يكتب عن أشياء يخاف أن يأخذها النسيان ، ويطرح تساؤلات ميتافيزيقية تجسد آلام البحث عن المعنى. هذا هو المفكّر والأديب السعودي تركي الحمد الذي تجاوزت شهرته منطقة الخليج، والذي تجرّأ على اعادة النظر بكثير من المسلّمات، ومنها موقف العرب من العولمة. فهو يرى أن "الرفض اليساري للعولمة لا يختلف عن الرفض الأصولي"، في حين أن الحلّ برأيه هو المشاركة النقديّة، "لأن الغياب والتخلف عن قطارها الذي أنطلق بسرعة جنونية خسارة كبرى !". وصاحب "أطياف الأزقة المهجورة"، يذكّر بأن روايته ملك للقارئ، "فله أن يعمل على تأويلها وفق نسق القيم الذي ينتمي إليه"، مؤكّداً أنّه كتب تلك الثلاثيّة سعياً إلى مناقشة "اشكاليات كان مسكوتاً عنها وآن لها أن تُطرح". لكنّه يستدرك: "الرواية عمل فنّي أساساً، وليست وسيلة للوعظ أو الإرشاد، وهي أيضا صورة من صور الحياة بكل تناقضاتها". في هذا الحوار، يلاحظ الكاتب الذي وضع مؤلفاً عن العرب في زمن العولمة، وآخر بعنوان "الثقافة العربية أمام تحديات التغيير"، أن "التحديث المادي في الخليج لم يحدث تغييرات كافية في آليات التفكير"، كما يشير إلى أن السنوات الماضية شهدت تغير أمور كثيرة بصورة إيجابية، لمصلحة مزيد من الانفتاح الثقافي. المتابع لإنتاج الكاتب والمفكر السعودي تركي الحمد يلمس لديه انشغالاً واضحاً بهواجس وتساؤلات كثيرة عن حال الثقافة العربية في اللحظة الراهنة، وعن الكيفية التي تتيح لها التفاعل مع هذا العصر والاندماج فيه، بالصورة التي تمكّنها من صناعة مستقبل أفضل من الحاضر المتعثر. وذلك من خلال نسق معرفي جديد يستوعب الجديد ولا يرفض القديم من دون أن يغرق فيه أو يسجن نفسه داخله، واذا كانت هذه الرؤى تعبر عن نفسها بوضوح من خلال مؤلفاته الفكرية البارزة : "الثقافة العربية في عصر العولمة" أو : "الثقافة العربية أمام تحديات التغيير"، فإن لها أيضاً الحضور نفسه في ثلاثيته الروائية "أطياف الأزقة المهجورة" العدامة - الشيميسي - الكراديب . تكشف هذه الثلاثيّة عالما سريا عاشه جيل من المثقفين السعوديين، بقي في الظلّ، حتى جاءت وقدمته عارياً مليئاً بتساؤلات ميتافيزيقية، تجسد آلام رحلة البحث عن المعنى. وفي حديثه إلى "الوسط" كشف تركي الحمد عن بعض هذه الآلام في حضورها مع انشغالاته الجديدة التي لا تفارقه، حيث لا يزال يبحث عن معادلة تضمن النظر الى نبض الحياة، ولكن من خلال عمل العقل القائم على التحليل. ومن هذه النقطة بالتحديد بدأنا الحوار. كيف توازن بين إنتاج فكري يُبنى على عمل عقلي محض وبين انتاج روائي يشيد عالمه على متخيل ؟ - دعنا نتفق أولا على أننا نكتب بهدف الوصول بأفكارنا الى القارئ. وطالما أن الأمر كذلك، فأنا قبل أن أكتب أفكر كثيرا في القارئ الذي استهدفه، ولذلك عندما أكتب مقالا لصحيفة فأنا أكتب لقارئ يختلف عن القارئ الذي أتوجّه إليه في أعمالي الأكاديمية. ولكن الأمر مختلف في ما يتعلق بالابداع الروائي الذي يردم الفجوات بين الواقعي والمتخيل، وأستطيعالقول إننا كمثقفين أول من نضع هذه الفجوات. فالابداع لا بد أن يقوم على بعض الحقائق الواقعية، أي انه خيال و ليس بخيال. وهذه اللعبة أحد جماليات الابداع، من دونها يفقد الكثير من متعته سواء بالنسبة إلى القارئ أو الكاتب. ينظر الكاتب من خلال النصّ إلى نبض الحياة وروحها، وهو أمر يتطلب منه أيضا نوعاً من العمل العقلي القائم على التحليل. ومن دون هذا العمل لن تستطيع الوصول إلى ما تستهدفه، فالخيال وحده لا يكفي، والمطلوب من أية كتابة حقيقية خلق معادلة توازن بين الاثنين معاً. يتألّف مشروعك الروائي "أطياف الأزقة المهجورة" من أجزاء ثلاثة، تحيل القارئ مباشرة إلى ثلاثيات أخرى معروفة في الرواية العربية. فهل هي احالة واعية ومقصودة، بمعنى آخر، هل كان ثمّة ضرورة فنيّة لخروج الرواية في هذا الشكل؟ - ظلت الرواية في ذهني عشرين عاما قبل أن أكتبها. وعشت لحظات قاسية لأنني لا أملك الجرأة اللازمة للكتابة، قبل أن تختمر في ذهني على الشكل الذي خرجت فيه. أما عن سؤالك لماذا ثلاثية ؟ فأنا لا أملك إجابة محددة. فعندما كتبت لم يكن في ذهني شيء يتعلق بالشكل أو بالبناء، وربما كنت في اللاوعي متأثراً بثلاثية نجيب محفوظ. لكن الشيء المؤكد أنني فقط كنت أريد أن أكتب ما كتبت. وماذا عن انتقال بطل الرواية هشام، وترحاله بين ثلاثة أماكن وثلاثة أزمنة؟ هل قصدت من خلال تلك البنية رصد التحولات التي مر بها المجتمع السعودي، وانعكاس تلك التحولات على أوضاع النخبة داخله؟ - عندما نتحدث عن السعودية يجب أن يكون معلوماً أننا نتحدث عن مجتمع متعدد الثقافات وليس عن مكان مختزل... نتحدث عن كيان مختلف ومنسجم في الوقت نفسه، ولذلك كان من الضروري أن تمر عين الراوي على تلك الأماكن التي تتحدث عنها لإعطاء صورة شبه كاملة عن المجتمع الذي تدور فيه الأحداث. النخبة السعودية، كما تصورها الرواية، كانت تعاني اغترابا في بعض الأجزاء ثم تحول هذا الاغتراب الى حالة تعايش مع الأوضاع القائمة. - المطروح في الرواية ليس اغتراباً. فالإنسان يكتسب هويته من إنسانيته قبل اكتسابه الجنسية، وإذا غابت هذه الحقيقة عن الذهن سنضيع في حروب لا طائل تحتها، باسم الدفاع عن الهوية. وأنا عندما أكتب أركز على الهوية الإنسانية أولاً، ثم على تفاعلها مع ظروفها "الزمانيّة والمكانية". أضف إلى ذلك أن لذة العمل الابداعي، تكمن في قدرته على طرح فكرة من خلال العمل أو الشخصية الروائية، من دون أن يجد الكاتب نفسه مضطرّاً إلى أن يبرهن على تلك الفكرة. وربما كان استنتاجك المتعلق بحال النخبة ناتجاً عن تفسيرك لانتقال البطل من رفض الأوضاع القائمة إلى القبول بها. وهذه ليست أحوال النخبة السعودية وحدها، بل قل إنّها أحوال النخب العربية كلها. لكن في الرواية يظل الأمر كله ملكاً للقارئ الذي يعمل على تأويلها، وفق نسق القيم الذي ينتمي إليه. المؤكد أن رواية بهذه الجرأة جرت عليك متاعب كثيرة من مختلف الاتجاهات. - ما تقوله صحيح. الرواية جرّت عليّ متاعب كثيرة، وكنت أعرف مستوى رد الفعل منذ اللحظة التي قررت فيها كتابة الثلاثية. فعندما كتبت، كنت أريد أن أناقش اشكاليات معينة كان مسكوتا عنها، وكان ينبغي أن تطرح بهذه الدرجة من الكشف. في الرواية نموذج لشاب له مغامراته ونزواته وانفعالاته التي كان ينبغي أن تكتب بشكل فني. فالرواية عمل فنّي أساساً، وليست وسيلة للوعظ أو الإرشاد، وهي أيضا صورة من صور الحياة بكل تناقضاتها. وهذه التناقضات، يأتي العمل الإبداعي ويكشفها. أعتقد أن أكبر مشكلاتنا في الثقافة العربية أننا نمارس أمورا ونحاول أن نتجاهلها، على رغم كونها ممارسات بشرية. في حين أن علينا إلقاء الضوء عليها، وإلا فلن نصل إلى حلول، وستظل بالنسبة إلينا "تابوهات"، في حين أنّها ليست كذلك في الحقيقة. وكان طبيعياً، وفق هذه الرؤى، أن أواجه بعض المتاعب، وربما تُدهش اذا قلت لك إن أعمالي كلها ممنوعة حتّى الآن من التداول، على رغم اتساع صدر السلطة، إلى حد كبير، لي ولافكاري. فأنا أكتب بحريّة وأعيش آمناً، وفي سلام. وهذه نقطة إيجابية. وهل حال المنع دون وصول بعض أفكارك الى الناس ؟ - طرحت هذه الإشكالية كثيرا، ولكني لا أملك إجابة محددة، مع انني أعتقد أن السنوات الماضية شهدت تغير أمور كثيرة بصورة إيجابية، لمصلحة مزيد من الانفتاح الثقافي. لكن هذه التغيير لا يتم بالسرعة الكافية. وهل تعتقد أن الرواية بجرأتها فتحت الطريق أمام محاولات روائية أخرى في السعودية، أصبح غير محظور عليها معالجة بعض القضايا؟ - بصراحة شديدة أقول لك إنه لم يكن في بالي مسألة فتح الطريق أمام الآخرين. ولكن كان هدفي التأريخ - بمعنى ما - لمرحلة منسية في التاريخ السعودي، تقع خارج إطار التاريخ الرسمي المتداول في الخطاب الإعلامي. فربما يظن بعضهم أن مجتمعا مثل المجتمع السعودي، لم يعرف التنظيمات السياسية أو العمل السري,مثل هذه التفاصيل المنسية كان من الضروري التوقف عندها قبل أن يجرفها النسيان. وهل كان هذا التأريخ نتاج خبرة شخصية، خصوصاً بالنسبة إلى الجزء الذي يكشف معاناة البطل من قيود الالتزام الحزبي؟ - كل قيود المثقف هى نتاج خبرة شخصية، فالخبرة ملح التجربة الابداعيّة. نلمس في كتاباتك اهتماماً برصد الآثار التي خلفها النفط على المجتمعات الخليجية، بما في ذلك وضعية المثقف داخل هذه المجتمعات. هل تشعر أن النظرة العربية إلى مثقفي الخليج لا تزال أسيرة الرؤى القديمة؟ - هذه المسألة من الأشياء التي تشغلنا. ففي الغرب كانت النظرة السائدة تختزل العربى إلى بئر نفط وخيمة وشبق جنسي، وهي صورة نمطية تكاد تكون شائعة لدى بقية العرب عن أبناء الخليج. وللأسف فأن هذه النظرة تعيق عمليات التواصل الثقافي بين الخليج وبقية الأقطار العربية. وهل تعتقد أن النخبة الخليجية تتحمل جزءاً من هذه المسؤولية؟ بمعنى أنها لم تؤثر في مجتمعاتها بالدرجة التي تدفع في اتجاه تغيير أنماط السلوك التي رسخت للصورة السلبية التي تحدثت عنها ؟ - للأسف معظم هذه النخب غير مؤثرة في مجتمعاتها، وتعيش في تجمعات منعزلة أقرب إلى "الغيتوهات". أي أن المثقّفين يخاطبون بعضهم بعضاً من دون قدرة على إيصال أفكارهم الى الناس. ربما لأنهم لم يعرفوا بعد المتلقي الذي يتوجهون إليه، وبالتالي فهم يتحدثون عن مشكلات ليست ملحة بالنسبة إلى الناس، والوعي بها لا يتجاوز حدود أفكار هذه النخبة. هذه أزمة النخبة العربية بشكل عام، ولكن درجتها تختلف من بلد الى آخر. وكأحد أفراد هذه النخبة ما تقويمك لعملية التحديث التي تمت في الخليج؟ - المؤكد أنه حدث مجهود جبار في تحديث البنى التحتية المادية. ولكن المشكلة أنه لم تُعطَ الفرصة لأجراء تحديث ثقافي مواز. لقد بقيت آليات التفكيرالقديمة نفسها، من دون إجراء أي تحديث لها، وأصبحت المشكلة في كونك تعيش مادياً في عالم حديث. فيما تواجه على المستوى الفكري مجتمعاً غارقاً في تقليديته. وهنا يتولد التناقض. أعتقد أن هذه الإشكالية ستحل نفسها بنفسها، لكن عساه يكون حلاً جيّداً، إذ أنه من الممكن حدوث انهيارات إذا لم يتم حل هذه التناقضات بشكل متوازن. كنت من أوائل المثقفين العرب الذين تابعوا انشغالات الخطاب الثقافي العربي بقضية العولمة. إلى أين وصلت هذه الانشغالات ؟ - بالنسبة إليّ لا زلت أرى أنه من الضروري أن نفهم العولمة فهماً محايداً، لأن هذا الفهم غير موجود حتّى الآن. فالعولمة، قبل أي شيء، هي نتيجة تطور اجتماعي واقتصادي فرض نفسه على المستوى العالمي. والمطلوب البحث عن كيفية صحيحة للتعامل معها، لأننا كعرب لم نعد نملك ترف الاختيار! فنحن لم نشارك منذ البداية في صياغة النظام العام الذي أفرز هذه الظاهرة بتجلياتها المختلفة. ومن الغباء أن نتعامل معها كنظرية تدعو إلى العدالة الاجتماعية. والحل عندي هو المشاركة النقديّة، لأن الغياب والتخلف عن قطارها الذي أنطلق بسرعة جنونية خسارة كبرى! لكن رفض العولمة ليس حكراً على العرب، فقد شهد الغرب نفسه تظاهرات ضخمة للتحذير من خطورة العولمة على المجتمعات والأفراد. - التظاهرات التي اندلعت في الغرب هي أيضا نوع من المشاركة في العولمة، للتأثير على مسارها. لكن السائد عندنا هو الرفض المطلق، ويبدو أن طبيعة الصحراء العربية لا زالت مؤثرة على العقل العربي وتدفعه الى تبني مواقف متطرفة، سواء بالرفض المطلق أم القبول المطلق. وهنا لا يختلف الرفض اليساري عن الرفض الأصولي! وهذه مفارقة وليست مفارقة، لأن آليات الإنتاج الفكري واحدة وكلها تنطلق من خطابات سلفية تؤمن بالحقيقة المطلقة