المكان رائع. والنظر يسرح على امتداد البوسفور: انه أحد أجمل مشاهد العالم. لكننا لم نأت إلى كوتشوكارموتلو للتفرج على المضيق. فمدينة الأكواخ هذه التي بنتها فوق أرنافوتكوي منظمة "جبهة التحرير الشعبية الثورية" اليسارية المتطرفة القريبة من منظمة "الطريق القويم"، ليست مكانا عاديا. جميع جدران المنازل الصغيرة المبنية كيفما اتفق مغمورة بالشعارات الثورية المرفقة بتوقيع المنظمة وبكتابات مثل "عاشت مقاومة الإضراب عن الطعام" او "الأبطال لا يموتون والشعوب لا تخسر". وفي أحد هذه المنازل تشارك ثلاث نساء ورجل في الإضراب عن الطعام الذي ينفذه مئات السجناء داخل السجون التركية منذ تشرين الأول اكتوبر احتجاجا على قرار نقلهم الى زنزانات إنفرادية في سجون أدرنة وكانديرا وتيكرداغ وسينجان، وهو إضراب ينوون متابعته حتى الموت. ولحد الآن توفي اربعة منهم في هذا المنزل: غلسمان دونميز 38 عاما وجنان كولاكسيز 19 عاما وشقيقتها زهرة 22 عاما وسيناي هانوغلو 30 عاما. وكانت سيناي، التي توفيت في اليوم المئة والستين على بدء اضرابها تمتلك المنزل. اما زوجها يوسيل هانوغلو المحكوم بالسجن لمدة 44 شهرا فينفذ إضرابا عن الطعام داخل السجن، بينما لا تزال إبنتهما بينار 11 عاما تلعب في غرف المنزل الذي تحول الى ما يشبه المزار. مزار ثوري ربما، لكن له وقار المزار. فعلى الجدران توصيات: "إختصروا زيارتكم"، "لا تقبلوهم"، "لا تتحدثوا بصوت عال"، "اتبعوا التعليمات".. وتزين أحد جدان المدخل صورة لسيناي أمام ملصق لتشي غيفارا وبضعة أغراض شخصية للفقيدة. وفي الممر ينفتح باب على الغرفة حيث كانت زهرة كولاكسيز وحلية سيمسيك 38 عاما تنفذان اضرابهما عن الطعام منذ 176 و 177 يوما حتى تاريخ 15 أيار مايو عندما قمنا بزيارتنا. كانت زهرة المولودة في 1979 في ريزي على ساحل البحر الأسود تلف شريطا أحمر على جبهتها، مرتدية قميصا أبيض طويلا وقد هزلت وشحب لونها، بحيث باتت تشبه عذارى القرون الوسطى اللواتي كن يصعدن الى المحارق وهن يبتسمن. تجد صعوبة في التحرك بسبب ضعفها، وتكاد لا تغادر سريرها. وبعد شهر من رحيل شقيقتها الصغيرة جنان التي توفيت في 15 نيسان ابريل بعد اضراب عن الطعام استمر 137 يوما، قررت زهرة ان تمضي حتى النهاية. تقول مبتسمة: "لماذا اتوقف. اني سعيدة، ولا اريد التراجع.. سأواصل الابتسام رغم انف العدو، ورغم الطغمة الحاكمة". لكن ألا يكفي موت أختها؟ ألم تقدم عائلتها نصيبها؟ تجيب: "المسألة ليست مطروحة هكذا، فالعائلات لا تعد لوائح: انه العدو الذي يقرر. القمع يتزايد بشكل متواصل، ونحن ندفع اكثر، ويجب أن نموت". لكننا نسأل هذه الشابة التي يخشى أن تموت فعلا بين يوم وآخر، أليس هناك طريقة اخرى للنضال؟ فتؤكد ان "معركة كبيرة تدور في كل البلاد، في المدارس والمصانع وفي الجبال. ما نقوم به هنا ليس سوى مساهمة بسيطة في هذه المعركة". مساهمة بسيطة؟ هل ذهبت تضحيتها عبثا؟ المستقبل وحده سيقرر ذلك. فبعد لقاءاتنا توفيت زهرة في الثلاثين من حزيران يونيو بعد اضراب استمر 223 يوما. وباتت بذلك الضحية رقم 26 للإضراب. واليوم بلغ العدد الاجمالي للضحايا 29 شخصا توفي آخرهم في 14تموز يوليو. ودفعت وفاة المضربين الثلاثة الجدد السلطات التركية الى الإفراج الموقت عن اربعين مضربا عن الطعام قبل اكثر من اسبوع على أمل أن تنجح عائلاتهم في اقناعهم بوقف حركتهم. والد زهرة وجنان، احمد كولاكسيز 42 عاما، يبدو متعبا تماما. فشقيقه الاصغر في السجن منذ ست سنوات من دون محاكمة. فقد ابنة وعندما التقيناه كان على وشك ان يفقد الاخرى.. يقول "لا يجدي سؤالي عما اذا كان يجب التوقف ام لا. لقد ناقشنا الامر طويلا قبل ان تبدآ.. لقد فعلتا ما رغبتا فيه". جاء احمد يحمل الى ابنته زهرة احجيات وكلمات متقاطعة "لعل ذلك يشغل ذهنها فتعيش اكثر". صمته العميق جعله يكتفي بالقول "نريد من الحكومة ان تتفاوض معهم.. فمطالب السجناء عادية، بل انسانية ومنطقية: انهم لا يطالبون بالافراج ولا بان تختصر عقوباتهم، انهم يريدون فقط ان يعيشوا معا، بافكارهم. لو أرادت الحكومة لحلت هذه الازمة بسهولة، والا فانها مسؤولة عن موتهم". تؤكد حلية سيمسيك المولودة في 1963 في العزيق، في قلب المنطقة الكردية، ان عائلتها من اصل عربي. وهي مضربة عن الطعام تضامنا مع شقيقها زين العابدين سيمسيك 25 عاما الذي اوقف وسجن منذ 1996 ونقل الى زنزانة منفردة في سجن ادرنة. عندما سألناها لماذا اختارت الاضراب عن الطعام اجابت بلا تردد: "انتمي الى عائلة مسيّسة كثيرا. جدي كان في المعارضة. في التاسعة من عمري كنت اعرف ما هي السياسة.. زرت شقيقي في السجن، وانا شخصيا تعرضت لعنف الدولة وقمعها. ولهذا بدأت اضرابي". امها ساكين المقيمة في ارزينجان، على بعد مئات الكيلومترات من اسطنبول، والتي جاءت لرؤيتها، تدرك تماما ان ابنتها التي هزلت كثيرا دخلت مرحلة حرجة بعد اكثر من 170 يوما على بدء اضرابها، لكنها تؤيد ما تقوم به: "الدولة لا تعاملنا سوى بالعنف، وسنموت على اي حال، سواء أكلنا ام لا". واذا ما قلنا لحلية ان من الافضل ربما المحافظة على حياتها وان موتها وموت زملائها سيضعف حزبها تجيب: "اريد ان أعلم الناس مقاومة عنف الدولة. موتي سيعلمهم المقاومة حتى النهاية وعدم التوقف.. وفي النهاية سيصحو الرأي العام. وعلى اي حال الجميع جائع في تركيا تضحك وهذه ليست حياة فعلا". في غرفة ثانية، يجلس رشيد ساري 42 عاما، البحار السابق يسمي نفسه القبطان الذي يدير وكالة سياحية، وحده، وقد قرر مواصلة اضرابه حتى الموت. يستقبلنا رشيد الذي يتمتع بوضع افضل من زهرة وحلية اللتين بدأتا الاضراب قبله بثلاثة اسابيع، في غرفته، ويشرح لنا تفاصيل النظام الذي يتبعونه جميعا: ماء وشاي وشراب خاص اعده السجناء انفسهم خلال اضرابهم الاول عن الطعام في 1996 في سجن بيرم باشا في اسطنبول، هو مزيج من الماء والملح والسكر وعصير الحامض. الكثير من السجناء يتناولون ايضا الفيتنامين بي-1، مما يفسر احتمالهم فترة طويلة. لكن بعد 138 يوما من الاضراب فقد رشيد 22 كيلوغراما من وزنه ولم يعد يزن اكثر من 62 كيلوغراما. لماذا يضع عصبة حمراء على جبهته؟ يقول "هدفنا ليس الموت لكن هذا قد يحصل لنا. عندما بدأت اضرابي كانت لدي اهداف وعدت بالاستمرار حتى تحقيقها. والعصبة الحمراء شاهد على هذا الوعد". لرشيد ثلاثة اهداف: وقف نقل السجناء الى زنازين منفردة ووقف نقل المضربين عن الطعام الى المستشفيات، حيث يؤكد ان "الدولة تعذبنا وتجلعنا نموت بشكل اسرع"، واخيرا بدء مفاوضات مع ممثلي الدولة وليس مع وسطاء. ويضيف "يجب اجراء مفاوضات مباشرة". بدأ رشيد يعاني من آلام في الرأس وفي العضلات، ومن اضطرابات في النظر والسمع، لكن وضعه ليس سيئا كثيرا في الاجمال. "وضعي جيد لاني مسؤول عن الناس داخل السجون، الذين لا تستطيعون انتم الصحافيون لقاءهم. لا أستطيع ان أبقى هكذا من دون ان أفعل شيئا. أشعر بمسؤوليتي عن الجيل المقبل وأريد ان يكون مستقبله أفضل. إذا نجحت الدولة في تدمير معنويات الناس داخل السجون وخارجها، فسيصبح البلد أشبه بحديقة ورد بلا شوك". رأي عام مخدر حصدت حركة الاضراب التي بدأت في 25 تشرين الاول اكتوبر الماضي 23 ضحية حتى الان، بينهم خمسة داخل السجون. لكنها، وبشكل يدعو للاستغراب، لم تثر الكثير من الضجة في المجتمع التركي. وفي الواقع فان الرأي العام انصرف عن الاهتمام بها بعد فشل وساطة قام بها ممثلو المجتمع المدني ومثقفون اتراك. وضم الوفد الاول نائب رئيس نقابة الاطباء متين بقالجي ورئيس نقابة محامي اسطنبول يوسيل سايمان ورئيس الكتلة البرلمانية الاسلامية حزب الفضيلة محمد باقر اوغلو وصحافي من جريدة "جمهوريت". وضم الوفد الثاني الكاتب يشار كمال وورهان باموك وزولفي ليفانيلي الذين سبق ان تدخلوا خلال تحرك مماثل في 1996، ونجحوا آنذاك في وقف اضراب عن الطعام أسفر عن وفاة 12شخصا. واقترح الوسطاء على السجناء تعليق اضرابهم في مقابل ان تؤخر الدولة عملية نقل السجناء الى زنازين انفرادية، وتعديل المادة 16 من قانون مكافحة الارهاب الذي يفصل شروط اعتقال الاشخاص المدانين بارتكاب اعمال ارهابية والسماح للسجناء بالاجتماع داخل السجون في مجموعات من تسعة اشخاص -يطالب السجناء بمجموعات من 18شخصا. وتفيد معلومات متطابقة ان ممثلي العديد من منظمات السجناء وافقوا على هذا الاقتراح، عندما وردت تعليمات من بروكسل -حيث يقيم دورسون كراتاس، زعيم منظمة "جبهة التحرير الشعبية الثورية" فاجهض كل شيء. المنظمة ضغطت على المنظمات الاخرى لكي ترفض التسوية. وأدى رفضها وإصرارها على حمل ممثل للدولة على ان تتفاوض الدولة مباشرة مع ممثلي السجناء المنتخبين الى انسحاب الوسطاء. وبعد بضعة ايام شنت قوات الشرطة عملية وحشية على عنابر السجن حيث كان يتحصن المضربون عن الطعام، فاوقعت 32 قتيلا بينهم شرطيان. وقد احرق ثلاثة او اربعة سجناء آخرين انفسهم لدى وقوع الهجوم لكن الاخرين قتلتهم الشرطة. وفي الوقت نفسه قامت قوات الامن بممارسة ضغوط على المنظمات غير الحكومية والجمعيات التي تساند السجناء، وقامت باعتقالات ادارية ومداهمات وصادرت مواد طباعية وتسجيلات، خصوصا من مقر منظمة حقوق الانسان ونقابة محامي اسطنبول. ووجهت الى مسؤولين عدة تهمة "دعم منظمات غير مشروعة". ومنذ ذلك الحين صار الرأي العام التركي يتابع المأساة التي تجري امامه بلا مبالاة ظاهرة، مسجلا بلا اي رد فعل الاعلان عن وفيات جديدة. ارين كيسكين الامين العام لمنظمة حقوق الانسان في اسطنبول يقول "المشكلة كلها هنا: من دون الرأي العام لا نستطيع شيئا: فمعظم الناس لا يرون في السجناء سوى ارهابيين لانهم لا يمتلكون سوى المعلومات التي توفرها وسائل الاعلام التركية التي تهيمن عليها الدولة". وقد تأكد لنا ذلك عندما قاطعت مقابلتنا مع كيسكين صحافية من شبكة تلفزيون "أن. تي. في." كانت مستعجلة لاجراء مقابلتها. كيسكين اراد التحدث امام ملصق لمنظمته عن حملة للتضامن مع السجناء، لكن الصحافية طلبت منه ان يجلس امام حائط خال "محايد".. وكان واضحا لكيسكين انه لا يمكن توقع شيء من الحكومة "فوزير العدل لا يستطيع شيئا، انه المنفذ الذي يطبق قرارات مجلس الامن القومي. يمكن القول انه ببغاء: فتركيا يديرها دستور وضعه العسكريون قبل عشرين عاما. لكن اذا حاولنا النقاش مع العسكريين، يعيدون الكرة الينا قائلين: "لسنا مسؤولين، لسنا نحن من يضع القوانين". ويذهب روشين شاكر، الصحافي السابق، ابعد في التحليل، فيعتبر ان هذه الازمة تعكس ايضا "الفارق بين المجتمع التركي واليسار التركي، وبين اليسار التركي ومنظمة"جبهة التحرير الشعبية الثورية" انها مشكلة انشقاقات، انها مغامرة اليسار التركي، فجماعة المنظمة يواصلون نضالهم كما في السبعينات، لكن المجتمع التركي يتغير باستمرار". ومن بين 80 الف سجين محتجزين في السجون التركية هناك على الاقل 12 الفا من السجناء السياسيين. واذا استثنينا عشرة الاف سجين من حزب العمال الكردستاني الذي لا يشارك في حركة الاضراب، بقي حوالي الفي سجين ينتمون الى موزاييك من التنظيمات الصغيرة اليسارية المتطرفة والمجموعات الشيوعية الثورية. واذا كان للبعض مطالب ملموسة تتعلق بالحياة اليومية للسجناء، فان للبعض الاخر مطالب عامة جدا وشبه مستحيلة مثل اغلاق السجون المنفردة والغاء محكمة أمن الدولة. ويقول صلاح الدين أسمر الامين العام لرابطة حقوق الانسان في انقره انه "من غير المقبول وجود زنازين يكدس فيها ما بين 60 و100 سجين، ينام احيانا كل ثلاثة منهم على سرير. يجب ان نكون واقعيين، فلا يمكننا العودة الى الوراء وتدمير السجون من هذا النوع، لكن يمكننا المطالبةبتعديلات هندسية تجعل ابواب الزنازين مفتوحة خلال النهار للسماح للسجناء بان يلتقوا. المشكلة هي ان السجناء واقعون تماما تحت رحمة ادارة السجون ومعرضون للإزعاجات ولكل انواع المخاطر. ان تعديل المادة 16 لا يكفي، والدليل ان السجناء الذين نقلوا الى زنازين منفردة في 19 كانون الاول ديسمبر الماضي لم يخرجوا بعد من تلك الزنازين، سوى خلال الزيارات العائلية الاسبوعية". وفي الواقع فان اجراءات السجون تخضع انشطة المساجين الثقافية والرياضية لرغبات الادارة. من المؤكد انه ليس لدى المثقفين الاتراك ومسؤولي المنظمات غير الحكومية كبير تعاطف مع منظمة "جبهة التحرير الشعبية الثورية" وزعيمها دورسان كراتاس. يقول استاذ ثانوي "لقد عرضت عليهم زنازين فاخرة فاختاروا الأسوأ، انها مشكلتهم. تحركهم لا يثير التعاطف.. انهم يخترعون شهداء لاستخدام صورهم لاحقا". ويلاحظ روشان شاكر انه "بالنسبة الى هذا الحزب هناك طريق واحد، طريقه. اما الباقي فجهنم: هم لا يقبلون ان يقول حكم محايد: الحق معك او انك مخطىء". ويؤكد فكرت باسكايا المثقف اليساري الذي حكم عليه بالسجن لمدة 16 شهرا بسبب مقال كتبه حول محاكمة عبد الله اوجلان ان "هذه المنظمات لايربطها شيء بالاشتراكية. انها مذاهب سياسية لاتفهم ما يجري في المجتمع وفي العالم". لكن الايام المقبلة قد تشهد دخول عشرات السجناء المضربين عن الطعام مرحلة حرجة. ويقول ارين كيسكين ان المضربين داخل السجون وخارجها مواطنون، يجب التحاور معهم وايجاد حل، والا فانها المجزرة. والجميع سيتحملون المسؤولية