أجرى الجيش السوري في الايام القليلة الماضية اعادة انتشار لبعض مراكزه في لبنان، في خطوة هي الاولى منذ نيسان ابريل 2000 عندما قام بخطوات مماثلة في عدد من المناطق قبل ان يمدها على اثر تصاعد الحملة التي قادها البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير ضد وجود هذا الجيش في لبنان. الا انها المرة الاولى التي يُعلن فيها عن اعادة انتشار للجيش السوري بعدما كانت القيادة السورية تفضّل التزام السرية في تنفيذ خطوات كهذه. وأخلي اخيراً عدد من المراكز بعضها في جوار القصر الجمهوري في بعبدا وفي محيط وزارة الدفاع الوطني وقيادة الجيش في اليرزة. وكانت هذه المراكز مثار انتقاد جهات سياسية عدة في البلاد بسبب نشر قوات سورية حول مقر قيادة الجيش ومقر القصر الجمهوري. ومع ان المسؤولين العسكريين اللبنانيين يحرصون على التأكيد ان المراكز التي اخليت تأتي في سياق اجراءات عسكرية بحتة لا دلالة سياسية لها، وقد بوشرت مناقشة كل خطواتها الميدانية بين قيادتي الجيش اللبناني والسوري قبل نحو شهر في اجتماع تنسيق دورية، الا ان مجرد الاعلان عنها تخطى واقعياً طابعها العسكري البحت الذي يفترض تكتماً وسرية، ليمنح خطة اعادة الانتشار الجزئية التي حصلت، بعداً سياسياً من شأنه التخفيف من وطأة التشنج الذي يسود المواقف السياسية منذ اشهر. وهو مغزى حصول اعادة انتشار واخلاء مراكز من اماكن كانت في ذاتها مصدر الحملات السياسية، اي وجود جنود سوريين في الطريق الى القصر الجمهوري ووزارة الدفاع. على ان الاهمية التي يكتسبها هذا التطور انها ستفسح في المجال امام تحسن في علاقات سورية مع بعض الافرقاء اللبنانيين لا سيما بعض المسيحيين، كما مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، الذين يطالبون بتصويب العلاقات اللبنانية - السورية وبإعادة تمركز الجيش السوري في البلاد تنفيذاً لاتفاق الطائف. الا ان ثمة جانباً آخر في هذه الخطوة هو ان السوريين امتنعوا عن اعادة نشر جنودهم في مناخات استفزازية كما لو انهم يُرغمون على هذا الاجراء. ثم ما لبثوا ان نفذوا اخيراً جزءاً من هذه الخطة في الايام الاخيرة بعد تراجع موجة التشنج ضد السوريين وجيشهم في لبنان. والواقع ان الحوار الذي قاده رئيس الجمهورية اميل لحود مع بطريرك الموارنة، في ثلاث خلوات آخرها قبل اسبوعين، ساهم الى حد بعيد من خلال مداولاتهما التي احيطت بسرية تامة، في اشاعة مناخ التهدئة وفي الحديث عن موضوع وجود الجيش السوري بعدما اكد لحود للبطريرك ان هذا الموضوع هو من مسؤولية السلطة اللبنانية التي ستناقشه مع الحكومة السورية في الوقت المناسب. وحظي لحود بتأييد صفير في دعم هذا الموقف. الا ان المطلعين على الخلوة الاخيرة بين الرجلين تحدثوا عن احتمال حصول "خطوات نوعية" على اثرها من غير ان يكشفوا يومذاك ان هذه ربما تكون استجابة سورية لمطالب افرقاء لبنانيين، لكن في ظل مناخ سياسي هادئ غير متشنج وبعيد عن لغة التحدي وعبر رئيس الجمهورية بالذات. بيد ان المسؤولين العسكريين اللبنانيين يفضلون تجريد هذه الخطوة من اي بعد سياسي، ولذا لم يُشر في البيان الذي صدر عن قيادة الجيش الى ان اعادة الانتشار هذه هي تنفيذ لاتفاق الطائف. بل شدد هؤلاء على التأكيد ان اخلاء مراكز في اليرزة وبعبدا وبيروت وضواحيها وبعض مناطق الجبل يأتي نتيجة تقويم القيادتين اللبنانية والسورية للضرورات الامنية التي توجب الابقاء على هذا المركز او ذاك او اشغاله بجنود لبنانيين او حتى تركه خالياً. وتالياً، تبعاً للمسؤولين العسكريين اللبنانيين، فإن اعادة التمركز هذه اخذت في الاعتبار الاستقرار الداخلي والحجة الامنية الى نشر الجنود او سحبهم او نقلهم الى مراكز اخرى. وهذا ما كان حصل في السنتين الاخيرتين بعيداً عن الضجيج الاعلامي عندما اخلى السوريون مراكز لهم في زغرتا وزحلة وبشري والبقاع وبعض مناطق الجبل وكان آخرها ما كان نفّذ في نيسان ابريل 2000 ثم جُمّد فوراً. الا ان ثمة ثمناً سياسياً اكيداً سينشأ من هذه الخطوة سيكسبه رئيس الجمهورية، هو تعزيز موقعه السياسي داخل المعادلة اللبنانية على انه الحليف الأول لدمشق، وصاحب الكلمة المسموعة لديها في اطار التنسيق والتفاهم الواسع النطاق بينه وبين الرئيس بشار الاسد.