أحمد الدويحي أحد الأسماء الروائية الجديدة التي تسعى الى تأصيل الفن السردي في الساحة الثقافية السعودية. وهو واحد من اولئك الذين فتحوا آفاقاً جديدة للتجريب في الرواية، هذا الشكل التعبيري الذي أخذ يحتل مكانته في السنوات الأخيرة، بعدما كان المشهد الادبي حكراً على الشعر لسنين طويلة. وبما ان الكتابة القصصية تشترك مع الشعر في كثير من الخصائص الفنية في اللغة والمناخ والتكثيف والصور، فقد خاض الدويحي هذه التجربة، فأصدر مجموعتين قصصيتين هما "البديل" و "قالت فجرها"، جسدتا أول ملامح عالمه الكتابي وميله الى التجريب، وكسر النمطية الكتابية المألوفة. ثم أصدر الدويحي، انطلاقاً من المشاغل الجمالية والأسلوبية نفسها، رواية بعنوان "أواني الورد"، سعى من خلالها الى وصف التحولات النفسية والمكانية من خلال حوارات الشخوص الذين يمثلون بلداناً عربية عدة وصولاً الى الأرض المحتلة. وفي هذا الحوار الذي أردناه بمثابة تقديم لصوت أدبي متفرد، يحدثنا أحمد الدويحي عن جوانب من تشكله الثقافي وتوجهاته الأدبية، ويتناول رؤيته المختلفة للرواية. * حدّثنا عن عالمك الكتابي، عن البدايات الأولى وتشكل الوعي لديك؟ - من الصعوبة ان يتحدث كاتب ما عن تجربته، او عالمه وحتى عن خياره الكتابي، فهو عندما يفعل هذا إنما يتخلى مختاراً عن دوره، والصعوبة تكمن هنا، فيما اذا كنت تريد الحديث عن عالم فني، فأنت مثل من يريد العبور وسط صحراء الربع الخالي من دون معرفة سابقة لفن العوم، وأنا واحد من هؤلاء الذين يخجلون، ومن يكره الحديث عن نتاجه، فضلاً عن صعوبة تحديد نقطة البداية، فلم أكن الوحيد الذي تفتح وعيي في الستينات الميلادية، في بيت متوسط الحال بمقاييس ذلك الزمن في قرية نائية في الجنوب الغربي من المملكة، الأب غائب طوال شهور العام في مكةالمكرمة يعمل في مواسم الحج أعمالاً متواضعة شأنه شأن رجال ذلك الزمن، لكنها كانت اعمالاً توفر له ولأسرة مكونة من أربعة ابناء وزوجة ما يحتاجونه من مقتضيات الحياة، وأم تسعى طوال النهار بين الحقول والمزارع والعناية بقطيع الأغنام والأبقار اكثر من عنايتها بنا، العناية التي كان المجتمع في ذلك الزمن يتكفل بها لنا ولغيرنا، ليكون الجدار الأول لنا والمحرض في ذلك الوقت لدفعنا الى أول مسار جدي في الحياة. في هذه السن المبكرة التي كان المجتمع النقي هو الحافظ الأول، كنت أصغي مع الكبار الذين كانوا يتجمعون حول الراديو الوحيد في القرية، لأخبار الحرب في اليمن الشقيق التي كانت الحديث اليومي في ذلك الزمن. في ذلك المكان الذي لم يكن غير كير الحداد المجاور لبيتنا، الذي يتجمع الأهالي فيه للدفء وتجديد صلاحية أدوات الفلاحة، كنت استمع لأخبار الناس الغائبين والمسافرين الى مكة كوالدي، او الى حقول النفط في المنطقة الشرقية من البلاد، تلك القصص الاولى في ذاكرتي لم يمحها الزمن حتى الآن، وهو عالم تتخلله لحظات من الفرح والغناء، وربما الجدية التي كان يتم بها تناول قضايا الناس وخلافاتهم وشؤون حياتهم وحلها. في هذا العمر الغض وجدت نفسي فجأة في مدينة الرياض، وسط عالم جديد عليّ بالكامل في كل شيء، وتلك نقلة جديدة ومهمة في حياتي، لأنها جعلتني افتح عيني وعقلي على اشياء كثيرة معرفية وحياتية، فقد جئت للعمل بحكم مقاييس ذلك الزمن، ولكن لي قريب مثقف في بيته مكتبة، رفض تلك المقاييس التي تفرض عليّ العمل في ذلك السن، ولم أجد لسد غربتي المكانية والنفسية في ذلك الزمن غير التعويض بالقراءة. * وما هي تلك المكونات الثقافية الأولى التي تشكلت لديك من هذه القراءات؟ - ظل العالم الفطري الجميل في القرية يلازمني طويلاً، بما فيه من إيقاع وما له من طقوس وأساطير، وظفت منه الكثير من نصوصي القصصية الأولى. جدتي لأبي وهي امرأة من بيت سادة، والدها كان إمام القرية وفقيهاً، كانت لديها معرفة تفوق معارف كثيرين من رجال القرية في ذلك الزمن، الذي قرأت فيه في ذلك العمر ألف ليلة وليلة وقصص أبو زيد الهلالي والزير سالم وغيرها من مكتبة المدرسة في القرية، فضلاً عن انني سمعتها عشرات المرات من فم جدتي وغيرها في مسامرات القرية، وقرأتها مكتوبة لأحدثهم كما تفعل جدتي - وطبعاً - كانت كما عرفت في ما بعد تحكيها محرفة بطريقتها، لكن بعد الثانية عشرة من عمري، وجدت في مكتبة قريبي في الرياض الذي هو خالٍ بالمناسبة، كنزاً كبيراً اعتقد بأن اي مثقف لم يكن يحلم به، روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ومحمد عبدالحليم عبدالله ويوسف السباعي، ومنها "أولاد حارتنا"، الرواية التي كانت تباع على الرصيف في ذلك الزمن، الى جانب كتب كثيرة اخرى فلسفية ودينية وأدبية مختلفة، قرأتها في ذلك الزمن، منها "من هنا نبدأ" و "العقد الفريد"، وكتب سيد قطب وغيره التي كانت اكبر من استيعابي وقدراتي، إنما كنت أقرأ لأني كنت اريد ان اقتل الغربة في داخلي، ولذا فضلت قراءة الروايات وانسجمت معها اكثر من غيرها، ووجدت لها في نفسي قبولاً وشغفاً في تلك السن المبكرة لأنها تناسب وعيي. * لديك تجارب قصصية منها "البديل" التي تعتبر باكورتك الأدبية. كيف كانت بدايتك الفعلية في عالم الكتابة؟ - هذه التجربة القصصية بالذات جرحتني كثيراً قبل كتابتها وبعد كتابتها، فأنا كنت قد بدأت العمل في الصحافة، وتنقلت من صحيفة الى اخرى للبحث عن أمان معيشي ونفسي، وسط مجتمع كبير يسعى في اتجاه واحد ويعيش تحولات مهمة، وهو ما اتفق على تسميته بمرحلة الطفرة حتى استقر بي المكان في صحيفة "الرياض"، محرراً سياسياً واقتصادياً على غير ما أريد، إنما السؤال ماذا كان بإمكاني ان افعل بظروفي؟ على كل حال في تلك الفترة كنت أتواصل مع المثقفين وبالذات الراحل القاص سباعي عثمان، وهو كاتب جاء من السودان وأقام في جدة وله فضل رحمه الله على كثير من كتاب القصة، ولم أجرؤ على نشر شيء من نصوصي القليلة في ذلك الزمن حتى بداية الثمانينات الميلادية، وكان بالنسبة إليّ جرحاً كبيراً أن أخفي تجربتي التي تؤلمني، ولم أكن اعرف ان هناك جرحاً اكبر ينتظرني، يتمثل في الأندية الادبية التي رفضت طباعة مجموعتي القصصية الأولى، وأذكر أن أحدها وهو نادي أبها الأدبي، وصلني منه تقرير "سري" مرفق مع خطاب الاعتذار، يبرر عدم نشر المجموعة التي قدمها نيابة عني للنادي، أصدقاء لي كتاب قصة وشعراء ينتسبون لهذا النادي، بحجة ان المجموعة رمزية وعبثية تحاكي الفنون السوريالية في اوروبا التي عايشت الحربين العالميتين، وليس من مبرر لي أن اخطو في كتابتي هذا المنحنى الذي يعتبره النادي خطراً وعبثياً، وكأننا لم نعش الحروب في عالمنا العربي مطلقاً؟ كنت ضحية صراع الحداثة والتقليدية التي بسطت نفوذها في تلك المرحلة، هذه الحكاية على سذاجتها وتفاهتها بقيت جرحاً كبيراً في نفسي، جعلتني اقبل التحدي مبكراً وأطبعها على حسابي الشخصي، بعدما ظلت مغيبة حتى وقت قريب! ولم تكن تحكي اكثر من حالات الاغتراب التي عايشتها على صعيد شخصي وعام، وهي مجموعة احبها كثيراً وقريبة من نفسي، ولم أقدم على طباعة اي نتاج بعدها لمدة ستة عشر عاماً، وحينما أعود اليها الآن اشعر بحنين جارف. * وما الذي يستفزك للكتابة؟ - لم يعد يستفزني شيء للكتابة، اليوم لم أعد بحاجة للاستفزاز، صرت بحاجة لوقت كافٍ ومنظم، اصوات الذاكرة والمشاهدات والأحلام والأساطير والكلام المحكي والأحداث التاريخية والسياسية، كل هذا، محرض للكتابة ولم أعد بحاجة للاستفزاز. منافسة بين الرواية والشعر * الكتابة الروائية في المملكة فن حديث، كيف تنظر الى التجارب القصصية والروائية في المملكة؟ - هذا سؤال كبير لست المعني بالإجابة عليه، هناك أجيال متعددة عنيت بفن الرواية من رواية "التوأمان" للراحل الرائد عبدالقدوس الأنصاري الى اليوم، وأن لم يكن بالشكل المطلوب، ولست معنياً بتحديد أسباب غياب هذا الفن ولا اريد، وإذا كنا خسرنا الرواية كنتاج فني فقد كسبنا كتّاباً على قدر كبير من الاهمية في مجال القصة، فالقصة القصيرة اليوم في المملكة تنافس الشعر في حضورها، وهي كفن سردي تشترك مع الشعر، الفن المتوج في الجزيرة العربية، في خصائص فنية ولغوية، ولذا استقبلتها الذائقة الشعبية بسهولة، أما الرواية فهي فن شامل يستوعب كل أجناس الفنون كنهر جارٍ، يتشكل من ينابيع وروافد كثيرة، وتقف على كم هائل من المعطيات المعرفية والتاريخية والسياسية، ولا تحتاج الى غير من يدس أنفه ورأس قلمه بصدق وتضحية، هناك روايات لجيلي وللجيل الذي قبلنا، منهم الراحل الكبير عبدالعزيز مشري الذي سبقني وصور ونقل حياة القرية والبيئة التي اشترك معه فيها، لأننا أبناء بيئة واحدة ولم يترك لنا شيئاً، أنا وصديقنا جميعاً الشاعر علي الدميني، بعد أن بدا في السنوات الاخيرة بخوض حقل الرواية مثله مثل الشاعر غازي القصيبي، وهناك المبدع عبده خال والأستاذ إبراهيم الناصر الحميدان الذي له تجربة تختلف قليلاً بحكم المرحلة، والصديق ناصر الجاسم من الأحساء، ونلحظ في الآونة الاخيرة ان عدداً من الدكاترة اتجهوا الى كتابة الرواية، والحقيقة ان رواياتهم لم تعجبني، وبالذات القصيبي والحمد، وأظن ان مجالاتهم الكتابية غير الرواية إذا ارادوا ان يقولوا شيئاً، فقط الدكتور سلطان القحطاني قدم لنا رواية جيدة "خطوات فوق جبال اليمن"، ربما بسبب اقامته لفترة في اليمن، حيث استثمر الفضاء الثقافي والديني والقبلي والسياسي. على كل حال هي تجربة جميلة. ويبقى سؤالي المهم لماذا كلما أراد كاتب ان يكتب رواية، يخرج ببطل الرواية الى فضاء خارج الحدود؟ أظن ان الأجيال المقبلة ستكتب الرواية التي ننتظرها... * وأنت ماذا لديك من جديد؟ - لدي اكثر من مخطوط روائي، وأكتب في هذه الأيام بشكل متدفق وأعيش حالة كتابية جيدة، فقط آمل الثبات والاستقرار، والرواية تحتاج للتفرغ وأنا لا أملك هذه الحال التي تجعلني اطمئن الى وضعي المعيشي لأنصرف الى الكتابة الروائية، وربما كانت هذه الحال محرضاً للكتابة! وأنت تعرف ان الكتابة الأدبية لا تؤكل خبزاً، فما زالت المعوقات كثيرة، وهي أدبية واجتماعية، وخليها على الله. * ما الذي أردت أن تقوله في روايتك الأخيرة "أواني الورد"؟ - الرواية تقوم على مجموعة تداعيات ذات خلفية اجتماعية وسياسية بلغة صوفية وتقع في ثلاثة فصول: يحمل الفصل الأول منها يوميات العزلة وفيها تركيز على المكان ومعايشة التحويلات في مدينة تتسع دائماً وتكبر وهي الرياض. وهي تلامس ايضاً زمنياً احداثاً متواصلة ومتشابكة عايشتها ولها اسقاطاتها الكثيرة. أما الفصل الثاني فهو على صلة كبيرة بروح الرواية لكن المكان يختلف ولا ادري هل كنت كمن سبقني من كتاب الرواية في المملكة ام ان الظروف هي التي أملت عليّ ان اكتب الجزء الثاني في مدينة ماعين الأردنية على خط التماس يرتادها كثيرون من المواطنين العرب للاستشفاء. والفصل الثالث وهي تحت مسمى حرب الثماثل ويعالج العديد من القضايا الانسانية.