اعتبر أكاديميون في صنعاء أن حادث تفجير المدمرة الأميركية "كول" في 10 تشرين الاول اكتوبر الماضي، دشن في اليمن مرحلة جديدة يمكن ان يطلق عليها مرحلة "صراع التيارات الدينية". ومع صحة هذا الرأي إلى حدٍ ما، فإن آخرين يعتبرون حادثة المدمرة "كول" نتيجة تراكمات سابقة أكثر من كونها بداية. وإن البداية تمثلت في حادث خطف السياح الأجانب ال16 في كانون الاول ديسمبر 1998، لأنه أول حادث بحجمه يقوم به تنظيم إسلامي هو "جيش عدن _ أبين الإسلامي" بقيادة زعيمه أبو الحسن المحضار زين العابدين أبوبكر المحضار من ناحية، ولأنه من الناحية الاخرى وطبقاً لزعيم التنظيم وزملائه اثناء محاكمتهم، استهدف السياح الأجانب في نطاق سياق "واجب الجهاد ضد إسرائيل والدول المساندة لها وفي مقدمها الولاياتالمتحدة". ولأنه من ناحية ثالثة هز الدولة اليمنية بقوة غير مسبوقة في حوادث مماثلة، وشد اهتمامها بهذه الجماعة ورأيها في "وجوب الجهاد" وما يمكن أن ينجم عن ذلك بالنسبة الى الجماعات الاخرى في الداخل، وبالنسبة الى علاقات اليمن بالولاياتالمتحدة خصوصاً، وبالدول الغربية "المانحة" عموماً. ومن ثم حوكم المحضار ومجموعته ودينوا وتم للمرة الأولى في محاكمات حوادث الخطف، تنفيذ الحكم بإعدام المحضار والعقوبات بحق زملائه في قيادة الحركة. بعد قضية المحضار بدأت مرحلة "صراع بين التيارات الدينية" على أكثر من صعيد، اهمها جانب علاقة السلطة بتلك الجماعات، وحرصها على التعامل مع قيادات وعناصر التيارات بكثير من الهدوء والموضوعية تجنباً لأي صدامات معها تعرف الدولة سلفا أنها جبهة تتسع أخطارها وتصعب السيطرة عليها وستكون حرباً عبثية لا مبرر لها وخياراً لا يؤدي الى حل سوى تكرار ما حدث ويحدث في أقطار عربية اخرى. من ثم بدأت السلطة مراقبة هذه الجماعات، ومحاولة استيعابها ضمن أجهزة ومؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والحزبية ودعم أجهزة الأمن لملاحقة وضبط الناشطين منهم في اعمال التفجيرات والحوادث الأمنية وتقديمهم إلى القضاء. وحققت خطة الدولة اليمنية نجاحا كبيرا في استيعاب كثير منهم، ومحاكمة آخرين في إطار محاكمات الدفعتين الثانية والثالثة تجري محاكمة أفرادها حاليا من "جيش عدن _ أبين الإسلامي". وبين هؤلاء في المقام الاول المتهمون بتفجير المدمرة الاميركية الذين يجري الاعداد لمحاكمتهم والمتهمون بتفجير السفارة البريطانية الذين صدرت الاحكام بإدانتهم في 23 تموز يوليو الماضي، والمتهمون بتفجيرات عدن ليلة رأس السنة الميلادية 2000. صحائف الاتهام في الوقت نفسه استمر كثير من المنتمين إلى هذه التيارات في نشاطهم المضاد. ويلفت في محاكمات هذه المجموعات أن صحائف الإتهام التي تقدمها النيابة العامة إلى المحاكم يتكرر في كل منها توجيه التهمة إلى المجموعة، ب"تشكيل عصابات مسلحة محظورة وحيازة أسلحة بصفة غير مشروعة". ومع كل هذا ظل الغموض يحيط بهذه التيارات، خصوصاً ما يتعلق بالعلاقات بين بعضها واسماء تنظيماتها التي يظهر بعضها ويختفي، وتظهر اسماء اخرى وتتغير، باستثناء قلة منها بقيت على شيء من الثبات ابرزها تنظيم "الجهاد" و"جيش عدن ابين الاسلامي". وكذلك ما يتعلق بقيادات الجماعة و زعاماتها، فضلا عن الأسس والأهداف لكل تيار أو جماعة. إلا أن الفكر السلفي والسلفيين هم بصفة عامة القاعدة أو الأرضية العامة لكل هذه الجماعات. إذ ان الإتجاه نحو تسييس الأفكار والأهداف يمثل المنطلق الأساسي لكل جماعة تشذ عن هذه القاعدة. وذلك لأن فكر السلفيين يقوم في الدرجة الأولى على أسس أبرزها الإنشغال بالفقه الإسلامي، ورفض السياسة والسياسيين، وتكفير أو "تبديع" الأنظمة الحاكمة والقوانين الوضعية، وتحريم الحزبية والديموقراطية بكل أشكالها ومكوناتها والإنصراف عن السعي لتولي السلطة" حسبما هو معروف من مجموع منشورات السلفيين والآراء والكتابات عنهم . وما يجدر تأكيده طبقاً لباحثين ومراقبين تحدثت اليهم "الوسط"، أن الدولة نجحت إلى حد ما في استيعاب ومحاكمة مجموعات من الناشطين في التيارات المختلفة المتركزة في المحافظاتالجنوبية أبين ولحج وعدن وشبوة وإب وتعز، لكنها أخفقت في استيعاب العدد الأكبر منها، بل في جمع المعلومات عن تلك التيارات. تحول جديد لقد كشف تفجير المدمرة الأميركية كثيراً من الحقائق منها ان المسؤولين في صنعاء لم يكونوا على إطلاع كامل بواقع تلك الجماعات بدليل أنهم سارعوا عقب الحادث للتأكيد إلى حد الجزم، أن الحادث ليس يمنياً سواء في الإعداد او التنفيذ أو عناصرهما أو الوسائل المستخدمة. ثم اضطروا للإعتراف بالعكس! ومع هذا فان الاهم هنا هو ما طرحته هذه الفترة من تطورات قال متحدثون مراقبون ل"الوسط" انها تمثل في مجموعها تحولاً جديداً على صعيد التيارات الاسلامية. وامكن رصدها في المعطيات التي تشير الى ان واشنطن التي ظل مسؤولوها ومبعوثوها الى صنعاء قبل تفجير المدمرة "كول" يحذرون المسؤولين اليمنيين من اتساع نشاط "التيارات الاصولية" حسب المصطلح الاميركي، اضحى مسؤولوها ومبعوثوها بعد الحادث يطالبون القادة في صنعاء بتوسيع مساحة التحريات وسط "الاصوليين" وتوسيع اجراءات الضبط وقوائم المشتبه بهم، واعطاء فرقها المتحرية الفرصة للعمل المباشر. وعلى رغم لجوء واشنطن الى فرض الضغوط على صنعاء الا ان القيادة السياسية في اليمن تمسكت بتحفظها على تلك المطالب، ما ادى اكثر من مرة الى خلاف وصل احياناً درجة التوتر. تسهيلات لأميركا واكدت مصادر يمنية واجنبية ان الاميركيين حاولوا من دون جدوى الحصول على تسهيلات عسكرية مرة بدعوى ملابسات حادث المدمرة وتأمين المصالح الاميركية في اليمن والاسهام في تأمين الملاحة الدولية في جنوبالبحر الاحمر وباب المندب وخليج عدن. وتتحدث اوساط سياسية عن ان اخفاق الاميركيين في الحصول على تسهيلات على السواحل الشرقية للبحر الأحمر دفعهم إلى تكرار المحاولة على الشاطئ الغربي حيث لقي طلب الجنرال توني فرانك قائد القوات المركزية الأميركية في المنطقة، إستجابة مبدئية من جانب المسؤولين الأرتيريين لإقامة محطة تسهيلات عسكرية اميركية على ساحل البحر الأحمر قرب مينائي عصب ومصوع . وأثار ذلك على رغم غياب التفاصيل، المسؤولين اليمنيين إلى حد الإستفزاز. وجاءت رسالة الرئيس علي عبد الله صالح مع مبعوثه الخاص وزير الشؤون القانونية عبدالله غانم إلى الرئيس الاريتري أسياس أفورقي في هذا الإطار. وذهبت مصادر في صنعاء إلى أن الإستجابة الأرتيرية بدأت تظهر بوادر توتر في العلاقات اليمنية الأرتيرية. ومن ناحية اخرى زاد الخلاف الحاد بين حزب المؤتمر الذي يتزعمه الرئيس صالح وحزب الإصلاح برئاسة الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر رئيس مجلس النواب. وكان الخلاف بدأ اصلاً منذ الإنتخابات المحلية في شباط فبراير الماضي ومازال يزداد حدة عقب قرار الحكومة إلغاء المعاهد العلمية. وتفاقم بدرجة غير مسبوقة. خصوصاً انه تضمن ضم المعاهد العلمية، التي ظلت منذ نشوئها في السبعينات تابعة لحزب الإصلاح بشكل غير مباشر لكن الحكومة تتحمل عبء موازنتها المستقلة إلى التعليم العام . وانتشرت المعاهد خلال ربع القرن الماضى في المدن والمحافظات اليمنية وبلغ عددها بحسب الإحصاء الرسمي 1353 معهدا إضافة إلى مدارس تحفيظ القرآن ورياض الأطفال البالغ عددها 1667. ووصل عدد الطلاب في المعاهد الى 437 ألفا و 681 طالبا وطالبة، ويعمل فيها من الإداريين والمدرسين 49 ألفا و978 شخصاً. تنفق الدولة عليها سنويا 14 مليار ريال حسب الموازنة الأخيرة . والمهم في القرار أنه مثّل توجها عاما لدى السلطة نحو ما وصف بانه "انقلاب" على حزب الاصلاح عبر سلسلة من الإجراءات والقرارات بدءاً بإلغاء المعاهد. وتعتبر المعاهد اكبر معاقل حزب الإصلاح اتساعا وقوة وثباتا ورفدا له بالعناصر والكوادر المنظمة. وعلى رغم إعداد الحكومة آلية لإستيعاب العاملين والطلاب في المعاهد فإن أعداداً كبيرة من الطلاب من غير اليمنيين الذين ليست لديهم، طبقاً لمسؤول يمني اتصلت به "الوسط"، وثائق اقامة قانونية، ومن ثم فإنهم من الآن فصاعداً معرضون لاجراءات وحملات تفتيش وابعاد. البحث عن دور على صعيد آخر اعتبر مراقبون وسياسيون في صنعاء ما تردد عن الإعداد لحزب إسلامي جديد هو "حزب الدعوة"، بادرة ومؤشرا جديدا في إطار التحول العام على ساحة التيارات الإسلامية، خصوصاً أنه يأتي في وقت توقف فيه ظهور أحزاب جديدة في اليمن، وفي فترة بلغ الخلاف خلالها بين الحزبين الكبيرين الحليفين سابقا المؤتمر والإصلاح ذروته، إضافة إلى أن الأحزاب الإسلامية المعترف بها رسميا، أخفق بعضها وظل بعضها الآخر متعثراً، بينما حقق حزب الإصلاح الذي يضم معظم قيادات وكوادر "الأخوان المسلمين"، وما يزيد على نصف مليون عضو، نجاحاً قياسياً على الساحة اليمنية، واصبح اكثر الاحزاب انتشاراً واعضاءً ودقةً في التنظيم. وانقسمت الآراء والتوقعات بصفة عامة الى اتجاهين، احدهما يعتبر الاعداد لهذا الحزب"، مشروع خطوة جديدة تستهدف شق حزب الاصلاح كما حدث لأحزاب اخرى اختلفت مع الحزب الحاكم في فترات سابقة". ويذهب اصحاب الاتجاه الاخر الى ان الغرض الرئيسي من إعلان الحزب الذي يجري الإعداد له في دوائر مغلقة، "تأطير مجاميع السلفيين المتجهين نحو الإعتدال كما ظهر في الفترة الاخيرة". وأشارت المصادر إلى ثلاث شرائح يتوقع أن تكون في مقدم المؤسسين لهذا الحزب والمنضمين إليه، ابرزها شريحة المهتمين بالسياسة ضمن المنهج الاسلامي من الفقهاء التقليديين والمنفصلين عن تنظيم "الاخوان" ومجموعات من التيارات الإسلاميةالمعروفة بالاصولية التي تفرقت في الفترات الأخيرة عن قياداتها كما يقول الدكتور فارس السقاف رئيس "مركز دراسات المستقبل". ومع ان المصادر استبعدت ان يكون هدف المشروع شق حزب الاصلاح الا انها رجحت ان يكون الحزب الجديد تجمعاً مناقضاً له. والتقت ردود عدد من قادة الحزبين الكبيرين ممن سألتهم "الوسط" في تأكيد عدم امتلاكهم معلومات عن هذا الحزب المزعوم، وانهم لا يستطيعون توقع قيامه أو استبعاد ذلك في الوقت الراهن حتى تتوفر المعلومات، حسب ما قاله الامين العام المساعد لحزب الاصلاح عبدالوهاب الانسي. "الوادعية" بعد مقبل ومن جانب آخر، يعتمد استقراء هذا التحول على صعيد الجماعات والتيارات السلفية من خلال ملامحه العامة، بدرجة أساسية على ما شهدته وتشهده الساحة السلفية في اليمن خلال العامين الماضيين من متغيرات سلبية متلاحقة مثلت في مجملها "انفراطا أو بداية انفراط في عقد السلفيين" على حد تعبير أستاذ الفقه المقارن في جامعة صنعاء الدكتور عبد الرحمن الضحياني. واشار الى ترجيحه بداية الانفراط او العد التنازلي، وعلل ذلك باسباب منها، انغلاق السلفييين وتشددهم وانطواؤهم على انفسهم على مستوى جماعاتهم و مدارسهم و قياداتهم. وهذا التشدد أدى إلى عزل هذه الجماعات عن مجتمعها نتيجة تناقضها مع الفئات الأخرى، وإلى انفضاض أتباعها عنها، ومن ثم اتساع الخلافات بينها، فضلاً عما انعكس عليها من آثار موقف الدولة السلبي منها يوما بعد آخر ، وآثار تراكمات السنوات العشر الماضية نتيجة الأحداث الأمنية وما ترتب عنها في اتجاه هذه الجماعات من تهم بالتطرف والتخريب وملاحقة أجهزة الأمن لكثير منها ومن تحقيقات ومحاكمات وأحكام، فضلا عما تكرره أجهزة الإعلام والصحافة من آراء وكتابات ضدها وما يتداوله عامة الناس من أحاديث أدت في مجموعها إلى تعميق مفهومات وتكوين صور للسلفيين وجماعاتهم تتنافر مع ما حولها، إلى جانب ما رافق هذا الواقع ونتج عنه وساعد في اتساعه من غياب أبرز القيادات السلفية عن الساحة. وكانت وفاة الشيخ مقبل بن هادي الوادعي، في 21 تموز الماضي، حدثا اعتبره مراقبون "بداية لتفرق أتباعه وتداعي جماعته التي ظلت كبرى الجماعات وأكثرها اتساعا وأتباعا وأثرا فاعلا على الساحة. على رغم أنه أوصى ب"الخلافة" لشخص من أبرز أساطين مدرسته والقريبين منه. غير ان "الخليفة" بدأ من أول يوم يواجه أعباء تركة كبيرة لا يتوقع المراقبون قدرته على تحملها سواء في إدارة الجماعة بحجمها الكبير وتناقضاتها وانتشارها في مختلف مناطق اليمن وخارجه أو على ما يواجهه من معارضة وانتقادات من قبل عدد من الجماعات التي هاجمها الشيخ الوادعي في مؤلفاته والقيادات التي اختلفت معه وانفصلت عنه وفي مقدمهم زوج ابنته. وكان الوادعي الذي نشأ في قريته دماج في محافظة صعدة عالماً في علم الحديث وفقه السنة وله مؤلفات كثيرة، معظمها كتيبات في نقد مختلف الجماعات والمذاهب والمدارس والشخصيات الفقهية الأخرى من دون استثناء في الداخل والخارج، وهو يحرم الديموقراطية والحزبية والإنتخابات، وكذا التصوير بأنواعه، وقد اضطر مكرها أن يسمح بتصوير زوجته في جواز سفرها معه وأن يدخل "بلاد الكفر" الولاياتالمتحدة للعلاج. تطور الإنقسامات تجدر الإشارة إلى كتاب صدر قبل حوالي شهرين في صنعاء بعنوان "إلى أين يتجه الأخوان المسلمون في اليمن؟ نصيحة". باسم مؤلف غير معروف صادق أمين، تضمن نقداً شديداً لاذعا لحزب الإصلاح وكثير من قادته و"الأخوانيين" منهم خصوصاً، كأمينه العام محمد اليدومي وأمينه المساعد عبد الوهاب الآنسي وحتى الشيخ ياسين عبد العزيز نائب رئيس الحزب. وكرس الكتيب توجيه التهم إليهم بالخروج عن مبادئ "الإخوان" بدءا بتشكيلهم حزب الإصلاح واجتهادهم في إقناع "الإخوان" وغيرهم بالانضمام اليه. وفي كل الأحوال يتفق المراقبون والأوساط السياسية والفقهية في صنعاء على أن الحركة السلفية في اليمن بكل جماعاتها ومسمياتها بدأت تنحسر وتتصارع وتتفرق. وهذا الواقع طرح في مواجهة توقعات المستقبل، أسئلة وعلامات استفهام كبيرة على الساحة اليمنية حول مصير هذه الجماعات. وهي تساؤلات تدخل إجمالا في إطار سؤال واحد واسع هو: السلفيون في اليمن... إلى أين؟