مع عودة أخبار "جماعة أبو سياف" الى الواجهة بعد عملية احتجاز رهائن جديدة في جزيرة باسيلان جنوب الفيليبين وتصفية رهينة أميركية، عادت الاسئلة عن هذه الجماعة المتطرفة، ومن يقف وراءها طرح نفسها بقوة، خصوصاً ان معظم "المتعاملين" بأمور "الحركات الثورية والحركات الإرهابية"، يتفقون على ان "جماعة أبو سياف" هي اكثر الجماعات انغلاقاً، حيث تعجز السلطات الفيليبينية ومعها أجهزة الأمن الدولية عن فهم هيكلية الحركة وتحليل أهدافها وقياس مدى انغماسها في نسيج السكان في جنوب الفيليبين، وتفاعل الاكثرية الاسلامية مع نشاطها، اضافة الى جهل السلطات المهتمة بمحاربتها بعدد مؤيديها والناشطين فيها. وقد تزايد الغموض المحيط بالجماعة المتطرفة بعدما "انهمرت" الدولارات عليها في العام الماضي اثر عملية اختطاف شغلت الرأي العام بضعة اشهر، وانتهت بدفع ليبيا فدية كبيرة يقول بعضهم انها تجاوزت عشرة ملايين دولار، فيما يتكلم بعضهم الآخر عن 25 مليون دولار، وهي مبالغ ضخمة جداً في هذه المناطق حيث لا يتجاوز الدخل الشهري للفرد 3 دولارات! وقد ساهمت هذه الاموال التي حصلت عليها جماعة أبو سياف بتوفير الدعم المحلي ورشوة ممثلي السلطة الفيديرالية في جزيرة باسيلان وجنوب زانبووانغا، وأرخبيل سولو معقل الحركات الاسلامية المعارضة المطالبة بالاستقلال، خصوصاً في جزيرة جولو. ويقول أحد نواب الجزيرة التي تسكنها اكثرية مسلمة، ان تشابك العلاقات بين جماعة أبو سياف والعديد من رجال السلطة وممثلي الحكومة. اضافة الى العلاقات القبلية وسلطة المال، احبطت كل المحاولات التي قامت بها اجهزة الامن الفيليبينية والأجنبية مثل السي. اي. ايه للتسلل الى داخل الحركة، والتجسس عليها. ثم ان المعضلة التي تواجه المحققين والاجهزة الامنية هي تعدد الفرق التي تدعي الكلام باسم "جماعة ابو سياف". ولكن لمعرفة حقيقة الأمر يجب العودة الى اصول الحركة ونشأتها. ان اسم "ابو سياف" هو الاسم الحركي لمؤسس الحركة الثورية، وهو من مواليد جزيرة باسيلان واسمه عبدالرزاق جانجلاني، وكان معروفاً بذكائه الحاد ورغبته الجارفة لتعلم القرآن واللغة العربية. وقد "اختفى" من قريته في مطلع السبعينات، مثله مثل العديد من الشباب الذين كانوا يلتحقون بخلايا "الجبهة الوطنية لتحرير مورو" التي كانت تطالب باستقلال المناطق ذات الاكثرية الاسلامية عن الفيليبين، وتحارب حركات التبشير الكاثوليكية والبروتستانتية التي كانت تعمل على تنصير السكان الأصليين الذين يسكنون الأدغال المحيطة بالمدن والقرى، والتي كانت الحكومة الفيليبينية تدعمها بشكل صريح في محاولة لنزع فتيل الانفصال من الجزر الجنوبية. وفي مطلع الثمانينات توجه عبدالرزاق جانجلاني الى منطقة الشرق الاوسط مع العديد من كادرات "حركة مورو". ويقال انه درس في الازهر، ثم تنقل بين عدد من العواصم العربية كان آخرها طرابلس الغرب. قبل ان يعود ويظهر في جزيرة باسيلان مسقط رأسه، وكان في السابعة والعشرين من عمره. وبدا بالخطبة في المساجد وبين الجموع في القرى النائية. وقد اشتهر بقوة حجته وبراعة خطبه، لكنه ابتعد عن سياسة "حركة مورو" التي كانت بصدد ترك الكفاح المسلح وبدأت بالتفاوض مع الحكومة الفيليبينية للحصول على نوع من الحكم الذاتي ضمن الدولة الفيديرالية لبعض المناطق التي تسكنها غالبية اسلامية مثل منطقة ميدانو المستقلة. وفي صيف العام 1991 قام أبو سياف بأول عملية عسكرية عندما هاجم باخرة في ميناء زانبووانغا. ومنذ ذلك التاريخ بدأت عملياته الدامية التي أثارت استنكار حتى العديد من أتباعه، مثل أخذ الرهائن من الفيلبينيين وإحراق الكنائس ووضع القنابل وتفجيرها بالمصلين. ويعترف مسؤولون محليون بأن المحاولات الأولى التي قامت بها الحكومة الفيليبينية و "السي. اي. إيه" لم تكن تهدف الى محاربة الحركة والقضاء عليها، بل الى إضعاف "حركة تحرير مورو" التي وصلت معها المفاوضات آنذاك الى نقطة حساسة، وكان ذلك قبيل توقيع الاتفاق النهائي العام 1996. ولا يتردد البعض في اتهام السلطات العسكرية الفيليبينية بتسليح "جماعة ابو سياف" في مقابل معلومات عن "جبهة مورو"، حسب سياسة "فرق تسد". ويقول النائب حسين أمين ممثل جزيرة باسيلان في البرلمان الفيديرالي، ان حكومة الفيليبين "غذّت العفريت وكبّرته وتركته يسرح في الأدغال"، كما نقلت عنه صحف استرالية. ويتكلم البعض عن تحركات لأجهزة مخابرات، اشهرها "قصة إدوين أنجليز" وهو شخص غامض من أصل اميركي كان عميلاً للاستخبارات الفيليبينية، وقد ظهر في مؤتمر صحافي العام 1996، لفضح التعامل القائم بين الجيش و "جماعة أبو سياف" قبل ان يعود ويختفي من دون ان يترك اثراً. وقد أكد يومها ان الجيش الفيليبني كان "يسلح الجماعة ويمولها" في مقابل معلومات عن "جبهة تحرير مورو". وتساءل كثيرون عن اسباب ظهور العميل إدوين في تلك الفترة وعن الجهات المحركة والاسباب التي تقف وراء سماح السلطات الفيليبينية بعقد المؤتمر الصحافي، خصوصاً ان اعمال جماعة ابو سياف كانت قد دخلت في حلقة عنف دموية، وكان القضاء عليها من اولويات الجيش الفيليبيني! وفي العام 1998 قتل عبدالرزاق جانجلاني الملقب بأبو سياف، على حاجز للجيش الفيليبيني، واختفت أخبار المجموعة طوال عام ونصف عام، الى ان عادت الى الظهور بعملية خطف الرهائن في آذار مارس من العام الماضي، وبالفدية التي دفعتها ليبيا للإفراج عنهم. وخلال هذه الفترة تواترت قصص الاستخبارات وتداخلها فيما بات يعرف بجماعة أبو سياف، وآخرها قصة جفري شيلينغ الاميركي وهو مسلم من أم سوداء وأب ابيض وقد "هاجر" من كاليفورنيا عام 2000 بحثاً عن "السعادة الحقيقية"، على حد تعبير "زوجته الموقتة"، حسبما صرحت للصحافة بعيد الاعلان عن اختطافه. ومن المثير للاهتمام ان السفارة الاميركية لم تعط عملية الاختطاف الاهمية اللازمة ولا "التطبيل الاعلامي" كما يحصل في مثل هذه الحالات، على رغم "عملية الاختطاف" تمت خلال ازمة الرهائن السابقة، التي ضجت بها الصحافة العالمية. اضافة الى هذا السؤال الغامض، فإن زوجة جفري شيلينغ، ليست فتاة عادية، ذلك ان ايفي هي صديقة سابقة للعديد من رجال ابو سياف وكانت متزوجة من احد اقرب المقربين منه وهو محمد دوما وقد انجبت منه طفلاً قبل ان يقتل عام 1996. ويعرف عنها انها عاشت معه في الادغال مع رجال الجماعة المسلحة في فترات متقطعة. وهذا يبرر طرح علامات الاستفهام حول براءة تلك العلاقة ودوافع تقرب الشاب الاميركي من فتاة الجماعة او العكس! ذلك انه بالإضافة الى كل هذا فإن ابن عم إيفي هو أبو صبايا الناطق الرسمي باسم "جماعة أبو سياف". وتقول الإشاعات أن أبو صبايا اتصل خلال الربيع الماضي في خضم ازمة الرهائن بابنة عمه إيفي يسألها عن "خطيبها الاميركي" ويدعوها لزيارته ! في أدغال جولو برفقة خطيبها. ويقول بعض المقربين من ايفي انها توجهت الى الادغال مع جفري شيلينغ الذي وافق على الذهاب، ولم يكن خائفاً على اعتبار انه مسلم، وكان يود مقابلة ابو صبايا "لمناقشة قضايا اسلامية" !. ومنذ ذلك التاريخ اختفى "الأميركي". ومن الغريب ان الاميركيين والسلطة الفيليبينية لا تتعامل مع عملية اختفائه كما هو الحال بالنسبة الى عملية احتجاز رهائن. كما ان جماعة ابو سياف لم تعلن عن اختطافه، وتطالب بفدية للافراج عنه. ويقول مقربون من ايفي ان ابو صبايا ارسل رسالة لها ولأهلها مرفقة ب "نسخة عن وثيقة تبرهن ان جفري شيلينغ هو عميل للسي. أي. إيه". كل هذا الغموض المحيط بجماعة ابو سياف او "جماعات تطلق على نفسها هذا الاسم الذي اصبح مرادفاً للرعب في جنوب الفيليبين" كما يقول بعض زعماء القبائل في المنطقة، يطرح سؤال التلاعب والتواطؤ الممكن بين السلطات الفيليبينية والاستخبارات الاميركية من جهة وهذه المجموعات المتفرقة التي ابتعدت عن اهدافها السياسية الاساسية وباتت اقرب الى مافيات تسعى لكسب المال ويدور نشاطها بين القرصنة وقطع الطرق وأخذ الرهائن والسطو على المصارف. ويقول احد شيوخ المناطق: "في ايام ابو سياف الحقيقي - عبدالرزاق جانجلاني - كان سكان المناطق الفقيرة ينظرون الى الجماعة وكأنها المنقذ والناطق باسمهم، وكان الفتيان يطمحون للالتحاق بها ومحاربة الحكومة المركزية، وكانت الأموال توزع على الفقراء والمحتاجين اضافة الى شراء الاسلحة. اما اليوم فإن الالتحاق بالجماعات المسلحة يتم سعياً وراء المرتبات الشهرية التي يدفعها زعماء هذه الجماعات". ولا شك في أن التحول الذي اصاب جماعة ابو سياف يذكر كثيراً بالتحول الذي اصاب الجماعات الاسلامية في افغانستان، خصوصاً بالنسبة الى تدخل "السي. أي. إيه" ودعمها المجاهدين في البداية لمحاربة الاتحاد السوفياتي، قبل ان تصبح عدواً لدوداً لها. وكذلك الامر بالنسبة الى الفيليبين، فإن المصلحة الاولى للاستخبارات الاميركية كانت المحافظة على وحدة الأرخبيل الفيليبيني، وذلك بالقضاء على "حركة تحرير مورو" التي كانت تنادي بالانفصال، وبعد تحقيق الاتفاق السياسي مع هذه الحركة، بات من الصعب التخلص من الجماعات التي تم تسليحها، اذ خرج العفريت من القمقم، وتحول الى خصم للأجهزة التي كانت وراء خروجه الى الضوء.