الاشتباك السياسي بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الوزراء رفيق الحريري ليس الأول بينهما، ولن يكون بالتأكيد الأخير. فالرجلان اختلفا تكراراً في العهد الحالي، واختلفا في العهد السابق مرات مضاعفة ولم تكن تسوّى خلافاتهما ما بين 1993 و1998 الا بأحد حلين مصدرهما واحد: فإما يذهبان الى دمشق ويصالحهما نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام، او يأتي خدام الى بيروت لمصالحتهما، خصوصاً عندما يكون رئيس الجمهورية آنذاك الياس الهراوي طرفاً في الخلاف، بينه وبري وبينه والحريري. ولم تكن كذلك أسباب خلافات بري والحريري الا جزءاً من معادلة التوازن السياسي بين الرؤساء الثلاثة في التسعينات. اذ نادراً ما كان الرئيس الثالث على الحياد أي رئيس عندما يختلف الرئيسان الآخران، بل يكون طرفاً فيه. فكان يختلف الهراوي مع الحريري بتفاهم ضمني مع بري، ويختلف الحريري مع بري بتفاهم ضمني مع الهراوي، او يختلف الهراوي مع بري بتفاهم ضمني مع الحريري. أما فحوى هذه المعادلة، فهو ان يكون الرئيسان ضد الثالث. فيتدخل السوريون لإنقاذ العلاقة المتدهورة بين حلفائهم الثلاثة. وفي أي حال ينشأ هذا الخلاف بسبب المعادلة السياسية التي أرساها السوريون مذ تولوا تطبيق اتفاق الطائف بأن جعلوا الحكم والسلطة يقومان على الرجال الثلاثة تبعاً للمقتضيات الآتية: 1- اعتبار رئيس الجمهورية متقدماً على الرئيسين الآخرين، لكنه في الوقت نفسه أسير واقع العلاقة بين الرئيسين الآخرين. 2- اختصار مجلس النواب برئيسه ومجلس الوزراء برئيسه. 3- تعطيل قدرة مجلس النواب على محاسبة الحكومة واسقاطها أمامه، بحيث أضحت الحكومات المتعاقبة منذ تشرين الأول أكتوبر 1992 الى اليوم حكومات لا يستغنى عن كل منها في مرحلة حكمها الى ان تقرر دمشق ان الظروف مؤاتية وما لم يكن التغيير الحكومي ذا طبيعة دستورية بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وبعد انتخاب مجلس نيابي جديد. فأصبح رئيس الوزراء والوزراء ثوابت لا يمكن اسقاطهم بسبب تعذر محاسبتهم، كما بات ممنوعاً عليهم الاستقالة بذريعة ان الظروف الاقليمية لا تسمح بأي أزمة سياسية داخلية. ولذا فإن استمرار الحكومات كان دائماً بالقرار السوري لا بثقة مجلس النواب. 4- نشوء فكرة "ترويكا الحكم" التي تقضي بتفاهم الرؤساء الثلاثة في كل أمر يقتضي اتخاذه، ومع ان هذه "الترويكا" فقدت دورها المحسوس منذ الولاية الثانية للهراوي، الا انها في واقع الأمر ظلت تتحكم بمسار السلطة، فلم يكن في الامكان اتخاذ اي قرار بين الهراوي والحريري من غير مشاركة بري فيه حتى من غير الاجتماع به في اطار لقاءات "الترويكا" آنذاك. إلا ان أهمية كل ذلك كانت تنبع من حماية دمشق للعلاقة بين الرؤساء الثلاثة ورعايتها على نحو كان يدفع بالمسؤولين السوريين، السياسيين والعسكريين، الى التدخل فوراً عند كل خلاف ينشأ بينهم. وبسبب هذا الاحتكام الذي يستعيد من خلاله كل منهم ما يعتبره انتقاصاً لموقعه كانت تتفاقم الخلافات الداخلية مقدار تفاقم التدخل السوري وتزايده في اللعبة المحلية. فيتغذى هذا من تلك. لكن الأمر في العهد الحالي بدا مغايراً. على الأقل في سنتيه الأوليين عندما قررت دمشق منذ تسلم الرئيس إميل لحود سلطاته الدستورية القاعدتين الآتيتين: - رئيس الجمهورية ليس طرفاً في أي نزاع داخلي، وهو المرجع الذي يحتكم اليه الأفرقاء جميعاً. - لن تتدخل دمشق في أي نزاع محلي ينشأ بين المسؤولين اللبنانيين، وتترك لرئيس الجمهورية بتّه. درجت هاتان القاعدتان في السنتين الأولين من العهد، فطلب السوريون من الرئيس رفيق الحريري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط - وكانا في موقع المعارضة - عدم قطع صلة الاتصال برئيس الجمهورية والاجتماع به حتى في أسوأ وجوه العلاقة بينهما، وعلى تحييده عن لعبة الموالاة والمعارضة وحصر المواجهة بحكومة الرئيس سليم الحص، فيما كان بري في علاقة تعاون وثيقة مع لحود. في تلك الفترة لم يتدخل السوريون على رغم وطأة الصراع السياسي، وبعد كل حملة معارضة شرسة كان الحريري وجنبلاط يزوران لحود. غير ان الأوضاع سرعان ما انقلبت رأساً على عقب بعد الانتخابات النيابية عام 2000، فعاد الحريري الى رئاسة الحكومة وتمثل جنبلاط بثلاثة وزراء بعد انتصارهما الكبير في تلك الانتخابات. وبمقدار ما بدا التعايش صعباً بين لحود والحريري اللذين أجبرا على التعاون في ما بينهما كانت علاقة رئيس المجلس تحافظ على استقرارها مع رئيس الجمهورية من غير ان يخلو الأمر من مآخذ تتصل بتعثر الاصلاح الاداري وفشل الملاحقات القضائية التي لاحقت بعض رموز العهد السابق واخفاق حكومة الحص في ايجاد المعالجات اللازمة للأزمة الاقتصادية والاجتماعية. الا ان القاسم المشترك الذي كان يجمع الرؤساء الثلاثة هو تفاهمهم على السياسة الخارجية في الصراع مع اسرائيل قبل تحرير الجنوب في أيار مايو 2000 ثم بعده. وهو خيار كان حتمياً بسبب صلته المباشرة برعاية دمشق للسياسة الخارجية للبنان كجزء من السياسة الخارجية لسورية. كذلك كان الرؤساء الثلاثة متفقين على مواجهة اي انتقاد يوجه الى وجود الجيش السوري في لبنان ومعارضة كل مطالبة بإعادة انتشاره في الوقت الحاضر. والواقع ان هذه المرتكزات للاستقرار الداخلي، في البلد وبين الرؤساء الثلاثة، خصوصاً في ما يتعلق بعدم التعرض للعلاقات اللبنانية - السورية ولوجود الجيش السوري في لبنان، وفي ما يتعلق بفرض الأمن الداخلي ومواجهة المعارضة، لم تكن تحجب أسباباً وفيرة للخلاف بين لحود وبري والحريري، سواء بين رئيس الجمهورية ورئيس المجلس او بين رئيس المجلس ورئيس الوزراء، او بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في كل الملفات اللبنانية الداخلية تقريباً. الا ان الثابتة الوحيدة في هذه الخلافات ان سورية لم تستعد دور الوسيط الذي كانت عليه في عهد الهراوي، ولم تُقدم في أي من مرات خلافاتهم على مصالحتهم. وغالباً ما اكتفى رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في القوات السورية العاملة في لبنان اللواء الركن غازي كنعان بالاتصال بهم وتأكيده باسم القيادة السورية ضرورة التفاهم والاتفاق في ما بينهم وتجنيب الوضع المحلي أي هزة. فتطوى المسألة عند هذا الحد، من دون الحاجة الى وسيط سوري يصالح الثلاثة او اثنين منهم على الأقل. ولعل سجل خلافات الرؤساء الثلاثة في السنة الثالثة من العهد، أي سنة 2001، يكشف عمق التناقضات حيال الملفات الداخلية. فلحود وبري اختلفا مع الحريري على موقفه من المقاومة في مزارع شبعا ودعوته الضمنية الى تجميد الهجمات العسكرية على هذه الجبهة، ولحود والحريري اختلفا مع بري على التعديلات التي أدخلت على قانون أصول المحاكمات الجزائية، ولحود والحريري اختلفا على دور الأجهزة الأمنية، ولحود وبري اختلفا مع الحريري على سياسته الاقتصادية ونتائج تحركاته الخارجية لدعم الاقتصاد اللبناني والتي أبقى مضمونها بالنسبة اليهما غامضاً ومشوشاً، ولحود والحريري اختلفا على قمع تظاهرات المعارضين "التيار العوني" و"القوات اللبنانية" وطالب رئيس الوزراء ونواب كتلته تكراراً تحديد المسؤولية عن قمعهم والتعرض بالضرب لهم، ولحود وبري اختلفا عندما قاد رئيس المجلس مبادرة شخصية حيال مطالبة بطريرك الموارنة نصر الله بطرس صفير بإعادة انتشار الجيش السوري في لبنان واطلاق المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، والسلسلة طويلة أيضاً. وفي كل من هذه الخلافات كانت أزماتهم تُسوّى من تلقائهم من دون اي تدخّل سوري، على النحو الذي يحمل مسؤولاً لبنانياً رفيعاً على التأكيد ل"الوسط" ان سورية أسقطت دورها الوسيط بينهم من غير ان يمنعها ذلك من تأكيد آخر لأمرين مهمين بالنسبة اليها: أولهما: ضرورة الا يُساء فهم مواقفها المؤيدة للرؤساء الثلاثة واعتبارهم حلفاء أساسيين لها. وعدم اساءة فهم موقفها ينبغي الا يترجم بأزمات داخلية او خلافات، مع اصرارها على انها تضع رئيس الجمهورية في منزلة تتقدم الرئيسين الآخرين اللذين يتعين ان يحتكما اليه. وتالياً - أياً تكن اعتبارات الخلافات هذه - فإن دمشق لا تزال تمحض لحود دعماً مطلقاً وتقف الى جانب خياراته السياسية وقراراته. ثانيهما - ان استمرار سورية في توجيه النصيحة الى المسؤولين اللبنانيين بعدم الاختلاف أياً يكن السبب مصدره انشغالها بالاستحقاق الاقليمي والدولي وبتطورات ما يحصل في الأراضي الفلسطينية والمواجهة مع اسرائيل التي توجب ضمان الاستقرار الأمني والسياسي اللبناني وعدم اضعاف موقف سورية في هذه المواجهة التي باتت تتأثر بمقدار أكبر من التحديات بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر والحملة الأميركية لمكافحة الارهاب. مع ذلك اتسمت المواجهة الأخيرة بين بري والحريري بسجال ربما يعرفه الرجلان للمرة الأولى في عهد لحود، لكنه ليس جديداً عليهما في عهد الهراوي من فرط خلافاتهما، فيما يظهر رئيس الجمهورية في الوقت الحاضر حياداً واضحاً حيال هذه الخلافات مع تأكيده ضرورة الانتباه الى خطورة الوضع الاقتصادي. وهي مواجهة ستتجه في أي حال الى مصالحة بين الرجلين مع ان الخلاف الفعلي بينهما لا يزال غامضاً تماماً: هل هو التعيينات الادارية التي حصد فيها الحريري حصة كبيرة عوّضت له ما كان خسره في السنتين الأوليين من العهد عندما أُبعد أنصار له عن المراكز الأساسية في الادارة؟ ام ان الخلاف على مسألة بالغة الدقة وخارج قدرة لبنان في السيطرة عليها وهي انعقاد القمة العربية المقبلة في بيروت في شهر آذار مارس تطبيقاً للقمة العربية الأخيرة قبل أشهر في عمان عندما اختارت العاصمة اللبنانية مقر دورتها الجديدة؟ اذ بمقدار ما يكون في وسع الرؤساء اللبنانيين تذليل أي تباعد يتصل بتقاسم الحصص والوظائف الادارية، فإن أي خلاف على مكان انعقاد القمة يعرّض سمعة لبنان العربية والدولية لاهتزاز في صدقيتها عندما يتحول حدث عربي مهم كهذا - وهو في أي حال ليس ملفاً داخلياً برسم التجاذب - سبباً لنزاعات محلية. الواضح ان المعلومات المتضاربة عن دوافع خلاف رئيسي المجلس والحكومة تشير الى اكثر من سبب: فبري يعزوه الى امتعاضه من التعيينات الادارية وخروج الحريري عن الآلية التي قررها مجلس الوزراء لهذه التعيينات بغية استهداف الموظفين القريبين منه، وأوساط الحريري تتحدث عن سبب آخر هو رغبة بري في تأجيل انعقاد القمة تفادياً لمشاركة الزعيم الليبي معمر القذافي فيها نتيجة مسؤوليته عن اختفاء الإمام موسى الصدر في ليبيا منذ أواخر آب أغسطس 1978. فيما رئيس المجلس يورد أسباباً مختلفة لمطالبته بالتأجيل، منها فقدان التضامن العربي حيال دعم المقاومة في جنوبلبنان والانتفاضة في الأراضي الفلسطينية. وبمعزل عن هذه الأسباب يتشبث رئيسا الجمهورية والحكومة بانعقاد القمة العربية بعدما ترك تأجيل القمة الفرانكوفونية لأسباب تتعلق بأحداث 11 أيلول أصداء سلبية على هذا البلد لا يتحمل وزرها، بينما لم تقل سورية حتى اليوم على الأقل كلمتها حيال القمة العربية على وفرة مخاوفها من نتائج تصدر عنها تكون مطابقة لنتائج اجتماع وزراء الخارجية العرب أخيراً. ولعل استمرار الصمت السوري حيال هذه المسألة يبقي حدة السجال السياسي الداخلي في لبنان ما دام يترك الكلام على القمة العربية مفتوحاً ولا يدفع بالمسؤولين الى الموقف الذي تريده - او لا تريده - دمشق من هذه القمة