قلة من السياسيين اللبنانيين عرفت ان الرئيس السوري بشار الأسد اطلع بدقة كاملة على الخطاب الذي ألقاه نائب الرئيس عبدالحليم خدام في طرابلس في الذكرى الرابعة عشرة لغياب الرئيس الراحل رشيد كرامي في مطلع هذا الشهر، وقلة من هؤلاء عرفت ايضاً ان الاسد حرص على تضمين هذا الخطاب كل مناخات الانفتاح حيال العلاقات اللبنانية - السورية بحيث تعبّر كلمة خدام تماماً عما يصبو اليه الرئيس السوري من توجيه اشارات ورسائل واضحة الى اللبنانيين اكثر منها مجرد خطاب في مناسبة دورية. ولهذا كان الأسد معنياً بكل فقرة وردت في خطاب نائبه. الا ان هذا التوجه السوري لم يكن ابن ساعته، بل عكس جملة مؤشرات الى تعامل سوري جديد منذ توقفت بعض الحملات ضد مرجعيات وزعماء لبنانيين وان استمرت هذه لوقت قصير. لكن ذروة هذا التطور كانت في قرار اعادة نشر الجنود السوريين في لبنان للمرة الاولى منذ عام 1989 تاريخ اقرار تسوية الطائف. وعلى اهمية هذا القرار الذي باغت اللبنانيين، الموالين لسورية خصوصاً قبل معارضيها، فإن دوافعه ظلت مغلقة بأكثر من تفسير واجتهاد، مع ان كل المعطيات التي كانت متصلة بالسجال السياسي الحار الدائر في البلاد حول اعادة انتشار الجيش السوري في لبنان، لم تكن لتشير الى احتمال اعادة النظر في هذا الموضوع، بعدما أظهر اكثر من مسؤول لبناني وسوري تشبثاً ببقاء هذا الجيش. ولذا قيل ان دوافع القرار هي امنية وعلى علاقة بالتهديدات الاسرائيلية بقصف مواقع الجيش السوري في لبنان، وهي سياسية على علاقة بالتخفيف من التشنج السياسي الجاري في لبنان حيال وجود هؤلاء. إلا ان ثمة اسباباً اخرى تتصل بدوافع سورية بحتة تعود الى عام 1996، عندما انعقد المجلس الاعلى اللبناني - السوري في دمشق في عهد الرئيس السابق الياس الهراوي. فيومها فاجأ الرئيس حافظ الاسد المجتمعين بإبداء رغبته في خفض عدد الجنود السوريين في لبنان الى النصف، اي من 40 ألف جندي الى 20 ألفاً لأسباب عزاها الى عوامل مالية تتعلق بحجم كلفة وجودهم في لبنان الذي تتكبده الخزينة السورية غير القادرة على الاستمرار في تحمل كل هذا العبء. فاجأ هذا الموقف الرئيس اللبناني الذي اكد تمسكه بوجود الجيش السوري في لبنان بسبب عدم قدرة لبنان بقواه الذاتية على الاضطلاع بمسؤولية الأمن في البلاد في ذلك الوقت. وعلى أثر مناقشة هذا الموضوع تقرر تكليف اعضاء في الوفدين اللبناني والسوري درس الحد الأدنى الممكن تنفيذه من القرار الذي بدا الرئيس السوري مصراً عليه للأسباب المالية اياها بعدما شرح وطأة نفقات وجود جنوده في لبنان. وفي وقت لاحق من اجتماعات المجلس الأعلى اللبناني - السوري شرح الوفد اللبناني اسباب تمسكه بقرار بقاء السوريين في لبنان مع تمنيه على الاسد اعادة النظر في قراره. ثم حدد ثلاثة اماكن ليس في وسع لبنان الاستغناء فيها عن وجود الجيش السوري هي: * طرابلس، حيث مراكز تجمعات التيارات الاصولية المتطرفة. وقد عملت وزارة الداخلية يومها على سحب العلم والخبر من عدد من مدارسها بعدما تبين ان مهمتها كانت تتجاوز التعليم الى تعبئة مذهبية وطائفية في صفوف الاولاد وتدريبهم على حمل السلاح. وسرعان ما ترجم ذلك الصدام الذي وقع ليلة رأس السنة 2000 في الاشتباكات بين الجيش وبين هؤلاء الاصوليين المتطرفين في جرود الضنية وتمت يومها السيطرة على جيوبهم. * بيروت، حيث بعض المخيمات الفلسطينية الصغيرة التي توجب مراقبتها بصورة دائمة. * الجنوب، حيث مخيم عين الحلوة الفلسطيني المشرف على مدينة صيدا، والمحاصر من الجيش اللبناني من غير دخوله لأسباب تتصل بالتسوية السلمية والحؤول دون توطين الفلسطينيين في لبنان. وفي حصيلة التقويم اللبناني - السوري في اجتماعات المجلس الاعلى، تمنى الوفد اللبناني على الرئيس السوري في حال اصراره على اعادة نشر بعض جنوده في لبنان، ان لا يسحب الجنود المنتشرين في طرابلس ومحيطها مخيمي البداوي والبارد للفلسطينيين ايضاً ومن محيط مخيمات بيروت كما من محيط مخيم عين الحلوة. وانتهت المناقشة الى قرار قضى بسحب 10 آلاف جندي سوري ما خفّض عدد القوات السورية من 40 ألفاً الى 30 ألفاً أخلوا عدداً من المراكز باستثناء تلك التي طلب الوفد اللبناني بقاءهم فيها. يومذاك كان المسؤولون اللبنانيون يصرون، للأسباب التي أوردوها على تأخير تنفيذ البند المتعلق بوجود الجيش السوري في لبنان في اتفاق الطائف في انتظار استكمال بناء الجيش اللبناني وتعزيز قدراته على تولي الأمن في البلاد. ثم توقف اي تداول لموضوع وجود الجيش السوري في لبنان حتى مباشرة خطوات مشابهة في نيسان أبريل 2000 أحيطت بتكتم شديد واستمرت بطيئة حتى ايلول سبتمبر من السنة نفسها عندما توقفت على اثر الاعلان عنها بعد البيان الذي اصدره مجلس الاساقفة الموارنة برئاسة البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير وحمل فيه بعنف على وجود الجيش السوري في لبنان داعياً الى خروجه والى استكمال تنفيذ الطائف. وسرعان ما دار في البلاد سجال سياسي ساخن حول هذا الموضوع انقسمت فيه الآراء بين مسيحيين يطالبون بخروج السوريين من لبنان ومسلمين يتمسكون ببقائهم وأضحت الوحدة الوطنية مهددة بالانهيار. ثم توقف هذا السجال بعد مباشرة رئيس الجمهورية حواراً مع بطريرك الموارنة احيط مضمونه بسرية تامة وتواصل على خلوات ثلاث تناولت في شكل اساسي موضوع وجود الجيش السوري في لبنان وسط تضارب في المواقف. اذ بازاء اصرار صفير على خروج الجيش السوري وتصويب العلاقات اللبنانية - السورية، تمسك رئيس الجمهورية ببقائه تبعاً لمعادلة ان وجوده هو "موقت وشرعي". وحتى ذلك الوقت لم تكن ثمة اشارات تنبئ بقرار سوري يعيد النظر في قرار رفض البحث في وجود جيشها في لبنان خارج اطار حوار تجريه مع رئيس الجمهورية. الى ان اعلن قبل اسبوعين على نحو مباغت ان الجيش السوري باشر خطة واسعة النطاق لإعادة نشر جنوده في لبنان. على ان الاهمية التي يكتسبها القرار السوري تكمن في الآتي: 1- انها المرة الاولى التي يعلن فيها السوريون اجلاء عدد كبير من جنودهم من لبنان من غير ان يصدر عن دمشق اي بيان في الأمر، خصوصاً انه يتعلق بوجودهم في لبنان. 2- اقتصار الاعلان على بيان مقتضب صادر عن قيادة الجيش اللبناني بغية اضفاء طابع عسكري بحت على هذا الاجراء وتجنباً لتسييسه، بالتزامن مع امتناع المسؤولين اللبنانيين عن الادلاء بأي موقف يتعلق بتنفيذ هذا القرار. الا ان الموقف الرسمي كان واضحاً في تحديد اهداف قرار اعادة الانتشار، وهو انه يتصل بقرار الحكومتين اللبنانية والسورية المعنيتين وحدهما بمناقشة كل ما يتصل بملف العلاقات اللبنانية - السورية. 3- على رغم حصول هذا القرار فإن اياً من المسؤولين اللبنانيين او السوريين لم يشر الى ان خطوة اعادة الانتشار هذه، الواسعة النطاق، هي في اطار استكمال تنفيذ بنود اتفاق الطائف. بل كان ثمة حرص لافت في اكثر من وسط سياسي على تفادي ربط هذه الخطوة باتفاق الطائف، مع الاصرار على وصفها بالاجراء العسكري البحت التي أوجبته استناداً الى تقويم قيادتي الجيشين اللبناني والسوري، ضرورات أمنية حصراً حتمت اخلاء السوريين مراكز في عدد من المناطق، واستبدال مراكز اخرى بقوات سورية في مناطق اخرى، بغية اعطاء برهان اضافي على ان هذه الخطوة لم تأت في سياق تنفيذ هذا البند من اتفاق الطائف. والواقع ان هذا الاصرار عكس من جهة اخرى رغبة سورية في عدم اخلاء كل بيروت وكل ضاحيتها الجنوبية وكل المتنين الجنوبي والشمالي ايضاً تعزيزاً لفكرة ان الضرورات الامنية لا الاعتبارات السياسية او الالتزامات التي قطعها اتفاق الطائف هي التي توجب اعادة نشر الجنود السوريين في لبنان، وهو ما يذكره ايضاً ل "الوسط" وزير الدفاع خليل الهراوي بتأكيده ان خطة اعادة انتشار الجيش السوري لم تبدأ فجأة، بل ان اجتماعات عدة عقدتها قيادتا الجيش اللبناني والسوري منذ اكثر من شهر لدرس خطة اعادة تمركز الجنود السوريين في المناطق التي لا يتطلب وجودهم فيها وامكان حلول الجيش اللبناني في بعض المواقع التي يصير الى اخلائها. الا ان الهراوي يشدد على ان لا طابع سياسياً لاعادة الانتشار التي كانت بدأت قبل اكثر من سنة وتوقفت. مع ذلك فإن هذه الخطوة لم تخرج عن نطاق التسيسس لأن السجال الناشئ حول وجود الجيش السوري في لبنان ليس في الدور العسكري لهذا الجيش وانما حيال الدور السياسي المستمد من تأثير وجود جيش نظامي يشكل هيبة التدخل السياسي في الشؤون الداخلية اللبنانية. علماً ان لا دور عسكرياً للجيش السوري في لبنان منذ سنوات على الاقل، كما ان حواجزه تكتفي بالمراقبة دونما اي مهمة اخرى، فيما المسؤولية الامنية الحواجز والدوريات وتنفيذ العمليات العسكرية على نحو ما حصل في جرود الضنية وأحداث بعلبك عند مطاردة الشيخ صبحي الطفيلي هي مهمة الجيش اللبناني حصراً. ولذا، تركز التعاطي مع وجود الجيش السوري على انه دور سياسي اكثر مما هو دور عسكري يساهم في منح الدور الامني والسياسي الامكانات اللازمة لادارة اللعبة السياسية اللبنانية بكل مقتضياتها. وهو فحوى مناداة بطريرك الموارنة ومن بعده رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط بضرورة اعادة نشر الجيش السوري كخطوة ملازمة وحتمية لوقف التدخل السوري في الشؤون اللبنانية. ولذا كان ثمة تمييز واضح في طريقة التعامل مع خطوة اعادة التمركز بين المسؤولين اللبنانيين وبعض القوى السياسية المعارضة التي تلقفتها بارتياح تام متخطية، في اشارتها، الى ايجابية هذه الخطوة اي سجال محتمل حول دوافع القرار السوري، ومدى الاعتقاد بأنه قرار سوري بحت او قرار لبناني - سوري مشترك. على ان ما يبدو ثمناً سياسياً قاطعاً في مغزى قرار اعادة الانتشار الذي بدا لقسم كبير من اللبنانيين انه بعيد المنال بسبب مواقف رسمية لافتة أدلى بها رئيس الجمهورية اميل لحود ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الوزراء رفيق الحريري من ان لا مناقشة لهذا الموضوع الا بعد اقرار التسوية السلمية الشاملة في المنطقة، وفي التوقيت المناسب الذي ترتئيه الدولة اللبنانية. هذا الثمن السياسي أتى في مصلحة رئيس الجمهورية وتعزيز موقعه في المعادلة الداخلية بعدما كان الرئيس السوري ذكر في اكثر من مناسبة انه لا يناقش موضوع وجود الجيش السوري في لبنان الا مع الدولة اللبنانية، وانه يعتبر لحود رأس الدولة اللبنانية. والواضح تبعاً لذلك ان ثمة قاسماً مشتركاً بين الايجابيات التي انطوت عليها خلوات رئيس الجمهورية الثلاث مع بطريرك الموارنة وبين قرار اعادة الانتشار الذي ناقشه الرئيس اللبناني مع الرئيس السوري، وتردد ان لقاءهما القصير في القرداحة على هامش احياء الذكرى الاولى لوفاة الرئيس حافظ الاسد حدد الساعة الصفر لمباشرة خطة اعادة تمركز الجنود السوريين. من ذلك اعتقاد اكثر من جهة لبنانية معارضة ان اهمية الخطوة التي استمر تنفيذها اكثر من اسبوع وشملت عشرات المواقع والحواجز وألوف الجنود، ستلقي بثقلها على الوضع الداخلي في البلاد وستفسح في المجال امام تراجع التشنج السياسي الذي سادها لأشهر، وتالياً فإن هذه الخطوة ستشق الطريق جدياً امام مناقشة جديدة للعلاقات اللبنانية - السورية بين الدولتين، لا في الشارع. الا انها ستفسح ايضاً المجال امام فرصة بناء علاقة جديدة بين سورية وبكركي.