ولد على تخوم تلك منطقة "الربع الخالي" وقضى سنوات التكوين الأولى هناك، "حيث تتقاطع الجبال مع الصحراء مع البحار الشاسعة". عاش مراهقته "مصغياً الى بنات آوى وعواء الذئاب وأجواء الليل الموحشة". إنّه الشاعر العماني سيف الرحبي الذي أخذ لاحقاً طريق السفر، وجال بين القاهرةوباريس وبيروت، مروراً بمدن المغرب، قبل أن يعود إلى نفسه محاولاً اقتفاء أثر المكان المزروع في أعماقه. وهو يعتبر "أن القصيدة الجديدة والطليعيّة ليست مرتهنة بأنماط ووصفات جاهزة للحداثة"، تلك الحداثة التي "فهمت بشكل اختزالي، وايديولوجي وقسري" في العالم العربي. ويبسط صاحب "أجراس القطيعة" نظرته للقصيدة الحديثة، كاشفاً أنّه شديد الحرص على عدم تحول القصيدة "الى ركامات وسيلانات لفظية برانية، تحت لافتة التحديث والتجديد"، وموضحاً: "الأسلوب ليس معطى جاهزاً. التجربة والعزلة والمكان، كما المرجعيات الأخرى، تساهم في طبعه وصياغته". فرض سيف الرحبي حضوره مطلع الثمانينات، حين اكتشف القرّاء العرب ذاك الصوت الشعري المتفرّد الآتي من عُمان، وراحوا يوغلون في تلك القصيدة الحميمية التي تعيد ترتيب أشياء العالم الصغيرة، المنسيّة، وتتخذ من أماكن الذاكرة امبراطريّة فاضلة، وملجأً كالذي يهرع إليه الشعراء الملعونون... وللشاعر العماني سيف الرحبي ثماني مجموعات شعرية هي على التوالي: "نورسة الجنون"، "الجبل الأخضر"، "أجراس القطيعة"، "رأس المسافر"، "مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور"، "جبال"، "يد في آخر العالم"، "الجندي الذي رأى الطائر في نومه"، اضافة الى ثلاثة كتب نثرية هي "ذاكرة الشتات"، "حوار الأمكنة والوجوه"، "منازل الخطوة الأولى". عاش الرحبي في أكثر من مدينة عربية. وبعتبر اليوم أحد الأسماء الشعرية الجديدة التي تحاول ان تجترح لقصيدتها أسلوبيات وجماليات مختلفة. تنضح قصيدة الرحبي من الموروث البيئي العماني، حيث تنبجس فيها السمات العامة للمكان: قسوته، جفافه، وعورته، قفره وجباله، اضافة الى المنقلب الآخر الذي يكمن في الداخل، كانعكاس لعلاقة الذات مع الحيز المكاني. في باريس، المدينة التي يرتادها الرحبي باستمرار، التقينا في أحد المقاهي، وكان هذا الحوار: ينهض جانب كبير من شعرك على وتد "المتاهة". فإذا كنت قادراً الى هذا الحد على ادراكها، ومعرفة رمالها المتحركة، ورصد سقوط الشاعر فيها... لماذا اذاً كل هذا الحزن الذي يلف شجوك وغناءك؟ - لا أزعم انني أدرك المتاهة بما تتلفح به من غموض وأسرار ومن سقوط حتمي. لا أستطيع زعم الادراك، أو ما يشبهه، لكنني أحدس أحياناً، وأستشرف بعض مشارفها وأعماقها. أستشرف التيه في أعماقنا البشرية المضطربة، كما أستشرف أعماق المتاهة التي تنبثق من الكائن، ومن الأرض... وربما يتخذ الربع الخالي تلك المنطقة المترامية بالعدم والوحشة، خارطة رعب لا نهائية. ربما تتوازى مع ذلك التيه الذي نستشعره وتتداخل معه وترمز إليه وتجسده، ذلك التيه الذي نمضي إليه فيه على غير هدى. بهذا المعنى من انعدام المعرفة، او بقليل منها، لا بد ان يخترق الشجن والحزن والرعب النبرة الشعرية والجهاز التعبيري بكامله. إكتناه المتاهة / المكان قارئ شعرك يجد ان المكان يأخذ حيزاً كبيراً من الفضاءات التي تشتغل عليها، لا بل يجد ان طبيعة المكان وسماته المختلفة تجد انعكاساً لها في الاشتغال الشعري نفسه... - أعتقد أن التأثر بالمكان، أي مكان، بمفرداته ومناخاته وأجوائه، أمر طبيعي بالنسبة إلى الشاعر أو الكاتب. ولدت على تخوم تلك المنطقة التي هي "الربع الخالي"، وقضيت سنوات التكوين الأولى هناك، حيث تتقاطع الجبال مع الصحراء مع البحار الشاسعة. عشت مراهقتي مصغياً الى بنات آوى وعواء الذئاب وأجواء الليل الموحشة، ما أثر بداهة في لغتي الشعرية التي حاولت لاحقاً ان تشتق رمزاً وكناية وتعبيراً من تلك المناخات. وأتصور ان الشاعر مرتهن بقدره الولادي والموضوعي. "الربع الخالي"، بمعنى آخر، تلخيص مكثف ومأسوي صاعق لذواتنا... للذات العربية، بصورة عامة. وربما يحيل إلى ما يكتسح هذه الذات من جفاف، وجهل، وضياع فكري ومادي، في حلبة التاريخ المعاصر. كيف يمكن للمكان المغلق الذي ينبذ الحرية بمفهومها العام والبسيط أن يساعد في تشكيل كتابة شعرية شرطها الوحيد الحرية؟ كيف اخترت أن تكتب "قصيدة النثر" وأنت تأثّرت بهذه المناخات التقليديّة التي تحيل إلى القصيدة الكلاسيكيّة للوهلة الأولى؟! - في تصوري ان القصيدة الجديدة والطليعية في الشعرية العربية، او اي شعرية كانت، ليست مرتهنة بأنماط ووصفات جاهزة للحداثة... هذه الحداثة التي فهمت لدى العرب أحياناً، في شكل اختزالي، على نحو من الأنحاء، وايديولوجي قسري. إن كل تجربة شعريّة، بقدر ما هي نوع من قراءة خاصة ورؤيا، تعكس نوعاً من الفرادة تجاه الأشياء والعالم، انها نوع من استقراء الهاوية نفسها. اكتناه المتاهة / المكان، بأسرارها وتصدعاتها المستمرة، بهذا المعنى، تلك الخصوصية الابداعية. الحرية ليست مرتهنة بوصفة معينة للتحديث والتجديد، بقدر ما هي السعي إلى ذلك الاكتشاف الحزين والمضطرب للذات ومحيطها. انها ضرب من ترحال في الصحراء، صحراء الواقع وصحراء اللغة. بمعنى آخر، ذلك المكان المترامي يمنحني نوعاً من حرية خاصة بتطوير اللغة الشعرية وأجوائها ومناخاتها. تتسم قصيدتك بالقسوة والجفاف والنتوءات اللغوية المسننة، ومع ذلك يظل للنضارة والشفافية فيها مكان الصدارة. كيف يتعايش هذان النقيضان في تجربتك الشعريّة؟ - ان اللغة مهما دخلت في أجواء مريعة من القسوة والرعب والوحشة، وعبرت عن كوارث البشر وانسحاقهم وزوالهم السريع على هذه الأرض الرهيبة، لا بد ان تكون آسرة ونضرة، وتبعث في قارئها - رغم كل الخراب الذي تحمله - البهجة والفرح الغامض. انها نوع من مطهر شعري تمر به القراءة في أحوالها المخلتفة. لا أجد اي تعارض في هذا السياق بل بالعكس : إن اللغة السطحية، البرانية، التي تتوسل وتتكلف أجواء الغنائية المفرحة، لواقع بالغ الفظاظة وبالغ القسوة، هي محاولة سهلة لإرضاء قارئ سهل. في مجموعتيك الأخيرتين "جبال" و"الجندي الذي رأى الطائر في نومه" تفسح المجال للنثر، بحيث يأخذ حيزاً ملحوظاً داخل القصيدة. في حين يغيب ذلك في أعمالك السابقة. ما أسباب هذا الخيار الجمالي الجديد؟ - في تجربتي الشعرية والكتابية المتواضعة حاولت ان أطور نوعاً من نثرية خاصة، أتقاطع فيها بالتأكيد مع شعراء عرب آخرين، وإن كان كل منهم له نبرته الخاصة. اتضحت هذه المسألة في الأعمال الأخيرة من "جبال" حتى "الجندي الذي رأى الطائر في نومه" و"قوس قزح الصحراء" وهو ديوان قيد الطبع. هذه التجارب الأخيرة التي كتبتها بعد عودتي الى عمان، كانت منفتحة على مدارات النثر والسرد أكثر من التجارب السابقة. كأنما تلك المناخات الملحمية للمكان العماني مقرونة بأعباء التجربة الذاتية، ونزوعها التدميري للحدود، تفرغ نوعاً من نمط تعبيري مفتوح على جهات مختلفة. أحسست في هذه الأجواء كأنما العبارة الشعرية المحدودة جداً تنوء بالانفتاح على أجواء تعبيرية أخرى، فيما يشبه النص المفتوح او المشهد البصري بكادراته وتقطيعاته المختلفة. بهذا المعنى يكون التجريب ترحالا في الظلام والألم، وليس نتاج مفاهيم معرفية ونقدية مسبقة... ومن هذا المنطلق، ربما، حافظ النص على مسافته الخاصة من التجديد المطلق الذي يطوح بالحياة والمعيش والتجربة، لنقرأ ركاماً لفظياً لا معنى له ولا دلالة، كما في الكثير من النصوص. تشتغل على قصيدتك، وفي الآن نفسه لا تسمح للاشتغال ان يأخذ القصيدة الى الجفاف اللغوي التام. هل - برأيك - الحركة الشعورية ضرورة لا بد منها داخل القصيدة؟ - الحركة الشعورية ضروريّة طبعاً. حتّى لا تتحول القصيدة توليفاً لصور متفرقة ومجانية، لا بد ان يخترقها نفس واحد، وأن تنتظم ضمن مناخ. وأنا دائماً شديد الحرص على عدم تحول القصيدة الى ركامات وسيلانات لفظية برانية، تحت لافتة التحديث والتجديد، او اي شيء آخر ! الأسلوب ليس معطى جاهزاً. التجربة والعزلة والمكان، كما المرجعيات الأخرى، تساهم في طبعه وصياغته. في عمليّة الكتابة الشعريّة، هناك نوع من اللعب يشبه رجل السيرك، بقدر ما هناك حرية في التجديد في اللغة، لكن لا بدّ في المقابل - وقبل أيّ شيء آخر - من ان تقوم القصيدة على الشعور والاشتغال على الألم وعلى الحياة. كل ذلك من غير ان تسقط في الغنائية الهشة، او في التبسيط اليومي، ومن غير ان تكون هناك خلفية ماورائية لهذا اليومي او لهذا المعاش. أتصور ان هناك تجارب شعرية مهمة خسرناها تحت سطوة ذلك الوهم "اللغواني" الذي نشعر عند قراءته، رغم ما يحاول من ادهاش وغرابة الادهاش، ان القراءة بهذا المعنى تصبح مضيعة للوقت رغم كل الادعاءات البرانية. تأخذ الجبال حيزاً كبيراً من مناخات وعوالم شعرك... جبال تنبجس كأبخرة من حرارة الكلمات، نابتة أمامك وحولك وفي أعماقك، كأنها وحوش مفترسة. هل تثير فيك نوعاً من الأمان، على رغم من قفرها وقسوتها؟ - ذلك المكان برواسيه وجباله التي هي جبال الواقع، وأكبر منها جبال المخيلة، يحمل نوعاً من ميتافيزيقيا خاصة، مرعبة، مؤثرة، كأنما كل الأزمنة الجيولوجية للتاريخ تجمعت فيه دفعة واحدة. أنا شديد التأثر حين أنظر الى تلك الجبال، كأنها آلهة رعب مبعثرة في تلك الأماكن القصية. بالفعل ان تلك الجبال بكل ما تحمله من ثقل ذلك الرعب الميتافيزيقي الذي قلما تستشعره في أي مشهد، يجعلني أحس وأنا أسترخي أحياناً بين فسحاتها على مقربة من البحر بنوع من الحماية، او الأمان الأمومي الذي افتقدناه في واقع حياتنا. إنها جبال أمهات حنونات. وحين تحدق فيها احياناً وتنظر الى كل تلك العزلة والوحشة التي تكتنفها على مشارف الليل، ربما تبكي، وربما تكتب، وربما تنتحر. في بعض المقاطع من ديوان "جبال" أتذكر انني ألوذ بها كخلاص وملاذ من قسوة العالم. في غمرة هذا الهبوط والنزوع الى اليأس والألم الذي تنطبع به قصيدتك، من أين يجيء الحب اذاً؟ وكيف تجد له مكاناً وأي خلاص او وهم يثيره فيك؟ - الحب كالحياة آت في العمق من جهة الألم، ومن جهة اليأس لكيلا نقع في تبسيطية - ثنائية اليأس والألم. إننا نتحرك في خضم هذه الحياة المترامية بأمواج ألمها ويأسها، وحبها وتناقضاتها اللامحدودة. الحب يأتي في آخر النفق، وربما من أعماقه، نوعاً من خلاص - او وهم خلاص. لست متأكداً من اي شيء، ولا حتى من تلك القيمة الوجدانية والانسانية البالغة الجمال والرهافة، التي تدفعنا الى الحياة وتأجيل الموت الحتمي، أي الحب. واذا كان الحب محركاً أساسياً للحياة والكتابة، فالكراهية لا تقل أهمية في هذا المجال. على رغم تراجع الغنائية وتقهقرها تحت سنابك التجريد تظل محافظاً في قصيدتك على نوع من غنائية خاصة. أين أنت من كل هذه التقلبات الجمالية؟ - أنا ضد الغنائية بالمعنى المائع والسيال. الغنائية التي تنبثق في شكل شفاف وعميق من المشهد الشعري، ومن نسيج النص بكامله، هي، على ما أعتقد، غنائية لا تكف النصوص عن اجتراحها. النص الشعري والأدبي من غير هذه الغنائية ومن غير الإيقاع بالمعنى الحر للكلمة... لا بد من ان يقع في الجفاف والخشونة المدعية، تحت لافتات التجريد والتخلص من الارث السابق والقطيعة المتوهمة ! أتصور ان إعادة النظر بمنجزات الإرث الشعري السابق لا تتم عبر سحقه ونحره، ومن ثم القفز في فراغ بلا قرار، وإنما بإعادة صياغة وترتيب العناصر الحيوية والمستمرة في الحياة، وفي النص وفي اللغة بأشكال جديدة وبصورة جديدة. تذهب الأجيال الشعرية الجديدة الى الأخذ بمفهوم خاص للشعرية، معتمدة التفاصيل اليومية داخل نصوصها. وتقود قصيدتها جمالياً وفنياً الى أمكنة قد لا تتقاطع اطلاقاً مع الجيل الذي سبقها. كيف تنظر الى كتابة الجيل الجديد جمالياً وفنياً؟ - أتصور أن هناك ركاماً كبيراً في الشعرية العربية الجديدة وممارساتها، لا بد من ان يرافقه نوع من مراجعة نقدية وفرزية، لأنه في الاستسهال والاسترسال، في توهم مفاهيم جاهزة يفضي الى عطب كبير في التعبير الشعري. لا بد من مراجعة نقدية صارمة. أنا لا أستطيع ان أفهم ما دعي بقصيدة التفاصيل اليومية. هذه المفاهيم بالغة الالتباس، وربما مضللة. الشعر في كل تاريخه - بما فيه "العصر الجاهلي" - لم يخلُ من التفاصيل واليومي والمعيش. انه وثيقة شعرية للحياة نفسها، واذا تكثفت هذه الحالة لاحقاً بحكم تأثير مرجعيات ووضعيات معينة، فلا ينبغي ان تذهب صوب البرانية وتسطيح الظواهر والوقائع. تكتب الشعر والنثر معاً. ألا يمكنك ان تعبر عن عوالمك الداخلية عبر القصيدة فقط؟ ما ضرورة ان يكتب الشاعر نثراً؟ - النثر ضروري للشاعر، فهو محك لشعريته. في هذا السياق أتذكر عبارة الجاحظ العميقة "النثر فضّاح الشعراء". فتلك الممارسة النثرية المختلفة عن السياق الشعري على نحو ما، أتصورها ضرورية دائماً. التجارب النثرية والشعرية لجيلنا الذي نهل من مرجعيات واقعية وثقافية، متقاربة على نحو ما، لا بد ان تتقاطع وتتقارب روحياً، وان احتفظت كل تجربة بنبرتها ومكوناتها الخاصة