يبدو مشهد الأعياد الدينية في بيروت مثيراً للدهشة بالنسبة إلى زوار المدينة العرب والأجانب. فقد شاءت الصدف أن يأتي عيد الفطر المبارك متقارباً بفارق ثلاثة أيام مع عيد الميلاد المجيد، وأن يأتي العيدان بفارق أيام معدودة مع رأس السنة الميلادية، الأمر الذي حول العاصمة اللبنانية المنهكة بفعل آثار حروبها الطويلة والصراع العربي - الإسرائيلي، عاصمة لفرح حقيقي وإن مؤقتاً. والدهشة ارتسمت على وجوه أكثر من مثقف ورجل سياسي عربي ممن شاركوا في مؤتمر دعم الانتفاضة والمقاومة في الأسبوع ما قبل الأخير من العام الماضي. ففي جولة قصيرة مع سياسي جزائري في الأسواق التجارية، أبدى اعجابه بمجاورة مسجد لكنيسة في ساحة البرج حيث الحائط ملاصق للحائط، وأثارت انتباهه شجرة الميلاد العملاقة في ساحة الشهداء، فيما كان يراقب قبل دقائق زينة عيد الفطر في أحد الأحياء الإسلامية المجاورة، وفيما تتصاعد أصوات خطباء الجمعة من مساجد محمد الأمين والعمري الكبير وأبو بكر الصديق. قال السياسي الجزائري، الذي تعيش بلاده حرباً أهلية دموية يحتل الدين حيزاً مهماً فيها، إنه يعجب للتعايش الهادئ والسلمي بين الأديان اللبنانية، وان عجبه يزداد لاندلاع الحرب في لبنان على رغم هذا التعايش. وتساءل عن السبب الذي أدى إلى الحؤول دون سيطرة السلم الأهلي على نوازع الحرب عند اللبنانيين. وخلال جولة أخرى مع سياسيين من الأردن انتهت في إحدى المقاهي البيروتية، طفق أحدهما يروي ذكرياته عندما كان طالباً في الجامعة الأميركية، مستشهداً بنكات ونوادر لفظها باللهجة البيروتية. ولاحظ زميله الفارق الكبير بين بيروت الحرب التي زارها في سنوات سابقة وبيروت الصاعدة مجدداً والتي تستقبل منفردة بين عواصم العرب المؤتمر الوحيد لدعم الانتفاضة الفلسطينية بمشاركة أكثر من 250 مثقفاً وسياسياً ونقابياً وكاتباً عربياً. ولم يخف اعجابه باللبنانيين الذين يحتفلون بكل الأعياد، سواء كانت أعيادهم الخاصة بطوائفهم أو أعياد غيرهم. وخلال حديث آخر كان مثقف عراقي يسأل سياسياً لبنانياً عن مدى احتفاظ ابناء بيروت بأركان مدينتهم وعن مدى تأثير البيارتة في صيانة التعايش السلمي بين الطوائف والأديان، فرد السياسي ان بيروت هي العاصمة لكل لبنان وبالتالي لا يمكنها أن تتصرف وكأنها مدينة خاصة بالبيارتة أنفسهم ولوحدهم، لكنه أكد الدور الذي لعبه ويلعبه البيارتة الاصليون في التعايش السلمي داخل العاصمة، واعتبر انه لو ترك الأمر لهم لوحدهم لكانت مسارات كثيرة قد تغيرت في سنوات ما قبل الحرب وخلالها. وفي جولة في إحدى المكتبات الكبرى في العاصمة، كان مثقف مغربي يشتري كتباً بالعربية لا يجدها عادة في بلاده، وينظر إلى عناوين الصحف والمجلات المختلفة ويعلق بالقول إن هذا مصدر كبير من مصادر قوة اللبنانيين، ثم يؤكد أنه تعوّد أن يحمل معه في كل مرة يزور بيروت قدراً كبيراً من الكتب والمطبوعات يفوق الوزن المسموح في الطائرة، وأنه يتمنى أن تصل الأمور في بلاده إلى المستوى اللبناني في مجال النشر والتعبير. وفي أوقات الراحة الفاصلة بين جلسات المؤتمر وفي السهرات، كان المشاركون العرب ينتشرون في مطاعم المدينة ومقاهيها المختلفة غير عابئين بموجة البرد التي اجتاحت لبنان في الأسابيع الأخيرة من العام الماضي، وكانت انطباعاتهم خالية من التبرم من انخفاض درجات الحرارة، فهم على ما يقول أحدهم يعيشون في بلدان صحراوية المناخ ويشعرون بألفة مع المناخ اللبناني الماطر والبارد، خصوصاً أنهم يقطعون مع رتابة المناخ القاري في بلدانهم. وإذا كان الفضول والدهشة من العلائم البارزة التي يلحظها المرء في أحاديث وتأملات العرب المشاركين في المؤتمر المذكور، وربما غيرهم من الزائرين أو الذين يقضون عطل نهاية العام في لبنان، وإذا كانت أحوال المناخ والتعايش الطائفي السلمي ومظاهر إعادة البناء التي تلوح في العاصمة، وإذا كانت كلها تثير فضول هؤلاء الاشقاء، فإن حديث التعقيدات السياسية اللبنانية يصيبهم بالدوار، خصوصاً أولئك الذين يزورون البلاد للمرة الأولى أو الذين تعودوا بساطة التقسيمات السياسية في بلدانهم، غير أنهم يلتقون جميعاً في التعبير عن الاعجاب بالمهارة اللبنانية في المجالات الاجتماعية والاقتصادية، كما في المطبخ اللبناني ومظاهر العيش الأخرى. ولعل ضيق الزائرين بالتعقيدات السياسية اللبنانية، لا يفصح عن بساطة العلاقات السياسية اللبنانية - اللبنانية، لكنه يعكس أيضاً تعود العرب العاملين في السياسة على الاطمئنان لبعض الثوابت السياسية والدفاع عنها بقوة كما لاحت مناسبة أو اقتضت ظروف معينة اتخاذ موقف أو دعم قضية مركزية كالقضية الفلسطينية وقضية المقاومة اللبنانية للاحتلال الإسرائيلي. وهذا الاطمئنان لا تخطئه العين في البيان الختامي الصادر عن مؤتمر دعم الانتفاضة والمقاومة، حيث أكد المؤتمرون "حق الأمة العربية في مقاومة أعدائها الصهاينة العنصريين والاستيطانيين الغاصبين"، وحملوا على "الإرهاب الذي تمارسه الإدارة الأميركية ومعها الإدارة الصهيونية وتحوله إلى سلاح لاستباحة العالم" وانتقدوا "... تواطؤ بعض الأنظمة مع العدو لوقف الانتفاضة"... وتوقفوا عند "النكسة الناجمة عن التحاق الاتحاد الأوروبي بالموقف الأميركي وتأثيره على العلاقات العربية - الأوروبية". ودعوا "القوى المحبة للحرية والعدل في أوروبا لممارسة أعلى درجات الضغوط لاستعادة الحد الأدنى من التوازن إلى موقف حكوماتها"، ودانوا "الحرب الظالمة" على أفغانستان ورفضوا الحصار المفروض على العراق وليبيا وتعريف أميركا للإرهاب، ودعوا لعقد مؤتمر دولي من أجل تحديد مفهوم للإرهاب باشراف الأممالمتحدة"، وإلى تنظيم مسيرات شعبية ومهرجانات وندوات ولقاءات وحملات تبرع لدعم الانتفاضة والمقاومة اللبنانية، وإلى مقاطعة البضائع الاميركية والبريطانية. والى اقرار يوم غضب عربي وتشكيل لجنة متابعة لمواصلة تنفيذ القرارات المعلنة. وكان المؤتمرون قد استمعوا في الجلسة الافتتاحية الى كلمات ممثلين ل"حزب الله" و"حماس" و"الجهاد" والفصائل الفلسطينية الأخرى ألقاها حسن نصرالله وخالد مشعل وآخرون شددت كلها على ضرورة مواصلة الانتفاضة والمقاومة. الأمر الذي ترك تأثيراً ملحوظاً على البيان الختامي، غير ان التطورات اللاحقة لم تذهب بالاتجاه الذي أراده المؤتمرون، فقد أعلنت الفصائل الفلسطينية والسلطة الوطنية وقف اطلاق النار واتخذت التطورات السياسية مساراً آخر لا يتناسب مع توجه المؤتمرين الذي يحظى بتعاطف سوري وايراني. والراجح ان مؤتمر بيروت لم يكن مصمماً لكي يحدث تغييرات جذرية في معطيات الصراع العربي - الاسرائيلي، ولعل الغاية الأساسية من انعقاده ربما تكمن في سعي ممثلي المقاومة والانتفاضة الى كسر الصمت الذي ساد العالم العربي خلال الأسابيع الأخيرة من العام الماضي، وقد أدى الغرض المطلوب بحسب المشرفين على انعقاده. ومما لا شك فيه ان قرارات مؤتمر بيروت قد لا تختلف جوهرياً عن قرارات سابقة صدرت عن مؤتمرات مماثلة شهدتها العاصمة اللبنانية أو عواصم عربية اخرى، ما يعني ان انعقاد المؤتمر كان الرهان الأبرز وليس المقررات بحد ذاتها. واذا كانت التعقيدات السياسية اللبنانية، التي لا تخلو من غنى في أوقات السلم، لا توحي للمشاركين في مؤتمر بيروت بضرورة تعديل اللغة السياسية التي ميزت مداولاتهم ولا تحفز على احداث تغيير جوهري في الخطاب السياسي المؤيد للمقاومة والانتفاضة، فإن تفسير ذلك يكمن في انشداد النخب السياسية العربية نحو الثوابت في الصراع العربي - الاسرائيلي واهمال التفاصيل، ما يعني ان اشتداد النزاع مرشح مرة اخرى لاستدراج لغة مشابهة وقرارات مشابهة وهو أمر لا يثير حفيظة المشرفين على هذه التظاهرة والذين يرون ان المشكلة تكمن في عدم تغير اصول الصراع مع اسرائيل وان ثوابت الصراع هي التي تستدعي التمسك بالمبادئ العربية الاساسية وتكرار ذلك في كل مناسبة. وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع هذا التوصيف فإن مؤتمر بيروت لدعم الانتفاضة والمقاومة، ينطوي على برهان اضافي على حيوية العاصمة اللبنانية وتفردها في استقبال التظاهرات السياسية والثقافية والنضالية في الوقت الذي يتعذر فيه انعقاد مثيل لها في عاصمة عربية اخرى، وفي ذلك يعبر اللبنانيون عن اخلاص ملحوظ لتراثهم الذي يتيح للعرب وربما لغيرهم التعبير عما يرغبون في قوله والاعلان عنه من دون حق ومن دون تحفظ. هكذا كانت بيروت عشية العام المنصرم مدينة ناهضة، لكنها تعاني من صعوبات اقتصادية كبيرة، ومدينة تعايش سلمي بين الأديان، لكنها لم تطو كل صفحات الماضي المؤلم، ومدينة تعشق السهر حتى الصباح، وينشغل ساستها بأشيائهم الصغيرة، لكنهم يجمعون على لعب دور اساسي في مقاومة اسرائيل وانهاء احتلالها لما تبقى من الأراضي اللبنانية. وأخيراً عاصمة تستقبل المؤتمر الأول في حجمه لدعم الانتفاضة، وتستعد لاستقبال القمة العربية المقبلة والقمة الفرنكوفونية المؤجلة من العام الماضي... الخ. وأغلب الظن ان الوجوه المختلفة التي ترتديها بيروت بما يتناسب مع ادوارها وعلاقاتها المتشعبة، فتبدو مرة، مدينة مقاومة، ومرة اخرى، مثالاً للتعايش السلمي، وثالثة، منبراً لثقافات متصارعة، ورابعة، مقراً للدعوات العروبية، وخامسة منبراً للدعوات المحافظة والانطوائية، كل هذه الوجوه قد تجتمع في الآن معاً، كما بدت في بيروت نهاية العام الماضي، وهي التي تمنح هذه المدينة فرادتها في عالم أصبحت الفرادة فيه... عملة نادرة