هوليوود والجريمة اسمان ارتبطا على الدوام، ولكن عبر آلاف الأفلام التي أنتجتها عاصمة السينما العالمية، جاعلة للجريمة المكان الأول وعنصر جذب رئيسياً فيها. وهوليوود كانت عدا ذلك مصنع الأحلام. لكنها في بعض الأحيان كانت مصنع الكوابيس. ففي مرات كان السحر ينقلب على الساحر. والجرائم التي كانت هوليوود تتفنن في تصويرها في أفلامها، كان يحدث لها أحياناً ان تكون حقيقية وتكون هوليوود نفسها مسرحاً لها. في مثل هذه الحالات كان الأمر اما ان يسفر عن فضيحة واما ان يحاط بالصمت المتواطئ. في هذه الحلقات، تعيد "الوسط" سرد بعض الحكايات الحقيقية عن جرائم كانت هوليوود وعالمها مسرحاً لها، بعضها ظل طي الكتمان وبعضها أحدث ضجة في حينه. وفي الحلقة الأولى حكاية مقتل الممثل والمنتج والمخرج توماس انس، الذي كان الضحية، لكن على الأرجح كان الضحية غير المقصودة. الحكاية حقيقية وشبه منسية الآن. أما أبطالها فيحملون أسماء كبيرة: الملياردير ويليام هيرست، والفاتنة ماريون دايفيز، اضافة الى شارلي شابلن وانس. "ربما كان ذلك أكبر تجمع بشري ومجمع لأهل المهنة والنجوم، عرفته هوليوود منذ اللحظة التي صارت فيها عاصمة للسينما في العالم. وكان ذلك عبارة عن لقاء جرى في قاعة مسرح هوليوود المصري المعروف باسم غراومون، يوم الأحد الماضي عند الساعة الحادية عشرة ظهراً. ففي تلك الساعة جاء أهل هوليوود كلهم، وأهل صناعة السينما في شكل خاص، ليتذكروا توماس انس ويحيوا ذكراه". هذا ما كتبته صحيفة "أخبار السينما" الهوليوودية يوم 6 كانون الأول ديسمبر 1924، عن حفلة التأبين التي أقيمت للفنان الراحل، الذي كان قضى قبل ذلك بأكثر من أسبوعين. لقد تفنن كثيرون يومها في الحديث عن انس ومآثره ودوره في نهضة الصناعة السينمائية، لكن أياً من الخطباء الكثيرين لم يجد ان المناسبة صالحة للحديث، علناً، عن الظروف التي قضى فيها نجم أفلام رعاة البقر ذاك. ومع هذا كان بين الحضور عدد من الذين واكبوا تلك الظروف وعرفوا حقاً ان توماس انس لم يمت، كما قالت التقارير الطبية الرسمية، من جراء ذبحة قلبية أصابته، بل بفعل رصاصة أطلقها عليه المليونير ويليام راندولف هيرست. وربما عن طريق الخطأ. لم يتحدث أحد عن ذلك علناً، لكن الهمسات كلها كانت تدور حول الواقعة، بل حول الجريمة التي كانت أول جريمة حقيقية كبيرة تعرفها هوليوود التي كانت تأسست حديثاً كمكان لصناعة الفن السابع. والغريب في الأمر ان أورسون ويلز، عبقري هوليوود الأكبر، حين حقق بعد ذلك بأكثر من عقد ونصف العقد، فيلمه الشهير "المواطن كين" الذي يتابع فيه فصولاً من حياة هيرست، تعمد الا يأتي، ولو بالاشارة، على ذكر حادثة مقتل انس، وعلى رغم ان الفيلم استوحى أحداث حياة بطله تحديداً من خلال علاقته بالفاتنة ماريون دايفيز، التي كانت السبب المباشر لتلك الرصاصة التي أطلقها هيرست على توماس انس وأردته قتيلا. ولكن هنا، لئلا تختلط الأمور على القارئ ويجد نفسه تائهاً بين أسماء الأفلام والأشخاص، يجب العودة الى الحادثة نفسها، ليس لأهميتها، بل أيضاً لكشف تورط عدد من أصحاب الأسماء اللامعة، تواطؤاً او صمتاً، ومن بينهم شارلي شابلن. وربما لمجرد ان هيرست كان من السلطة والثراء بحيث ان اي مشاركة في فضح ما اقترفه ومسؤوليته عنه، كان من شأنها ان تدمر من يقدم على ذلك. قوة المال تبدأ الحكاية، طبعاً، مع ويليام ر. هيرست، الذي لم تكن ثروته تقل في ذلك الحين عن 400 مليون دولار، وكان امبراطور صحافة ومشاركاً في تمويل بعض الأفلام، خصوصاً حين تكون عشيقة له مرشحة لبطولة الفيلم. وماريون دايفيز كانت، في ذلك الحين نجمة السينما الصامتة وعشيقة هيرست، لكن هيرست كان يشك في ان شارلي شابلن يغازلها ويحاول ان يسرقها منه. في ذلك العام 1924 كان هيرست في الثانية والستين من عمره، وكانت ماريون في السابعة والعشرين. وكان معروفاً ان هيرست، بنفوذه وأمواله، صنع نجومية ماريون من أولها الى آخرها، وراح يفرضها على المنتجين والمخرجين. ولاحقاً سيقول النقاد ان الحسناء كانت موهوبة ولم تكن في حاجة حقيقية الى تلك الرعاية المكبّلة. وكانت الرعاية مكبّلة حقاً، لأن هيرست كان شديد الغيرة غير واثق من نفسه، سريع الغضب. ومع هذا كان محباً للحياة وكريماً، وذا حس تحد كبير. وهذا الحس هو الذي دفعه حين أقام حفلة للاحتفال بعيد ميلاد النجم اللامع في ذلك الحين توماس انس، الى دعوة عدد كبير من النجوم، ومن بينهم "غريمه" المفترض شارلي شابلن. في ذلك الحين كان انس في الثانية والأربعين، وكان أسس شركة انتاج خاصة به، ويحتاج الى دعم مالي وصحافي. وكان يعرف ان هيرست قادر على ذلك. ومن هنا لم يكن الاحتفال على يخت هيرست "أونيدا" في خليج سان دييغو، بعيد ميلاد النجم، سوى مناسبة للقاء ومناقشة أعمال مقبلة يرعاها هيرست ويحققها انس وتمثل فيها ماريون دايفيز. كل هذا طبيعي ومنطقي في حسابات هوليوود في ذلك الزمن. لكن الغريب كان ان يدعى شارلي شابلن الى الحفلة. وسيقول كثيرون ان حس التحدي لدى هيرست هو الذي كان وراء دعوة نجم الكوميديا، حيث ان هيرست كان يريد ان يبرهن لشابلن عملياً انه الاقوى. وشابلن اصطحب معه في سيارته يومها، خلال توجهه الى اليخت، الصحافية لويلا بارسونز التي كانت متخصصة في الكتابة عن الفضائح والأسرار الهوليوودية. من بين الحضور كانت هناك نخبة من نجوم هوليوود وصحافييها، وكذلك الكاتب الينور غلين، والمنتج الطبيب الدكتور دانيال غودمان. وما ان اكتمل عقد المدعوين، حتى بدأ الشرب والمرح، وبدا الثري هيرست كعادته واثقاً من نفسه، مسيطراً على أعصابه، غير ان ذلك لم يمنعه من الاستمرار في مراقبة شارلي شابلن وتصرفاته. ولكن هل تراه كان يراقب شابلن وحده، ام انه - في الوقت نفسه - كان يراقب ايضاً تصرفات توماس انس؟ هذا السؤال مهم للغاية، من اجل الوصول الى تفسير أفضل لما سيحدث بعد ذلك. وما حدث بعد ذلك كان شديد الخطورة ومربكاً. كان واحدة من أولى الجرائم الحقيقية التي عرفها مصنع الأحلام الهوليوودي، ذلك المصنع الذي كان من عادته ان يصور الجرائم على الشاشة، من دون ان يخيل اليه ان الشاشة، يمكن ان تتحول الى حقيقة معاشة. وما حدث، حدث على الشكل الآتي: كانت الحفلة قد وصلت الى ذروتها، وكان الحاضرون يتوزعون بين انحاء اليخت، يصخبون وينتشون. وكان يبدو على هيرست الانتصار، خصوصاً أنه بات مؤكداً ان تلك الحفلة ستسفر عن مشاريع تلمع من خلالها نجمته وعشيقته. ولكن فجأة، وفي غفلة ما، سمع الجميع ماريون دايفيز وهي تصرخ "القاتل... القاتل"، وتلى ذلك صوت اطلاق رصاصة واحدة. وهرع الجميع الى القمرة التي انطلق منها الصراخ ليجدوا توماس انس مضرجاً بدمائه وقد اخترقت رصاصة رأسه. لم يكن ميتاً بعد، كان جريحاً وحسب، لكن ماريون دايفيز كانت ترتجف وغير قادرة على الكلام، وسيقال انها ايضاً سقطت مغشياً عليها. كان هذا ما حدث. لكن أحداً خارج الحضور لم يعرف به. ولم يتمكن أحد من ايجاد التفسير الحقيقي والنهائي له. ما أجمع عليه الحضور كان ان هيرست هو الذي أطلق الرصاصة. فلماذا تراه أراد قتل انس، المنتج والنجم الذي كان يعول عليه كثيراً؟ وتنوعت التفسيرات. فبعضهم سيقول لاحقاً، ان الذي حدث هو ان شارلي شابلن انتهز فرصة اهتمام هيرست بضيوفه، واصطحب ماريون الى غرفة جانبية للاختلاء بها. ولقد قيل ان شابلن كان في حاجة الى ذلك النوع من الاغواء، اذ انه كان في ذلك الحين يعاني مشكلة صعبة، اذ ان المحكمة كانت أجبرته على الزواج من الفتاة ليتا غراي 16 سنة التي كان أغواها وحملت منه، وأقام أهلها عليه دعوى ربحوها. شابلن لم يكن يحب ليتا ابداً، وكان وحيداً وضجراً، فوجد الفرصة سانحة لكي يعيد علاقته مع ماريون، بعيداً عن أنظار هيرست. ولكن يبدو ان هذا الأخير لاحظ ما يجري فأسرع يلتقط مسدسه، لكنه بدلاً من اصابة شابلن، اصاب انس تلك الاصابة القاتلة. أما التفسير الآخر فيقول ان شابلن لم تكن له أدنى علاقة بما حدث. كل ما في الأمر انه في لحظة ما، كان توماس مختلياً بماريون دايفيز لسبب في غاية البراءة، لكنه اذ كان يدير ظهره الى المكان الذي كان هيرست يقف فيه، وكان من الخلف يشبه شابلن، خيّل الى هيرست ان شابلن يحاول مغازلة ماريون، فأطلق الرصاص ليجد، لهوله، ان الضحية انما هو شريكه المفترض. وأياً يكن التفسير الصحيح والمنطقي، المهم في الأمر ان رصاصة هيرست أصابت من انس مقتلا، وأن الحضور، كما يبدو، اتفقوا على ان يسكتوا وألا يخبروا لا السلطات ولا الصحافة بما حدث. ومن هنا ظل كثيرون يعتقدون لفترة طويلة ان انس انما مات، لأنه لم يصغ الى نصائح طبيبه الذي كان يعالجه من القرحة وبعض الالتهابات التي كان مصاباً بها، حيث انه "خلال تلك الحفلة نفسها، أفرط في الطعام والشراب" فسقط مريضاً وقضى بعد ذلك بيومين بفعل تلك الذبحة القلبية التي نجمت عن الافراط. كانت تلك الرواية الرسمية التي ظلت متداولة، او أُريد لها ان تظل متداولة، حيث ان السلطات الرسمية نفسها وجدتها أخف ثقلاً من الحقيقة التي كان من شأن الاعتراف بها، الاساءة الى سمعة هوليوود، و"اغضاب" هيرست الذي كان من أكبر أصحاب النفوذ في عالم المال والاعلام في الولاياتالمتحدة. والمؤكد ان هيرست، أكد على الأقل أمام السلطات التي استجوبته شكلياً، بشهادة الشهود ان الرصاصة انطلقت خطأ، ما دفع الى حفظ التحقيق. وعودة الى يوم الحادثة نفسها، او الى الصباح الذي تلى تلك الليلة. لم يتحدث أحد، حتى ولا الصحافية التي كانت برفقة شابلن والتي كان هذا النوع من الحديث من اختصاصها، عما دار وعن الجو الذي ساد بالفعل، بين اللحظة التي سقط فيها انس مضرجاً بدمائه، واللحظة التي عاد فيها اليخت الى الشاطئ عند فجر اليوم التالي. كل ما في الأمر انه ما ان وصل المركب الى الشاطئ، حتى هرع شابلن يغادره، في السيارة التي كان سائقه كونو ينتظره فيها. وهذا السائق سيروي لاحقاً انه شاهد انس ينقل فاقد الوعي وفي رأسه ثقب، وفي رفقته المنتج - الطبيب الدكتور غودمان، العامل أصلاً لدى هيرست. انس سيموت في اليوم التالي متأثراً بجراحه. أما هيرست فإنه جمع ضيوفه والخدم على ظهر المركب واتفقوا جميعاً، على الرواية الرسمية التي "يجب" ان تروى عن الحادثة: الرواية التي ستقول ان موت انس سببه الافراط. وكانت شهادة الدكتور غودمان في هذا الصدد حاسمة. ولكن هل صمت الجميع حقاً؟ ليس تماماً. ففي اليوم التالي للحادثة صدر عدد من صحيفة "لوس انجليس تايم" المنافسة لصحف هيرست وعلى صفحتها الأولى عنوان عريض يقول: "اطلاق الرصاص على منتج سينمائي على يخت هيرست". ولكن في الطبعات اللاحقة للصحيفة لليوم نفسه لوحظ كيف ان العنوان الرئيسي والمقال الذي يرافقه اختفيا تماماً من الصحيفة، في الوقت الذي "فبركت" فيه صحف "هيرست" حكاية جديدة تقول ان انس انما مات بذبحة قلبية فيما كان يقوم بزيارة هيرست في مزرعته. وهكذا ضرب طوق من الصمت حتى على الحفلة واليخت والحضور الآخرين. واللافت هنا ان وجود شابلن على ظهر اليخت نسي تماماً. وكان هذا لمصلحته على أية حال. بل انه هو نفسه لم يعمد، لاحقاً، الى الاشارة الى تلك الحادثة. وواضح انه كان لديه من الأسباب ما يدفعه حقاً الى تناسي كل ما حدث. ولكن ماذا عن الصحافية لويلا بارسونز، وماذا عن قلمها المر؟ الأمر هنا في غاية البساطة: بعدما نسي وجود لويلا لفترة من الزمن شهرين مثلاً عاشت خلالهما متخفية في نيويورك، صدر أمر من ويليام هيرست بتعيينها مسؤولة عن الصفحات السينمائية في جميع الصحف والمجلات التي يملكها ذلك الثري القادر. وهذا ما يفسر، صمتها، بالطبع. ولكن، هل حقاً صمت الجميع؟ واذا كانوا قد فعلوا، كيف عادت الحقيقة وتسربت؟ من سوء حظ هيرست وضيوفه، انه كان ثمة حسناء أخرى على ظهر اليخت هي فيرا بورنت كان عملها ان تحل محل ماريون دايفيز في المشاهد الصعبة، ويبدو ان فيرا هذه سئمت وضعها وأحبت ان تساوم لكن أحداً لم يستجب لها، فراحت تثرثر. وكان من أول ما قالته انها شاهدت شابلن يغادر المركب عند رسوه في الميناء، ليس برفقة لويلا وحدها، بل كذلك برفقة ماريون دايفيز، التي شاء هيرست ان يهربها باكراً، حتى ولو اضطر الى ان يعهد بها الى غريمه! ثم كان هناك سائق شابلن، المدعو كونو، الذي راح يثرثر بدوره، كما فعل الكاتب غلين الذي كان بين الحضور. يومها أدت ثرثرة هؤلاء الى فتح التحقيق من جديد. ولكن عبثاً. فالحال ان شهادة الدكتور غودمان كانت حاسمة وكافية. فاكتفت السلطات بها. وضاعت الحقيقة أمام جبروت المال والسلطة، وانتهت حياة نجم أفلام رعاة البقر، تلك النهاية البائسة. أما هيرست فإنه سرعان ما نسي كل ما حدث، وراح يبحث لفاتنته عن منتج وممثل جديد يتبناها، بينما وعدته هي، كما يبدو ايضاً، بأن تخرج شارلي شابلن من حساباتها نهائياً. أما التعليق الذي يمكننا ان نختتم به هذه الحكاية، فهو ذاك الذي قاله، ذات يوم، دايفيد وورك غريفيث أحد كبار منتجي هوليوود ومخرجيها: "اننا في كل مرة نحاول فيها ان نذكر اسم توماس انس امام ويليام هيرست، يشحب لون هذا الأخير ويرتبك. ولعل في هذا وحده دليلاً على ان الحكاية برمتها حكاية قذرة، غير ان هيرست أقوى كثيراً من ان يمكن لأحد ان يورطه فيها"