كانت الانتخابات التركية بمثابة زلزال أصاب الحياة السياسية في تركيا. فقد أدت الى "تكنيس" الطاقم السياسي التقليدي الذي آثر الانسحاب من الحياة السياسية بسبب ما أصابه من تهميش على يد الناخبين الأتراك. ولم يبق في الساح سوى حزبين: حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان وقد اكتسح غالبية مقاعد البرلمان 363 مقعداً بحصوله على نسبة 34 في المئة من أصوات الناخبين، وحزب الشعب الجمهوري، الذي أسسه كمال أتاتورك، بزعامة دنيز باكان وقد حصل على 178 مقعداً في البرلمان اذ صوّت له 19 في المئة من الناخبين يضاف اليه تسعة نواب اعتبروا مستقلين. أما بقية الأحزاب والتيارات فلم تحصل على نسبة العشرة في المئة التي تخوّلها دخول البرلمان بحسب القانون التركي. هذه الموجة الجارفة للتيار الاسلامي المعتدل بزعامة أردوغان فاجأت كثيرين وخلقت مشهداً سياسياً جديداً بالكامل في تركيا. بعضهم يذهب الى حد القول ان حركة أردوغان ستؤدي حكماً الى تغيير وجه تركيا. لكن هذا التغيير ليس مسألة سهلة فهو يستدعي المثابرة والعمل لتخطي تحديات قريبة وبعيدة تنتظر القيادة الجديدة في تركيا. فما هي هذه التحديات؟ أولاً: على الصعيد الداخلي: يواجه حزب العدالة والتنمية، على الصعيد الداخلي أربعة تحديات أساسية: 1- معالجة الانهيار الاقتصادي. فتركيا تمر بواحدة من أكثر أزماتها حدّة من حيث الاقتصاد. وهي أزمة مستفحلة وليست جديدة. لكن الحكومات السابقة لم تفعل شيئاً لمعالجتها واستمرت في رعاية الفساد. وبدل ان يحقق الاقتصاد نمواً بين 4 - 7 في المئة فإنه هبط 4.9 في المئة وأدى الى تضخم وصل الى 35 في المئة، وإلى مليوني عاطل عن العمل معظمهم من الشباب ووصل سعر الدولار الى 7.1 مليون ليرة تركية. فاضطرت تركيا الى الاستدانة من صندوق النقد الدولي ما قيمته 31 مليار دولار. هذا الواقع كان العامل الأول والحاسم في توجيه الشعب التركي صفعة لكل الأحزاب السابقة واخراجها من المعادلة لم يبق سوى حزبين من أصل 18 حزباً تنافست في الانتخابات. أكثر من ذلك فإن النسبة الضئيلة من الأصوات التي حصلت عليها أحزاب الحكومة السابقة أجاويد 23.1 في المئة من الأصوات فقط تؤكد حقيقة معروفة لدى الأتراك وهي أنهم قلّما ينزلون الى الشارع للاعتراض، لكنهم يحاسبون قادتهم في صناديق الاقتراع. وفي هذا المجال أكد قادة حزب العدالة والتنمية الاستمرار في التفاوض مع صندوق النقد الدولي للوصول الى حلول مناسبة لوضع تركيا الاقتصادي انطلاقاً من كونهم جماعة انقاذ يقودون ثورة شعبية هي الثالثة في تاريخ تركيا المعاصر: عدنان مندريس 1950 وتورغوت اوزال 1983 ورجب أردوغان 2002 انه زمن التغيير الذي يحلم به الأتراك! 2- التفاهم مع الجنرالات: يعتبر الجنرالات الأتراك أنفسهم حرّاس هيكل كمال أتاتورك، أي النظام الجمهوري العلماني الذي أرساه باني تركيا الحديثة في بداية العشرينات. ولكي لا يعيد أردوغان تجربة نجم الدين اربكان في منتصف التسعينات، مع فارق في حجم التأييد الشعبي وعدد المقاعد بين حزب الرفاه 3.21 في المئة أي 158 نائباً، وحزب العدالة والتنمية 2.34 في المئة أي 363 نائباً فقد سعى، ولا يزال، على رغم صدور حكم بمنعه من الترشح للانتخابات، للتفاهم مع الجيش. فهو يدرك ان المفصل القاتل لتجربته السياسية هو الصدام مع الجنرالات. ومما ساعد على ذلك الطابع الاسلامي المعتدل لحركة أردوغان، التي وإن نشأت من رحم الرفاه الاسلامي، فإنها كانت أكثر وعياً وتفهماً لوضع تركيا وواقعها الاقليمي والدولي. وفي المقابل كانت تصريحات رئيس هيئة أركان الجيش التركي حلمي أوزكوك مطمئنة اذ أعلن "ان النتائج تعكس ارادة الشعب وأنا أحترمها... وإن الانتخابات جرت وفقاً للقواعد الديموقراطية". فهذا الكلام إقرار بشرعية النتائج واحترام لها. وسيكون محك العلاقة بين الجانبين موضوع المبادئ التي تقوم عليها الجمهورية بحسب المفهوم الأتاتوركي القائم على ثلاثة: الجمهورية - العلمانية - الديموقراطية. 3- احترام المبادئ الجمهورية: كما أشرنا وهذا يعني العمل على التوفيق بين الاسلام من جانب والعلمنة والديموقراطية من جانب آخر. وقد أعلن أردوغان انه يعمل على التوفيق بين الاسلام والديموقراطية. ومثل هذا التوجه يؤكد وعي القيادة الجديدة لمخاطر الانزلاق في صراع على الطريقة الجزائرية "بين الناخبين والجيش". وبهذا المعنى يقدّم أردوغان صورة كارزمية للاسلامي المعتدل. لكن هذا لا يمنع وجود عقبة أساسية في عملية التوفيق هذه، يسميها بعض المحللين "التوفيق بين ما ليس متوافقاً" مشيرين الى صعوبة وربما استحالة التوفيق بين العقيدة الاسلامية ومفهومي العلمنة والديموقراطية كإنتاج للحضارة الغربية المسيحية، ومحذرين من وجود عناصر راديكالية داخل الجهتين بعضها يسعى للصدام وبعضها يسعى لتغيير الطابع العلماني للدولة وهذه المحاولة، من أي اتجاه أتت، خطيرة جداً على مستقبل تركيا! 4 - التعاطي بوعي تاريخي مع قضية الأكراد. حتى الآن كان تعاطي السلطة التركية مع موضوع الأكراد سياسياً وعسكرياً ينطلق من مفهوم "الوحدنة" غير آبه بقضايا العصر: قضايا الأقليات والحق بالاختلاف والتعدد ورفض مبدأ التذويب والتوحيد القسري، واحترام حقوق الإنسان والجماعات والتنوع الثقافي. وفي ضوء ما يقدّمه العالم المعاصر على صعيد هذه الأمور، فإن حزب العدالة والتنمية كما يدل اسمه عليه لن يكون ظالماً ومهمّشاً لفئة كردية تشكل نحو خمس سكان تركيا. ومن المهم أن يسعى الى حل بالتفاهم مع الجيش يجنب تركيا الانفصال من جانب والاضطهاد من جانب آخر! ان التعاطي مع مثل هذا الموضوع يشكل تحدياً جوهرياً لأردوغان ولوعيه التاريخي خصوصاً انه موضوع متصل بدول الجوار العراق وسورية وايران. ثانياً - التحديات الخارجية وهي ليست بأقل صعوبة وحدّة من التحديات الداخلية ونشير الى خمسة منها: 1 - الدخول الى الأسرة الأوروبية - وهو ما يتفق عليه زعيما الحزبين الفائزين في الانتخابات. فالدخول الى السوق الأوروبية أولوية بالنسبة الى القيادة التركية الجديدة لأنه العامل الأول في انهاض تركيا اقتصادياً. وقد عمل أردوغان وسيعمل على تطمين الأسرة الأوروبية التي لا تزال الى الآن تمانع في دخول تركيا اليها لأسباب مبدئية احترام حقوق الإنسان - الممارسة الديموقراطية - الأقليات. غير ان صحيفة "لوموند" ذكّرت بكلام للمستشار الألماني السابق هلموت كول قال فيه انه يفضل ان تبقى أوروبا "نادياً مسيحياً"! ومهما يكن فإن دخول تركيا الى الأسرة الأوروبية سيناقش في قمة كوبنهاغن. والأكيد ان هذا الاحتمال لن يكون سهلاً... وان لم يكن مستحيلاً! 2 - الاستمرار في السياسة الدفاعية للأطلسي - تشكّل تركيا الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي. وسيكون على أردوغان ان يوفق بين التوجّهات الإسلامية العامة في موقفها من الغرب والعولمة ومحاربة "الارهاب" وبين التزامات تركيا الأميركية والأوروبية. وأولى تجارب هذا الاختبار ستكون عبر الأزمة العراقية وسعي أميركا لاسقاط نظام صدام حسين، مما يرتب على تركيا اتخاذ مواقف صعبة ودقيقة وخطرة يقتضي فيها التوفيق بين مشاعر الشعب التركي والتزامات تركيا العسكرية وهذا ليس سهلاً. 3 - تجديد العلاقة بالولاياتالمتحدة: تعتبر الولاياتالمتحدة الحليف الأول لتركيا منذ زمن الحرب الباردة. ولعل آخر نموذج لهذه العلاقة حث أميركا صندوق النقد الدولي لتقديم قروض الى تركيا بقيمة 31 بليون دولار. إضافة الى الدعم العسكري والمناورات والعمليات المشتركة بين البلدين. ومن نماذجها التعاون الكامل في حرب الخليج الثانية. وتسعى أميركا لادخال تركيا في الأسرة الأوروبية وتضغط على الأوروبيين في هذا الاتجاه. ولديها قواعد في تركيا أبرزها قاعدة أنجرليك المعروفة. وتزداد هذه العلاقة صعوبة مع ازدياد التباعد بين أميركا والعالم الإسلامي على خلفية احداث 11 أيلول سبتمبر والحرب ضد الارهاب! وفي هذا المفترق بالذات يتوجب على أردوغان ان يجد الوسيلة المناسبة لاحتواء مثل هذا التباعد جاعلاً هدفه مصالح تركيا في عالم اليوم. 4 - تحجيم العلاقة بإسرائيل: لقد توصلت اسرائيل الى شبه تحالف استراتيجي مع القيادات التركية السابقة: التنسيق العسكري، التمارين المشتركة، سماء تركيا للطيران الاسرائيلي تدريب، عتاد عسكري، اصلاح معدات عسكرية طائرات ودبابات... ولا ننسى مسألة بيع المياه الى اسرائيل من نهر افنانات! وطبيعي ان مثل هذه العلاقة لن تستمر كما كانت من قبل بل سيجري تحجيمها، على الأرجح، من دون قطعها. ذلك ان قطعها يفتح مشكلة مع أميركا وأوروبا أيضاً. فأردوغان لا يستطيع لأسباب نفسية ودينية وسياسية ان يستمر في "تدليل" اسرائيل داخل تركيا. كما أنه لا يستطيع اعلان عدائه للدولة العبرية لأسباب دولية وعسكرية وربما قومية ذات علاقة بدول الجوار التركي. وعليه سيحاول كالعادة أن يصل الى مألفة بين المتناقضات وهذا ليس بالأمر السهل ولا بالأمر اليسير! أما الاسرائيليون فقد رأى بعضهم في هذا التحول "كارثة حقيقية"! 5 - حلّ مشكلة قبرص - وهي مشكلة تطرح نفسها باتجاه الداخل التركي من جانب، وكونها أحد شروط دخول تركيا الى الأسرة الأوروبية من جانب آخر. ذلك ان دخول قبرص الى الأسرة مرهون بموقف تركيا من القسم الشمالي من الجزيرة: بين الفيديرالية والكونفيديرالية ودور الأممالمتحدة حول وضعية الجزيرة القانونية. فما الذي سيكون عليه موقف أردوغان من قبرص خصوصاً انها نقطة اللقاء والافتراق في العلاقات التركية - اليونانية. وهناك حرص ظاهر للتفاهم بين قيادتي البلدين على معالجة هذه المشكلة. لكن مثل هذه القضايا لا تحل بالنيات الطيبة فقط! الخلاصة، ان ما حصل في تركيا هو زلزال شعبي حقيقي. كنّس في دربه الوجوه والأحزاب التقليدية. قاد هذا الزلزال شاب كاريسمي 48 سنة عرف بإخلاصه وديناميته ووعيه السياسي هو رجب طيب أردوغان، الرئيس السابق لبلدية اسطنبول الذي غيّر وجه المدينة بين العامين 1994 و1998. وخلال مدة سنة فقط استطاع ان يقلب الرأي العام التركي المهيأ، بسبب أوضاعه البائسة، لمثل هذا الانقلاب جامعاً في الآن عينه صورة الإسلام المعتدل على طريقة الديموقراطيات المسيحية في أوروبا، ومحترماً الطابع العلماني للدولة التركية، ورشّح 10 في المئة من ممثليه من النساء في الانتخابات وهو على استعداد لمحاورة صندوق النقد الدولي. كل ذلك يؤكد صورة الإسلام المنفتح والمعتدل الذي يقود حركته. ويبقى في الخلاصة ما هو أهم من ذلك ربما، وهو ان يتمكن هذا الشاب من ايجاد رابط متين بين الاسلام والديموقراطية وبين الاسلام والحداثة. ومثل هذه الامكانية لن تكون حكراً على تركيا وحدها بل ستطاول العالم الاسلامي كله والعالم العربي بالدرجة الأولى مؤكدة التمسك بالديموقراطية وحقوق الانسان. ومثل هذا الأمر سيعدّ تحوّلاً كبيراً لا يقود فقط الى تغيير وجه تركيا... بل الى تغيير الأعماق!