فوز حزب العدالة والتنمية بقاعدته الإسلامية في الانتخابات البرلمانية في تركيا العلمانية جداً يجب ان يكون درساً تستفيد منه الأحزاب الإسلامية والمنظمات في العالم العربي إذا أرادت النجاح عبر صناديق الاقتراع. رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان كان تعلّم من تجربة نجم الدين اربكان الذي فاز برئاسة الوزارة وأسقطه الجيش، حامي جمهورية كمال أتاتورك من"أخطار"الإسلاميين، ومنعه من العمل السياسي. أردوغان من نوع الزعيم الإسلامي المتنور الذي تفتقر إليه الزعامات الإسلامية العربية، خصوصاً في المعارضة، فهي تعتمد على الشعارات، وأحياناً العنف، وتنظر الى الخلف، أو الماضي، بدل ان تعمل من اجل المستقبل، وتثير مخاوف خصومها وكأنها تحرضهم على مواجهتها. لعل الأحزاب الإسلامية العربية تعي هذه المرة درس حزب العدالة والتنمية، فهو جاء الى الحكم سنة 2002، ولم يكتف بالشعارات، وإنما بنى اقتصاداً متيناً استفاد منه جميع المواطنين، وعكس فوزه الثاني ثقة هؤلاء المواطنين بالحزب الحاكم، فقد ارتفعت الليرة التركية امام الدولار، وحققت البورصة مكاسب فورية. انتصار حزب العدالة والتنمية لا يقدر على حقيقته بالأرقام فقط مع انه حصد 340 مقعداً من أصل 550 مقعداً في البرلمان التركي، وزاد حصته من أصوات الناخبين الى 47 في المئة، مقابل 21 في المئة لحزب الشعب الجمهوري، حزب أتاتورك، و14 في المئة للحزب الوطني المتطرف. مع الأرقام، وفي أهمية ما سبق ان حزباً تركياً حاكماً زاد حصته في البرلمان للمرة الأولى خلال 50 سنة على ما أعتقد، وأن 80 في المئة من الأتراك شاركوا في الانتخابات، على رغم حر الصيف والإجازات، لأنهم قدّروا مدى ما أنجز الحزب للبلاد في السنوات الخمس الماضية. نتيجة الانتخابات ستجعل من الصعب على الجيش التدخل مباشرة ضد حكومة أردوغان، فزمن الانقلابات مضى، والأزمة التي انتهت بالانتخابات ربما يمكن اعادتها الى 27 نيسان ابريل عندما أصدر الجيش التركي بياناً نشره على موقعه الإلكتروني يبدي فيه تخوفه على مصير الجمهورية العلمانية بعد ترشيح حزب العدالة والتنمية وزير الخارجية عبدالله غول لمنصب رئيس الجمهورية. وبعد هذا الانقلاب"الإلكتروني"اشتدت حملة أحزاب المعارضة، وتبعتها المحكمة الدستورية، فكان ان دعا أردوغان الى انتخابات مبكرة اربعة اشهر عن موعدها، وغامر بمستقبل حزبه وفاز. بصراحة، أجد الاعتراض على غول رئيساً من نوع حقير، فأكثر ما تردد هو ان زوجته ترتدي حجاباً... يعني ان الديموقراطيين العلمانيين والجيش الحامي لا تتسع ديموقراطيتهم لحق امرأة في اختيار الحجاب او السفور. كنت رأيت رجب طيب اردوغان مع زوجته في اسطنبول، في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، وأذكر ان الزوجة كانت محجبة، كزوجة غول، ولم تصافح الرجال حتى عندما وقفت الى جانب زوجها ونحن نحدثه على هامش مؤتمر عن الإسلام والغرب. أردوغان طالب برفع القيود على ارتداء الحجاب في الأماكن العامة، وعين اسلاميين معروفين في مناصب عليا، وحاول جعل الزنا جريمة يعاقب عليها القانون، إلا انه رغم التزامه الإسلامي الواضح كان يعرف ان هناك خطوطاً ليس من الحكمة تجاوزها، وأنه يستطيع ان يكسب من ضمن النظام، لا بالخروج عليه كما فعل إسلاميون عرب كثيرون، وسحب ترشيح غول واحتكم الى الناخبين. وعندما فاز حزب العدالة والتنمية مرة ثانية نادرة في تركيا لم يفاخر اردوغان ويستفز، وإنما مد يده للمعارضة وطمأن العلمانيين بالقول ان حزبه يؤيد دولة ديموقراطية علمانية اجتماعية تحت حكم القانون. يفترض ان يختار البرلمان رئيساً خلال 30 يوماً من انتخابه، وحزب العدالة والتنمية لا يملك غالبية الثلثين في البرلمان، إلا انني اغامر اليوم وأقول ان أردوغان لن يتحدى المعارضة والجيش، وإنما سيسعى الى ترشيح بديل لغول من داخل حزبه لا تشن المعارضة حرباً عليه أو يفرض الجيش فيتو على انتخابه. كنت عندما فاز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأولى سنة 2002 قلت في هذه الزاوية ان الحكومة التركية الجديدة هي افضل حكومة تركية للعرب على مدى وعيي المهني. ولا أزال عند رأيي فحكومة أردوغان صديقة للعرب يمكن ان تصبح حليفة، وتسعى جهدها لإقامة افضل علاقات ممكنة مع العالم العربي، ويجب على الحكومات العربية ان تتعاون معها بما يعود بالخير على العرب والأتراك. وأعرف ان دولاً، مثل مصر والمملكة العربية السعودية وسورية، تسير في هذا الاتجاه. انتصار حزب العدالة والتنمية يضع الحزب أمام تحديات لعل أولها ان يثبت لقاعدته من الطبقة المتوسطة المتدينة المحافظة، وأكثرها من التجار ورجال الأعمال، ان ثقتها في الحكومة كانت في محلها. هذه الحكومة ستظل تتابع بنشاط انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي، إلا انني أجد ان الموضوع يراوح مكانه، مع معارضة حكومات يمين الوسط الأوروبية انضمام تركيا. وفي حين ان دخول تركيا الاتحاد سيحسن من أداء الاقتصاد أضعافاً، فإن الحكومة تستطيع المضي في بناء الاقتصاد قبل العضوية. ولعل التحدي الأكثر إلحاحاً هو إرهاب حزب العمال الكردستاني، ودعم أحزاب المعارضة الجيش في عمل عسكري ضده في شمال العراق، على رغم ما قد يجر مثل هذا العمل من مشاكل ليس أقلها توتر العلاقات مع الولاياتالمتحدة، الحليف التقليدي، وزيادة إرهاب الأكراد الانفصاليين داخل تركيا. غير ان رجب طيب أردوغان أثبت قدرة حكومته في السنوات الخمس الأخيرة على ممارسة اللعب السياسية بذكاء وضمن حدود الممكن، ولعل الأحزاب الإسلامية العربية تستفيد من تجربته.