيضاً. وبسبب الظروف الفلسطينية التي تحول دون السيطرة على هذه الظاهرة، لا يوجد سوى العشرات من المعتقلين بتهمة التنقيب. ويشير طه، ان هذه الظاهرة التي تعتبر اليوم إقليمية تعاني منها المناطق الفلسطينية بسبب عدم وجود حدود واضحة وقابلة للضبط في مناطق "أ" و"ب"، فهناك عملية في غاية الصعوبة لضبط هذه الظاهرة تستوجب تعاوناً اقليمياً. السلطات الفلسطينية التي سعت منذ سنوات لاستعادة الاثريات المسروقة التي تحتفظ بها اسرائيل، وضعت طلبها هذا بموجب القانون الدولي، خصوصاً اتفاقية لاهاي لعام 1954، اضافة الى اتفاقيات اليونيسكو اللاحقة التي تنص على اعادة المواد الاثرية المكتشفة من قبل أي سلطة محتلة للسلطة الوطنية بعد انتهاء الاحتلال. هذه الاثريات موجودة في مخازن سلطة الآثار الفلسطينية ومخازن ضابط الآثار الاسرائيلي، وهو جزء من الادارة المدنية. وكما يبدو للسلطة الفلسطينية فان هذه الظاهرة ستكون واحدة من أخطر الظواهر الناتجة عن الاحتلال والتي لا يمكن للسلطة السيطرة عليها وتشكل خسارة كبيرة لها تابوت يعقوب حتى هذا التابوت الذي يقدر سعره ببليوني دولار، باعه فلسطينيون لتاجر إسرائيلي بثمن بخس. قبل بضعة أسابيع، ثارت عاصفة اعلامية دولية، عندما كشف النقاب خلال مؤتمر صحافي في واشنطن انه تم العثور على التابوت الذي دفن فيه يعقوب وتحدثوا كثيرا عن القيمة المرتفعة لهذا الكشف بالنسبة إلى علماء الآثار والتاريخ. فهذا حدث تاريخي كبير في نظرهم. وقالوا إنه سيغني البحوث العلمية بشكل غير مسبوق. بل سيحدث انعطافاً حاداً في الكثير من الاستنتاجات التاريخية. واتفق الجميع على ان هذا التابوت بمثابة كنز، اذ يقدر ثمنه بملبغ ملياري دولار أجل. ألفا مليون دولار وراحوا يحققون في صحة هويته. وكان الرأي السائد بين العلماء ان هذا التابوت ضم فعلاً كفن يعقوب. وأكدوا ان الجملة التي نقشت عليه باللغة الآرامية، هي فعلاً كتابة قديمة أصلية وليست مزيفة. لكن الأمر الذي لم يتحدثوا عنه بعد، هو حقيقة ان مالك التابوت هو مواطن يهودي اسرائيلي، يدعى عوديد غولان. وهو ضابط سابق في الجيش وصاحب شركة الكترونية في تل ابيب، كان اشترى هذا التابوت بثمن بخس، من تاجر فلسطيني لبيع الآثار القديمة. وتبين ان التاجر الفلسطيني اشتراه بدوره من عمال فلسطينيين بسطاء، كانوا قد عثروا عليه في مغارة من مئات المغاور المنتشرة في منطقة القدس، من جهة حي سلوان. وهو يندرج في اطار سرقة الآثار الفلسطينية. واحتفظ بهذا الكنز في بيته، وقبل ذلك في بيت والديه قبل سنوات طويلة. لكن هناك من يشكك في هذه الرواية، ويعتقد بأن غولان اشتراه أخيراً، لكنه ادعى انه اشتراه قبل سنوات لكي يلتف على القانون الاسرائيلي الذي ينص على ان الاثار القديمة هي ملك للدولة في اسرائيل ولا يجوز نقلها الى الخارج. ويزداد الاستغراب حين يتبين ان التابوت غادر البلاد بالطرق الرسمية، بترخيص من موظف كبير في سلطة الاثار الاسرائيلية. ونقل التابوت اليوم الى كندا، حيث يتم ترميمه ودرس ما مر عليه من تغيرات.