"انتعاش المسرح المغربي لا يتمّ اليوم بفضل أهله، بل بفعل الظرف التاريخي العام"، بهذه النظرة الصداميّة والنقديّة يختصر عبد الكريم برشيد نظرته التحليليّة والنقديّة للواقع الثقافي والاجتماعي في بلاده. والمؤلّف الذي يعتبر أبرز روّاد "الاحتفاليّة" في المسرح العربي، يلاحظ في هذا الحوار أن المغرب يعيش اليوم مرحلة انتقاليّة على أكثر من صعيد، ويدعو إلى ايجاد "نقد موضوعي يلعب دوراً في تحديد مسار الحركة المسرحية المغربية. فالناقد المسرحي المغربي لا يسير في مقدمة الركب، بل في المؤخرة، في حين أن النقاد في أوروبا هم من يقودون الحركات المسرحية". يتساءل صاحب "امرؤ القيس في باريس" : "كيف يمكن إلغاء الظرف التاريخي من المعادلة المسرحية؟"، مستعيداً الأسس التي قامت عليها نظريّته، انطلاقاً من "ضرورة ربط فن الاستعراض بالثقافة المغربية التي هي ثقافة احتفالية. فالاحتفال هو التعبير عن الحس الجماعي، الآن وهنا، لجماعة لها أصول ثقافية واثنوغرافية وأنثروبولوجية متعددة". ويقارن برشيد بين الشاعر والمؤلّف المسرحي، فإذا ب "القصيدة الشعرية أبيات مرصوصة، في حين أن المسرحية عمارة معقّدة ومركّبة، تتألّف من شقق متداخلة وشرفات وأبواب موصدة أو مفتوحة...". هل تعتقد بأن هناك تراكماً للتجربة المسرحية في المغرب؟ - الحركة المسرحية انعكاس لحركة أعم وأشمل. والفعل المسرحي المغربي يأتي استجابة لفعل اختصاصي وسياسي، والمعروف أن المغرب يعيش الآن، مرحلة انتقالية، يخرج من قرن ويدخل قرنا جديداً، يغير جلده بفعل التكنولوجيا الحديثة وعصر العولمة والانترنت. وبالتالي، يبقى المسرح المغربي على رغم الكبوات التي تحد من فعاليته، جزءاً من كل، لا بد أن يتأثر بالحركة السياسية، وبالمضمون الاجتماعي والثقافي. واعتقد ان المسرح المغربي يعيش الآن انتعاشاً ملحوظاً، إذ استعاد ثقته بالكلمة وبدور الفن، وبالإنسان. وعليه فإن المسرح في رؤاه الشاملة يواكب هذه التغييرات أملاً في تطوير إشكالياته، ووظائفه للمساهة في إيجاد عقلية جديدة، وجمهور جديد. وعموماً فإن المسرح المغربي ينتعش، تدريجاً، ليس بفعل رجال المسرح، بل بفعل الظرف التاريخي العام والجمهور الذي أصبح يتابع العروض. لكن معظم المسرحيين يشكون من تردي أحوالهم ؟ - في المسرح المغربي يجب التمييز بين جيلين: القديم الذي مارس المسرح عن عشق وهوى، واحترفه وسيلة عيش وحياة، ومارسه مثل حرفيي الصناعات التقليدية... وهناك الجيل الثاني من خريجي المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، وهم موظفون يتقاضون أجورهم وأوضاعهم المادية مريحة، على عكس ما كان عليه الأمر في الماضي... إضافة الى اشتغالهم في المسرح والسينما والتلفزيون والاعلانات. والمؤكد أنه خلال الخمسينات لم يكن هناك أي اعتراف برجل المسرح، أما الآن، فهناك على الأقل اعتراف رسمي. عرفت بنقدك الصارم للكتابة المسرحيّة، خلال العقدين الماضيين فما هي نظرتك اليوم إلى النصّ المسرحي المغربي والعربي؟ - الكتابة المسرحية كتابة معقدة، والنص المسرحي حصان حرون صعب المراس. إنها كتابة مركّبة وخطيرة، فالشاعر هو إنسان يتحدث عن تجربة خاصة بأدوات وصوت واحد، في حين ان المؤلّف المسرحي يخوض كتابة بأصوات متداخلة متنافرة متضادة متصارعة. إن الكاتب المسرحي ينبغي أن يتقمّص الزعماء والشحاذين والطيبين والأشرار، والنساء والرجال، والأطفال والشيوخ، وتمثّل العالم في تداخله وتصادمه ليس بالأمر الهين أو السهل. الأساس في الكتابة المسرحية أن تكون هناك "رؤية". فالمسرح اليوناني مثلاً تحكمه "رؤية" تراجيدية للعالم، والمسرح الكوميدي تحكمه رؤية وردية للعالم. أي كاتب ليست له رؤية للعالم والواقع والحياة وشبكة العلاقات الإنسانية، لا يمكن أن يكتب مسرحية، ولا يمكن أن يكون كاتباً حقيقياً وناجحاً. لذا فإن الكتابة المسرحية صعبة من حيث الموضوع والمضامين والشخصيات والحوارات والبنية المسرحية. في سياق حديثك عن "الرؤية المسرحية"، هل هناك رؤية خاصة بالنص المسرحي المغربي؟ - هناك عدد من الكتاب المغاربة، لهم باع طويل في مجال الكتابة، ابتداء من الرواد الذين مارسوا الاقتباس و"المغربة"... مثل الشيخ محمد القوري، وعبد الواحد الشاوي، ومحمد الشيخ، والمهدي المنيعي، وصولاً إلى محمد الطيب العلج الذي أسس كوميديا شعبية جعلت منه "موليير المغرب". وفي السبعينات ظهر جيل من الكتاب الشباب، أمثال محمد العراقي ومحمد عبد السلام الحبيب ورضوان أحديدو، ومحمد مسكين والمسكيني الصغير... إضافة إلى طاقات جديدة، مثل الزبير بن بوشتى ومحمد بهجاجي ومحمد فرح... هذه التجارب المسرحية في الكتابة وُفِّقت إلى حد ما في إيجاد نصوص ذات رؤى مختلفة للعالم والحياة. وكان ذلك وراء نجاح عدد لا بأس به من الأعمال في المغرب وخارج البلاد في المهرجانات العربيّة. ما تأثير "الاحتفاليّة" التي نظّرت لها في المسرح المغربي ؟ - المسرح الاحتفالي تجربة بدأت في منتصف السبعينات. وجاءت من وعي الشباب المغربي بأن المسرح لا يمكن أن يكون واحداً في كل العالم. فهناك المسرح اليوناني والروماني، وهناك المسرح الاليزابيتي والايطالي والالماني والفرنسي، ومدارس لا تُحصى كالكلاسيكية والطبيعية والسوريالية والرمزية... هناك تجارب متعددة لكل واحدة خصوصيّتها وفلسفتها وفكرها. وقد رأت الجماعة الاحتفالية عند ظهورها، أنّه من الضروري ربط المسرح بالمجتمع والظرف التاريخي والجغرافيا والموروث الثقافي والشعبي، وكذلك بالطقوس والعادات المغربية ذات الجذور العربية والأمازيغية والمتوسطية والاسلامية والافريقية... وهذا المغرب المتعدد الثقافات نجده في مسرحنا. المغاربة شعب احتفالي، يتجلّى ذلك من خلال ساحة جامع الفنا، ومواسم المغرب السنوية، وأعراسه وأعياده... وقد رأينا ذلك الحين أنّه من الضروري ربط الفن بالثقافة المغربية التي هي ثقافة احتفالية. هكذا قلنا إن الاحتفال هو التعبير عن الحس الجماعي، الآن وهنا، لجماعة لها أصول ثقافية واثنوغرافية وأنثروبولوجية متعددة... فكيف كان يمكن أن نلغي هذا الظرف التاريخي من المعادلة المسرحية؟ كيف كان يمكن أن نلغي المكان كجغرافية، من الصحراء إلى الأطلس والمتوسّط...؟ رهان الاحتفاليّة تجسّد في السعي إلى إيجاد انعكاس للمخزون الجماعي في المسرح، واستمرار له. وبالتالي كان دور المسرح الاحتفالي واضحاً وفعالاً في إيجاد خطاب مسرحي تنظيري وتطبيقي، يبحث عن المعادل الموضوعي الفني، ويراهن على "رؤية" مسرحية تميز المسرح المغربي عن المسارح الأخرى. كيف استقبل المسرح العربي هذا الاتجاه الجمالي الذي ساهمت في تأسيسه؟ - تفاعلت مختلف اتجاهات المسرح العربي ايجابياً مع "الاحتفاليّة" التي كانت لها روافد مشابهة في أكثر من قطر ومدينة. كما ان البيان الذي أصدرته الجماعة في 27 آذار مارس 1979، في مدينة مراكش، تلقفته منابر اعلاميّة عدّة في لبنان والكويت والعراق... وأقيمت ندوات وعقدت حوارات ونقاشات مستفيضة حول المسرح الاحتفالي بشكل عام. وأثار ضجة واسعة، إذ انقسم الجمهور وأهل الخشبة والمثقفون إلى مؤيد ومعارض، وهذا شيء طبيعي وقد أسعدني كثيراً. كيف ساجلت خصوم "الاحتفاليّة"؟ - أصدرت كتاباً بعنوان "الاحتفالية مواقف ومواقف مضادة"، جمعت فيه كل ما قيل عن الاحتفالية، وقدمت ردّي العلمي والموضوعي على الجميع. فأنا مؤمن بضرورة وجود سجال منفتح وصحّي، على كلّ الأصعدة، يغني حياتنا الفكريّة والثقافيّة. ما موقع المسرح المغربي من الخريطة المسرحيّة العربيّة ؟ - المسرح المغربي له دور ووجود وفاعلية على المستوى العربي، من خلال تجارب وأسماء وأعمال تجاوزت حدود المغرب إلى العالم العربي أجمع، مثل محمد الطيب العلج والطيب الصديقي وغيرهما. أما تميّز المسرح المغربي وخاصيته، فيعودان إلى الاضافات النظريّة في مجال النقد المسرحي أوّلاً، وهناك طبعاً المساهمات الكتابيّة والجماليّة على أنواعها... ولا بدّ هنا من الاشارة إلى تجارب مسرح الهواة، الجريئة والشجاعة، التي رفدت المسرح المغربي بكثير من الزخم والحيويّة... ويمكن القول في هذا السياق أن المسرح المغربي هو الوحيد، إلى جانب المسرح اللبناني، الذي تمتّع بقدر لا بأس به من حرية التعبير، حين كانت كل التجارب المسرحية العربية تخضع للرقابة... خلال ثلاثين سنة لم تصادر لي مسرحية، وأنا اليوم أكتب بوعي ومسؤولية ذاتية... لكننا كنا وقحين في السبعينات، واكتشفنا لدى الإدارة الرسمية والجمهور رحابة صدر اتسعت لجنوننا ومشاكساتنا. والابداع، إما أن يقترن بمناخ من الحريّة أو لا يكون! والحرية تنعكس على صحافتنا، وعلى شتى المجالات الأدبية والفكرية الأخرى... ولو استثمرنا هذا الجانب، إعلامياً وإبداعياً، فهو سيعطينا تميزا على المستوى العربي والعالمي. هناك من يرى أن المسرح التجاري المغربي أفسد المشهد المسرحي ؟ - ليس هناك مسرح تجاري وآخر غير تجاري: هناك مسرح فقط. في مسرحنا لا نبيع الفكاهة والضحك، بينما في معظم المسرح المصري يبيعون للجمهور أجساداً واسفافاً وشعارات. أما المسرح الأصيل فأصوله نبيلة ودينية كما تعرف،، وحينما نذكر المسرح نذكر سوفكل وشكسبير وغيرهما، ونذكر أعمدة الفكر والأدب. أما ما نشاهده اليوم في المسرحي الغربي، من عروض فكاهية تسعى إلى إضحاك الجمهور بشتى الوسائل، فليست سوى أعمال رخيصة لا علاقة لها بالرسالة النبيلة للمسرح. إذاً لست مع المسرح التجاري ؟ - أنا أقول: لهم مسرحهم ولنا مسرحنا... والحياة للأقوى والموت البطيء للمزيف. لكلّ اتجاه مبادئه وثقافته ورؤيته للعالم والواقع والحياة. ولكلّ اتجاه جمهوره أيضاً. ألا ترى أن الجمهور هو المسؤول عن انتشار المسرح الرديء ؟ - أسألك بدوري: هل هذا الجمهور يعرف ما يريد؟ الجمهور كمتلقٍ ضمني، ألوان متعددة، هناك الواعي والأمي، المثقف والغبي... نعم الجمهور مسؤول في كل الحالات... لكنّ أي جمهور؟ هل النقد المغربي يواكب المسرح ؟ - النقد المغربي متعدد الخانات والواجهات والجبهات. هناك قراءات أولية صحفية، فيها مجاملات وأخوانيات... وهناك نقد أكاديمي يقوم به باحثون، ويدرس النصوص والعروض، وبالتالي فيه حرارة النقد العلمي الجاد والهادف، لكنّه يفتقر أحياناً إلى إلمام بالجماليات والخلفيّات وإلى التماسك المنهجي والنضج النظري. ومن هنا يمكن القول إن النقد لا يواكب العمل المسرحي، والمطلوب إيجاد نقد مسرحي يقرأ العرض قراءة عالمة، المطلوب ايجاد نقد موضوعي يلعب دوراً في تحديد مسار الحركة المسرحية المغربية. الناقد المسرحي المغربي لا يسير في مقدمة الركب، بل في المؤخرة، في حين أن النقاد في أوروبا هم الذين يقودون الحركات المسرحية. وأين تقع مسؤوليّة المسرحيين؟ - إننا نعترف كمسرحيين، اننا أخطأنا جميعاً، أخطاء ساهم فيها الرواد بشكل كبير، لأنهم كانوا أنانيين وهم يطرقون الأبواب. فلم يؤسسوا نقابة أو اتحاداً، ولم ينشغلوا بمشاكل المسرح بقدر ما انشغلوا بمشاكلهم الخاصة. وهنا يمكن القول بأن المسرح المغربي أمام العديد من المشاكل. ومع ذلك يعرف مسرحنا اليوم انتعاشاً ملحوظاً، بعد أن عاش مرحلة الصفر خلال كل هذه السنوات. بعيداً عن المسرح ماذا يعشق برشيد ؟ - المسرح هو أب كل الفنون، وعشقي له لا يضاهيه أي عشق. ففيه توجد كل ألوان الطيف الحالم. من هم أصدقاؤك ؟ - كثيرون في فلسطين والعراق ولبنان والأردن والسعودية والسودان وعمان وموريتانيا... هؤلاء الأصدقاء كرموني في بلدانهم أكثر مما كرّمت في بلدي. بماذا يحلم عبدالكريم برشيد ؟ - أحلم بمغرب من دون فقر أو أمراض أو أمية