قلما وصل الوضع في الشرق الأوسط إلى مستوى من الخطورة مثل الذي تشهده المنطقة حالياً. فبعد ثمانية شهور على اندلاع الانتفاضة، ومع فشل جميع المساعي للتوصل إلى صيغة مقبولة من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي لتسوية النزاع، بات واضحاً أن المواجهة تقف أمام مفترق طرق مفصلي من شأنه أن يحدد الاتجاه الذي سيتخذه الصراع العربي ? الإسرائيلي برمته خلال المرحلة المقبلة. وبطبيعة الحال، فإن هذا الاتجاه الذي سيساهم في رسم التطورات السياسية والأمنية والاستراتيجية التي ستؤثر على أوضاع المنطقة ككل خلال تلك المرحلة المرتقبة. وفي الواقع، فإن الأوساط الديبلوماسية المعنية بمتابعة شؤون الشرق الأوسط تبدي قلقها الشديد حيال التدهور المتسارع، لا سيما خلال الأسابيع الماضية التي أعقبت وصول حكومة ارييل شارون إلى الحكم، معتبرة أنها ستؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى وضع المنطقة بأسرها أمام مواجهة اقليمية شاملة لن تقتصر في أبعادها وانعكاساتها على الأراضي الفلسطينية فحسب، بل تتوسع لتطال آثارها الدول المجاورة أيضاً. وتذهب هذه الأوساط في تشاؤمها إلى حد تشبيه الوضع بذلك الذي كان سائداً عشية حرب حزيران يونيو 1976. وتبرر ذلك بقولها إن "الأولوية القصوى" في نظر حكومة شارون تتركز على "انتظار الذريعة الملائمة" التي سيكون في مقدور الدولة العبرية استغلالها لتنفيذ "عمل عسكري هجومي واسع النطاق" يكون هدفه الأساسي "إعادة تكريس تفوق إسرائيل الاستراتيجي الشامل في المنطقة". تحولات سلبية وتشرح مصادر ديبلوماسية عربية ودولية تحليلها هذا بالقول إنه ناتج عن "المعطيات والاعتبارات السياسية والأمنية المعروفة" التي جاء شارون إلى الحكم على أساسها، على الشكل الآتي: 1- إن انتخاب شارون، بكل ما هو معروف عنه من تاريخ دموي، وغياب كامل للحنكة السياسية في التعامل معه، كان مؤشراً واضحاً على وصول غالبية المجتمع الاسرائيلي إلى الاقتناع بأن تسوية الصراع مع الفلسطينيين، ومع العرب عموماً، بشكل نهائي وشامل، ليست متاحة في الوقت الحاضر أو في المستقبل المنظور على الأقل. وعلى ما يبدو، فإن الوصول الإسرائيليين إلى هذا الاقتناع مرده جملة من الأسباب، أهمها طبعاً الانتفاضة الفلسطينية قبل الانتفاضة وخلالها، ما أدى في النتيجة إلى سقوطه المدوّي في الانتخابات، إضافة إلى فشله قبل ذلك في التوصل إلى تسوية مع سورية حول هضبة الجولان. ويبرر العديد من الإسرائيليين بمن فيهم أولئك الذين كانوا يصنفون في خانة معسكر السلام ودعاة التسوية، وصول غالبية الرأي العام في الدولة العبرية إلى مثل هذا الاستنتاج بالقول إن رفض الفلسطينيين "عروضاً سخية" قدمها لهم باراك، وإصرارهم على "حق العودة"، وتمسك دمشق، أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد ومن ثم في عهد نجله الدكتور بشار الأسد، بمواقفها غير القابلة للمساومة حيال الجولان، على رغم انسحاب إسرائيل من جنوبلبنان العام الماضي، شكلتا نوعاً من "الصدمة" التي دفعت قطاعات واسعة من الرأي العام الاسرائيلي إلى الاقتناع، بعد ما يقارب عشر سنوات من المفاوضات والمساعي السلمية، بأن "العرب لا يريدون تسوية على أساس حل وسط مع اسرائيل". وعلى أي حال، وبغض النظر عن المغالطة التاريخية التي تنطوي عليها مثل هذه النظرة الاحادية الجانب تماماً لعناصر الصراع ومقوماته والوسائل الكفيلة بتسويته، فإنها شكّلت على الأرجح الدافع الحقيقي الذي أتى بشارون إلى السلطة في هذا الظرف بالذات. 2- تزامن وصول شارون إلى الحكم، وما عبّر عنه من رفض إسرائيلي لأسس التسوية المطلوبة وأهدافها، مع التغيّر الذي حصل على صعيد السلطة في الولاياتالمتحدة، مع رحيل إدارة الرئيس بيل كلينتون، ومجيء الرئيس جورج بوش الابن وإدارته الجمهورية الجديدة. فالإرادة السابقة، على علاتها ونواقصها العميقة، لا سيما في موقفها من الصراع وأطرافه، كانت وضعت على رأس أولوياتها السياسية العمل على إيجاد تسوية تشكل في نهاية المطاف "الانجاز التاريخي" الذي كان كلينتون يسعى إلى تحقيقه لتتويج سنواته في الحكم. وساهم ذلك، بالتالي، في المحافظة إلى حد كبير على "زخم" العملية التفاوضية ومساراتها التفاوضية، حتى ولو لم يؤد ذلك "الزخم" في حد ذاته إلى نتائج ملموسة. كما أنه ساهم أيضاً في بقاء واشنطن معنية في صورة مباشرة ونشطة بمتابعة هذه العملية والحؤول دون انهيارها في كل مناسبة كانت تتعرض فيها إلى نكسة أو أزمة. أما الإدارة الجديدة، فإن توجهها كان واضحاً منذ البداية نحو "التخفيف" من الارتباط الأميركي المباشر بعملية السلام، والرغبة في "تجنب أخطاء" الإدارة السابقة التي جعلت من تلك العملية "شغلها الشاغل" على حساب ما تعتبره الإدارة الحالية "مسائل إقليمية واستراتيجية يجب أن لا تكون أقل أهمية، بالنسبة إلى سياسة الولاياتالمتحدة ومصالحها في الشرق الأوسط، من مجرد السعي إلى تسوية الصراع العربي ? الاسرائيلي". وكان طبيعياً، بالتالي، أن ينعكس هذا التراجع في اهتمام الرئيس بوش الابن وإدارته بالعملية السلمية، وبالحؤول دون انهيارها، جموداً شبه كامل في مسار هذه العملية، الأمر الذي انعكس تدهوراً متسارعاً في الأوضاع الأمنية داخل الأراضي الفلسطينية وعند الحدود اللبنانية وبين سورية وإسرائيل، مع غياب شبه كامل تقريباً لأي تحرك ديبلوماسي جدّي من جانب واشنطن للحد من هذا التدهور وإعادة الأمور إلى إطار سياسي. 3- امتناع شارون، ومعه قطاع واسع من المؤسسة العسكرية والأمنية وجزء لا يستهان به من الرأي العام، بأن "غياب أي خيار عسكري عربي جدي" في مواجهة اسرائيل هو عامل استراتيجي يتوجب على الدولة العبرية أن توظفه لمصلحتها سياسياً. ويعتبر دعاة هذا الرأي، وهم في مجملهم من الذين يصنفون عادة في خانة الصقور، وبينهم بعض الأركان البارزين في حزب العمل نفسه، أن أي تسوية سياسية للصراع مع العرب يجب ان "تعكس الاختلال القائم في موازين القوى الاستراتيجية والعسكرية لا ان تتجاهله". وفي نظر هؤلاء، خصوصاً اصحاب التوجه الديني والقومي اليميني المتطرف من خصوم التسوية التقليديين، فإن العملية السلمية منذ بداياتها في مدريد، ومروراً بأوسلو، وصولاً الى طروحات باراك التي قدمها الى السوريين والفلسطينيين خلال وجوده على رأس الحكومة، كانت "تتجاهل تماماً هذه الحقائق الاستراتيجية وتفرض على اسرائيل تقديم تنازلات لا داعي لها". ويتحدث شارون بالذات، شأنه في ذلك شأن سلفه في زعامة تكتل "ليكود" ورئاسة الحكومة بنيامين نتانياهو، عن ضرورة "تصحيح اسس عملية السلام"، وعن الحاجة الى جعل تلك الأسس "اكثر تعبيراً عن الواقع الاستراتيجي" في المنطقة، بحيث يأتي السلام معبراً بالدرجة الأولى عن مصالح اسرائيل وأولوياتها، بدلاً من ان يكون على حساب هذه المصالح والاولويات. ومعنى ذلك طبعاً نسف العملية السلمية من اساسها وتبديل قواعدها وأهدافها وتحويلها الى وسيلة تحقق اهداف الدولة العبرية وشروطها من طريق المفاوضات، عوضاً عن الحجة الى تحقيقها من طريق الحرب. اما في حال رفض الجانب العربي الدخول في عملية تفاوضية كهذه، "على امل انتزاع المزيد من التنازلات الاسرائيلية"، فإن دعاة هذا الرأي، وشارون على رأسهم، يعتبرون انه يتعين على اسرائيل عندئذ "عدم الوقوع في فخ تقديم المزيد من التنازلات بهدف ارضاء العرب، بل العودة في المقابل الى اعتماد استراتيجية الردع مستندة في ذلك الى تفوقها العسكري والاستراتيجي الواضح". هذه الاعتبارات الرئيسية الثلاثة تشكل حالياً، حسب المصادر الديبلوماسية العربية والدولية، "الخلفية" التي ينطلق منها شارون في تعامله مع الأزمة. ولهذا السبب، ظل رئيس الحكومة الاسرائيلية "بالغ الوضوح" حتى الآن، سواء في الشعارات التي رفعها منذ انتخابه، او في الأهداف التي حددها لنفسه ولحكومته، لا حيال الوضع مع الفلسطينيين فحسب، بل وعلى الصعيد الاقليمي الاوسع ايضاً، وبالذات في ما يختص بالوضع على الحدود اللبنانية ومع سورية. فشارون ليس معنياً بعملية السلام، كما انه ليس في وارد استئنافها من حيث توقفت. وينطبق هذا على المسار الفلسطيني، مثل انطباقه ايضاً على المسارين السوري واللبناني. اما ما يريد الزعيم الاسرائيلي اليميني تحقيقه، فيتلخص بما يأتي: 1- على المسار الفلسطيني: وقف الانتفاضة، وهو الهدف المقصود على اي حال بالتعبير الذي بات شائع الاستخدام، اي "وقف العنف"، قبل ان يصبح البحث ممكناً في اي استئناف للمفاوضات السياسية. ويعني هذا الهدف، الذي لم يعد مقتصراً على شارون وحكومته، بل باتت تشارك فيه ايضاً الادارة الاميركية، "إقرار الفلسطينيين بفشل الانتفاضة وعجزها عن تحقيق اي اهداف سياسية، ومن ثم الاعلان عن نهايتها، باعتبار ذلك الشرط المسبق المطلوب منهم لقاء القبول الاسرائيلي بالعودة الى التفاوض معهم، وموافقة واشنطن على استئناف دورها كراعية لهذه المفاوضات". 2- على المسارين السوري واللبناني: الضغط على دمشق وبيروت لوضع حد لعمليات "حزب الله" في المنطقة الحدودية، بما في ذلك طبعاً مزارع شبعا، "وتحييد" هذه المنطقة نهائياً في اعقاب الانسحاب الاسرائيلي من الجنوباللبناني العام الماضي. وينظر شارون الى الوضع على الحدود اللبنانية - الاسرائيلية من منطلق يختلف كثيراً عن النظرة التي كان باراك ينطلق منها. فشارون وأنصاره يأخذون على المعسكر العمالي "الخطأ" الذي وقع فيه حين سمح بجعل الصراع في هذه المنطقة "مجرد مواجهة بين اسرائيل وحزب الله"، لأن هذه المواجهة، في نظرهم، هي اساساً "صراع تخوضه دمشق بالوكالة، ومن خلال حزب الله، مع الدولة العبرية". وبالتالي، فإنه كان ضرورياً لاسرائيل، ومنذ البداية "وضع هذا الصراع في اطاره الصحيح وتحميل دمشق مسؤوليته المباشرة". وهذا تحديداً ما قصده شارون حين هاجم محطة الرادار السورية في جبال لبنان، بهدف ابلاغ القيادة السورية بأن اسرائيل تعتبر دمشق مسؤولة في صورة مباشرة من الآن فصاعداً عن اي عمليات عسكرية تتعرض لها القوات الاسرائيلية انطلاقاً من الاراضي اللبنانية. 3- على المستوى الاقليمي: العمل على التأكيد من جديد على "صدقية الرادع الاستراتيجي الاسرائيلي"، واعادة تكريس تفوق الدولة العبرية عسكرياً واستراتيجياً، وبالتالي سياسياً، على صعيد المنطقة ككل. وهذا يعني، من الوجهة العملية، الإظهار للجانب العربي بأن "اسرائيل ليست في وارد تقديم المزيد من التنازلات، وهي ليست في حاجة لذلك اصلاً، بل ان العكس هو الصحيح". ويدعو هذا المنطق الى ضرورة "قبول العرب بالشروط والأولويات الاسرائيلية كأساس لأي استئناف مفترض للعملية السلمية".اما في حال رفضهم ذلك، فعليهم ان "يتحملوا تبعات التخلي عن السلام" بمعناه الاسرائيلي طبعاً. والمؤسف ان شارون تمكن حتى الآن من المضي قدماً في وضع سياساته موضع التطبيق، من دون ان يضطر الى مواجهة اي تحد حقيقي يدفعه الى مراجعة حساباته، او تعديل منطلقاته. وهذا ما يحمل الاوساط الديبلوماسية العربية والدولية الى الاعراب عن القلق الشديد حيال ما تقول انه "المستوى الاستثنائي من الخطورة" الذي وصل اليه الوضع في المنطقة. فمع غياب اي قدرة عربية على ردع شارون او مواجهته بفاعلية، وفي ضوء استمرار اسلوب "فك الارتباط" الذي قررت الادارة الاميركية الجديدة اعتماده حيال المواجهة الدائرة في المنطقة حتى اشعار آخر، فيما تتزايد المؤشرات الدالة على موافقة هذه الادارة، ولو ضمنياً، على النظرة الاسرائيلية والاهداف التي تنطوي عليها لا سيما في ما يتعلق بمقولة وقف العنف وتحيمل الفلسطينيين الجزء الاكبر من المسؤولية عن الازمة، وجدت الحكومة الاسرائيلية الحالية نفسها متمتعة بهامش لا يستهان به من الحرية في التحرك والمناورة على الصعيدين السياسي والميداني. فقد نجحت اسرائيل خلال الاسابيع الماضية في افشال المبادرة المصرية - الاردنية التي كان يفترض فيها ان تشكل حتى باعتراف واشنطن اساساً ملائماً لتهدئة الوضع في الاراضي الفلسطينية واستئناف العملية التفاوضية بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي من "نقطة وسط" يقبل بها الطرفان. كما نجح الاسرائيليون خلال الفترة نفسها في تحويل الوضع على الحدود اللبنانية الى "مشروع حرب" مع سورية. اما عملية السلام ومساراتها التفاوضية، وما تم التوصل اليه في اطارها من اتفاقات وتفاهمات على مدى السنوات العشر الماضية، فباتت في حكم المنتهية، اقله بالشكل الذي قامت عليه طوال تلك الفترة، في انتظار نضوج ظروف جديدة اكثر ملاءمة للشروع في عملية سلام جديدة تحل مكانها. وهذا بالضبط ما يسعى شارون، ومن معه من معسكر التطرف الاسرائيلي، الى تحقيقه. فهذا المعسكر ينظر الى التسوية مع العرب باعتبارها "خسارة اسرائيلية يقابلها مكسب عربي". وفي الواقع، فإن هذا المعسكر لا يزال عند موقفه التقليدي الداعي الى "إلحاق الهزيمة بالعرب" قبل البحث في اي تسوية محتملة معهم. ولذلك، فإن الأولوية الاسرائيلية القصوى، بالنسبة الى الحكومة الحالية، تتركز على انتظار "الذرائع الملائمة" التي ستستطيع الدولة العبرية بفضلها الشروع مرة اخرى في تنفيذ طموحها الهادف الى اعادة تكريس تفوقها العسكري والاستراتيجي والسياسي في المنطقة. وبغض النظر عن طبيعة هذه "الذرائع المنتظرة"، سواء كانت في شكل المزيد من التصعيد ضد الفلسطينيين داخل الاراضي المحتلة، أو جاءت في اطار الرد على عمليات قد تنفذها المقاومة اللبنانية في المنطقة الحدودية، وبمعزل عن توقيتها وأساليبها، فإن رد الفعل الذي ينتظر شارون وأنصاره الفرصة بفارغ الصبر لتنفيذه عليها لن يكون، في اي حال من الاحوال، اقل من عمل عسكري واسع النطاق من شأنه ان يضع المنطقة برمتها على شفير مواجهة اقليمية شاملة لا يمكن التنبؤ بنتائجها وعواقبها.