عندما تعرض ولي العهد ورئيس الوزراء الكويتي الشيخ سعد العبدالله الصباح قبل ثلاث سنوات لحادث صحي، سارع الأمير الشيخ جابر الأحمد الصباح الى المستشفى الأميري، واختار ان يوقع شخصياً على تعهدات "المسؤولية العائلية" التي يطلبها الاطباء عادة قبل اجراء الجراحة على المريض. وبقي أمام غرفة العمليات حتى تم الانتهاء من العملية العاجلة التي اجريت لوقف النزيف في الأمعاء واطمأن على سلامة رفيق عمره، الذي اختار ان يذهب ليستريح في مزرعة له في بر الصليبية تمنحه أجواء الاعتكاف والراحة. لكن طيبة الرجل جعلته يساير أولئك الذين أفهموه ان "ما فيه الا العافية" فتناول طعاماً دسماً خلافاً لتوجيهات الاطباء فتكرر النزف بصورة أشد، اذ ان سعد العبدالله كان يتبع نظاماً غذائياً خاطئاً وبرنامج عمل مليء بالتفاصيل والإلحاح والمواظبة، وهو ما جعله ينسى تناول الطعام لأوقات طويلة، ثم يعوض كل ذلك لمرة واحدة، فوقع له ما وقع. يومئذ تقرر نقله الى لندن بطائرة اخلاء طبي وفرتها له المملكة العربية السعودية. ولا ينسى الكويتيون ذلك المنظر الكئيب الذي حفرته سيارة الإسعاف في ذاكرتهم وهي تشق طريقها من المستشفى الواقع في قلب العاصمة الى المطار. وغاب الشيخ سعد العبدالله شهوراً، ليتأكد له في النهاية ولأبناء الأسرة الحاكمة نفسها، وللشارع العريض في الكويت، ان سعد العبدالله لن يعود أبداً كما كان في السابق، يزور 20 ديوانية في ليلة واحدة من ليالي رمضان، ولن يستطيع ان يلازم مكتبه مقلباً الأوراق والملفات لمدة 18 ساعة. ولكن هل يعتزل الشيخ سعد الحكم لأنه أصبح مريضاً لا يقدر على المواظبة السابقة والإلحاح التفصيلي الذي كان يمارسه في أدائه لصلاحياته؟ فالطبقة السياسية كانت تعتب عليه جراء انهماكه في كل شيء لدرجة ان اسلوبه انعكس على مجمل الادارة السياسية في الكويت، فالوزير في الحكومة الكويتية، على سبيل المثال، يوقع معاملات توظيف العاملين، ومئات المعاملات والأوراق كل يوم. وهكذا كانت الطبقة السياسية تتندر، في ان الشيخ سعد يتدخل احياناً بتعيين الموظفين! قبل ذلك كانت النظرة الى أسلوب الشيخ سعد وطريقته تنطوي على بعض التجاذب، فالليبراليون وهم متصادمون تاريخيون معه كانوا يلحون على ضرورة إفساح المجال امام ادارة سياسية جديدة، تحت شعار عريض ولافت ينادي بضرورة "فصل ولاية العهد عن رئاسة مجلس الوزراء". وكان الشيخ سعد العبدالله يضيق كثيراً بهذا الشعار الذي وصل في مرحلة الى لبّ الأسرة الحاكمة فرفعه بعض من شبابها، وبلغ الأمر حداً جعل الناس تضحك وهي تقول: ان الشيخ سعد يكره كلمة "الفصل" حتى اذا جاءت في سياق جمل مفيدة كأن تقول "الفصل الدراسي" أو "فصل الإناث عن الذكور" أو "فصل الربيع"! وعندما خرج الأمر من دائرة التندر ودخل في اطاره الجدي الى حد تداعي القوى السياسية الى بحث تفعيل المادة 102 من الدستور الخاصة بإعلان البرلمان عدم التعاون مع رئيس الحكومة، كان الجواب من الأمير جابر الاحمد، هادئاً ومتواضعاً ومؤدباً جداً: "أرجوكم، إن هذه المسألة تخصني وحدي فلا يطرحها أحد". وأعلن عن ذلك صراحة خلال خطاب ألقاه وتمحور حول هذه المسألة على قلة خطاباته وقصرها وبلاغتها. وتعيين رئيس الحكومة هو شأن الأمير، حسب نص الدستور، وقد درج في الكويت منذ الاستقلال على ان ولي العهد هو رئيس الوزراء، وبالتالي فهي لم تشهد منذ العام 1961، سنة اعداد الدستور، غير ثلاثة أولياء عهد كانوا هم أنفسهم رؤساء الوزارات. هكذا، وعلى التوالي، الراحل صباح السالم الصباح، وجابر الأحمد نفسه، وأخيراً سعد العبدالله الصباح. وهكذا ايضاً فإن الخلل في الأداء الحكومي الذي كان يتحمله الشيخ سعد في مجتمع كثير التذمر والشكوى تبلور في السنوات السابقة لمرضه الى دعوة لمجيء ادارة سياسية جديدة، مع ما يقصده ذلك من الدفع الى أمام بوجوه جديدة من الأسرة الحاكمة، وتقاطع ذلك مع الدعوة الى جعل منصب رئيس الوزراء مستقلاً عن ولاية العهد. والواقع ان هذه المسألة تنطوي على اشكالية واضحة، فالدستور يتحدث ضمناً عن تفريق بين المنصبين، واجراءات تعيين ولي للعهد منصوص عليها في مادة مستقلة، اما رئيس الحكومة فإن منصبه خاضع للمساءلة السياسية ولكل موجبات النتائج الناجمة عن الأداء الحكومي. ومن هنا نشأت المفارقة، وهي ان البرلمان اذا مضى قدماً في مساءلة رئيس الوزراء، فإن الأمر ينطوي على تجريح غير مرغوب به في الانظمة الوراثية لمن هو في الواقع أمير البلاد في المستقبل، والذي هو فوق المساءلة وذاته مصونة. المادة الرابعة وبحسب نص المادة الرابعة من الدستور الكويتي، فإن ولي العهد "يعين خلال سنة على الأكثر من تولية الأمير، ويكون تعيينه بأمر اميري بناء على تزكية الأمير ومبايعة من مجلس الأمة تتم في جلسة خاصة بموافقة غالبية الاعضاء الذين يتألف منهم المجلس. وفي حال عدم التعيين على النحو السابق يزكي الأمير لولاية العهد ثلاثة على الأقل من الذرية المذكورة ذرية مبارك الكبير فيبايع المجلس احدهم ولياً للعهد"، اما رئيس الوزراء فإن المادة 56 من الدستور تنص على ان الأمير "يعين رئيس مجلس الوزراء بعد المشاورات التقليدية ويعفيه من منصبه". وتحدد المادة 102 شروط مساءلة رئيس الوزراء الذي "لا يتولى اي وزارة ولا يطرح في المجلس موضوع الثقة به". ومع ذلك "إذا رأى مجلس الأمة عدم امكان التعاون مع رئيس الوزراء رفع الأمر الى رئيس الدولة. وللأمير في هذه الحالة ان يعفي رئيس مجلس الوزراء ويعين وزارة جديدة. او ان يحل مجلس الأمة". وفي حال الحل، اذا قرر المجلس بالغالبية ذاتها "عدم التعاون مع رئيس مجلس الوزراء اعتبر معتزلاً منصبه من تاريخ قرار المجلس في هذا الشأن وتشكل وزارة جديدة". الحديث في مثل هذه المداخلات كثير ويطول. لكن الاعراف تبدو احياناً، بل في المجمل أقوى من النصوص، وأقوى من الحالتين العواطف ومشاعر مراعاة الكرامة والاحترام التي تسود مثل هذه الانظمة العائلية المتضامنة، والتي قد تختلف رؤاها بعض الشيء، في كثير أو قليل، لكنها تجد نفسها محكومة بمعادلة لا تفهم منهاج الانقلاب ولغة القوة السياسية وتداعياتها البرلمانية والاعلامية. لذلك كان الحسم هذه المرة، وكما في مرات سابقة، في مسألة بقاء ولي العهد الشيخ سعد في منصبه كرئيس للوزراء من جانب الأمير جابر الاحمد شخصياً... وذلك ضمن منطق ان ما فعله شخص مثل الشيخ سعد للكويت لا يمكن ان تمحوه حالة مرض أو وضع صحي عام لا يتيح لصاحبه ان يكون بذات القوة والأداء، كما كان يفعل قبل عقد أو عقدين، فالشيخ سعد هو أحد بناة الكويت الحديثة، وشارك في التشكيل الوزاري من دون أي انقطاع خلال 19 حكومة شكل عشراً منها وعمل منذ الاستقلال في مناصب وزارة الداخلية والدفاع ورئاسة الحكومة، وبعد تحرير الكويت أصبح حاكمها العرفي. وقام بدور مشهود في الحركة والمواظبة إبان الاحتلال، وكان ذو جلد كبير على العمل الى درجة ان جيمس بيكر وزير الخارجية الاميركي السابق أشار في مذكراته إلى ذلك. الأمر الآخر الذي يحكم المعادلة المحتدمة في الكويت هو ان الجميع الآن سيسلم أمره الى حكم الزمن، وتصاريف الأقدار، واذا كانت هذه الأمور بيد الله، فإن أبسط ما يمكن ان يفعله الانسان هو الوفاء، وهذا ما قاده الشيخ جابر الأحمد خلال الأيام الماضية ومن ورائه اسرة حاكمة برمتها، وبالتالي كان استمرار تكليف الشيخ سعد العبدالله تشكيل الوزارة الجديدة. اما ما بعد ذلك، من تفويض الصلاحيات ومراسيم الإنابة ومن الذي سيتصدر للأداء مع البرلمان وتقليب توجهات العمل الحكومي داخلياً وخارجياً بوجه المشاكل والمعضلات فيدخل في باب التفاصيل