تحول النمو السكاني المكثف في القرن التاسع عشر الى كابوس بالنسبة الى المجتمعات الأوروبية، واعتقدت بريطانيا ان الحل سيكون بالنسبة اليها في المستعمرات حيث شجعت مواطنيها على الهجرة. أما في المانيا فقد فكّر بعضهم في بناء المانيا الكبرى واستعمار بعض الأراضي الروسية التي كانوا يعتبرونها قليلة السكان. لكن بعد مئة سنة تغيرت الأوضاع حيث ان النصف الثاني من القرن العشرين شهد تغيراً في وجهة الهجرة بسبب النمو الاقتصادي الكبير الذي تعيشه المجتمعات الغربية. لم يعد هاجس البلدان الكبرى النمو السكاني بل الحاجة الى اليد العاملة من جهة وضرورة تجديد مجتمعاتها التي أصبح معظمها من المتقاعدين من جهة أخرى. اضف الى ذلك الاحصاءات التي تؤكد ان نسبة الطبقة العاملة الاسبانية مثلاً ستتوقف عن النمو بعد سبع سنوات مما سيحول المهاجرين الى ضمانة لمعاشات تقاعد الاسبان. وفي بقية البلدان الأوروبية لا يختلف الوضع كثيراً عن ذلك، فلولا وصول المهاجرين لكان عدد سكان المانيا وايطاليا واسوج قد انخفض بشكل مخيف، فسبعون في المئة من النمو السكاني في أوروبا يعود الى الهجرة، وفي اسبانيا تزيد هذه النسبة على الثمانين في المئة، وعلى رغم كل ذلك وعلى رغم التقرير الذي نشرته الأممالمتحدة قبل أشهر قليلة حول حاجة اسبانيا الى 12 مليون مهاجر خلال نصف قرن لسد حاجاتها العمالية والاجتماعية والسكانية والاقتصادية، إلا أن هذه المملكة الأوروبية غيّرت قوانين الهجرة فيها وبدأت في أواخر الشهر الماضي العمل بقانون جديد للأجانب تعرَّض لانتقادات جميع الأحزاب السياسية وأثار جدلاً داخل الحزب الشعبي الحاكم وخارجه. وقد هدد النائب الفرنسي في البرلمان الأوروبي، العربي الأصل سامي ناير بأن الاتحاد الأوروبي سيعاقب اسبانيا بسببه حيث انه يمنع المهاجرين الذين يعيشون بشكل غير شرعي على أراضيها من التظاهر والتجمع والاضراب. إلا أن الحكومة الاسبانية تؤكد ان القانون الجديد يساعد على اندماج الأجانب في المجتمع الاسباني بسهولة أكثر. غير أن موقف جمعيات المهاجرين والنقابات العمالية مختلف، فهي بدأت بتنظيم تحركات من بينها التظاهر والاعتصام في الكنائس والاضراب عن الطعام والضغط على أرباب العمل والتهديد بالعودة الى بلدانهم، ما سيتسبب بشكل خاص بفقدان المحاصيل الزراعية وخسارة مئات ملايين الدولارات. وقد لاقت هذه المواقف تشدداً من السلطات الاسبانية التي أكدت نيتها عدم الرجوع الى الوراء أمام ما تعتبره تهريباً لآلاف المهاجرين على يد مافيات تستغل وضعهم اليائس وتقوم بابتزازهم. فالمهاجر السري يدفع آلاف الدولارات للوصول الى اسبانيا بعد حجز بيته ورواتب عائلته في بعض الأحيان من دون أية ضمانة بعدم كشف أمره قبل دخوله الحدود، وبالطبع من دون تأكده من الحصول على بطاقة اقامة واذن عمل في اسبانيا. ضحايا شبكات التهريب وتعتبر اسبانيا باب افريقيا على أوروبا على رغم ان التدفق الأكبر للمهاجرين اليها يحصل من أميركا اللاتينية عن طريق المانيا وهولندا وايطاليا وبريطانيا. وتؤكد الاحصاءات الأخيرة ان اسبانيا أعادت أكثر من 15 ألف مهاجر وصلوا اليها خلال العام الماضي في قوارب صغيرة بعد غرق 54 منها وانتشال 60 جثة واختفاء 47 شخصاً، كما فككت 262 شبكة تهريب بعد اعتقال أفرادها الذين بلغ عددهم 3179 شخصاً. وقد وقّع أخيراً مثقفون عرب وأجانب بينهم الحائز على نوبل الآداب الكاتب البرتغالي خوسيه ساراماغو والكاتب اللبناني أمين معلوف عريضة تندد بتحول مضيق جبل طارق الى "سور جديد للعار" نظراً الى تدفق المهاجرين الأفارقة عبره. وبعد يوم واحد على بدء العمل بقانون الأجانب الجديد بدأت وزارة الداخلية الاسبانية التحرك في اتجاه البلدان المصدرة للمهاجرين بهدف التوصل الى اتفاقات ترضي جميع الأطراف. وكانت مدريد عرضت على المغرب تمويل حملة إعلامية تهدف الى توعية السكان على مخاطر الهجرة السرية في الوقت الذي يحاول اتحاد رجال الأعمال رصد أموال لتعليم المهاجرين وتنشئتهم قبل مجيئهم الى اسبانيا. لكن زيارة الوزير الاسباني خايمي مايور اوريخا الى الرباط أواخر العام الماضي لم تثمر عن أي تقدم في هذا المضمار. واعترف الوزير الاسباني بعد اجتماعه بنظيره المغربي أحمد ميداوي بضرورة احترام أولويات المغرب الذي رفضت سلطاته، محقة طبعاً، استعادة مهاجري ما وراء الصحراء الذين دخلوا اسبانيا عن طريق المغرب. فليس لدى بلدان ما وراء الصحراء معاهدات مع اسبانيا وهي لا تعترف بمواطنيها مما يجعل اعادتهم الى بلدانهم مستحيلة. وقد توصلت السلطات المغربية الى اتفاق مع اسبانيا يقضي بتشكيل مجموعات عمل لمعالجة هذه الظاهرة. اما بالنسبة الى القوارب التي يطلق عليها اسم "قوارب الموت" فيقودها في بعض الأحيان فتيان يبلغون الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمرهم تحاشياً للاعتقال والمحاكمة أو اعادتهم الى بلدانهم، حيث ان القانون الاسباني يمنع ارجاع القاصرين، وهي تنقل أعداداً من المهاجرين المغاربيين والأفارقة الذين يصعب على حرس الحدود المغاربة والاسبان كشف أمرهم قبل الوصول الى الشواطئ. كما تحركت ايضاً السلطات الاسبانية باتجاه الاكوادور وهو البلد الثاني المصدر للمهاجرين بعد المغرب، فوقع البلدان معاهدة تقضي بتشكيل لجنة مشتركة تقوم بتقويم حاجات الطرفين واختيار العمال الراغبين في الهجرة الى البلد الأوروبي. وتأمل اسبانيا، بناء على هذه المعاهدة، في ارجاع من يريد من المهاجرين الاكوادوريين الذين يعيشون على أرضها بشكل غير قانوني، والذين يزيد عددهم على 160 ألفاً على نفقتها الخاصة لتسوية أوضاعهم في سفارتها حسب الأصول القانونية، ومنحهم سمة الدخول التي تخولهم الحصول على بطاقة الاقامة وإذن العمل. لكن معظم المهاجرين يرفضون هذا الأمر ويطالبون بتسوية أوضاعهم من دون مغادرة الأراضي الاسبانية، لثلاثة أسباب: الاطباء والمحامون عمال زراعيون أولها حاجة أرباب العمل الماسة اليهم في الزراعة والبناء والأعمال المنزلية. وثانيها خسارتهم لمعاشاتهم خلال تغيبهم عن العمل لمدة شهرين أو ثلاثة. والسبب الثالث عدم ضمان عودتهم بعد تحديد اسبانيا عدد المهاجرين الاكوادوريين والاختصاصات التي تحتاجها. ويعود تخوفهم هذا الى كونهم ينتمون في معظمهم الى فئات معينة من المجتمع، فبينهم الجامعيون والأطباء والمحامون الذين لا يعتبرون من ذوي الاختصاص في جني المزروعات أو في الأعمال المنزلية، اضافة الى اعتقادهم بأن لدى اسبانيا التزامات سياسية واقتصادية واجتماعية مع المغرب تدفعها الى عقد اتفاقات تمنح مواطنيها أفضلية العمالة، بعدما ترددت معلومات عن امكانية اعتماد أذونات عمل موقتة وموسمية تسمح للعامل المغربي بالمجيء سنوياً الى اسبانيا للعمل في موسم زراعي أو سياحي معين، وهو أمر يستحيل على الأميركيين الجنوبيين القيام به نظراً الى البعد الجغرافي. ولا شك في أن موضوع الهجرة السرية الى اسبانيا معقد وصعب لم تعالجه الحكومة الاسبانية كما يجب نظراً الى وجود تيارات مختلفة داخل الحزب الشعبي الحاكم من جهة، ولأن الاتحاد الأوروبي يفرض قوانينه الاجتماعية على جميع اعضائه من جهة ثانية. بالاضافة الى ان اسبانيا تراعي طريقة تفكير مواطنيها. فقد نشر "مركز الأبحاث الاجتماعية" الرسمي تقريراً في أواخر الشهر الماضي يؤكد ان 49.4 في المئة من الاسبان عنصريون، لكن بنسب متفاوتة. وهذا الأمر يقلق المسؤولين الذين ربما يعتقدون بأن تدفق المهاجرين قد يتسبب بارتفاع نسبة العنصرية في البلاد. لكن العكس هو الصحيح، فالعنصرية في المانياوفرنسا هي أقل منها في اسبانيا بسبب كثرة عدد المهاجرين وانخراطهم في المجتمع الذي يعيشون فيه. ويقول الخبير الفرنسي في شؤون الهجرة باتريك ويل ان العنصرية موجودة في كل مكان لكن المشكلة تكمن في تقوية اللاعنصرية عليها. وفي هذا السياق، لاسبانيا وضع خاص تتمتع به داخل الاتحاد الأوروبي نظراً لوجودها، أولاً، على الحدود مع افريقيا ولعلاقاتها المميزة مع البلدان الافريقية والأميركية اللاتينية. وثانياً لأن الاسبان لم ينسوا ان حوالي 2.3 مليون مهاجر منهم أي أكثر من خمسة في المئة ما زالوا يعملون في اميركا اللاتينية وأوروبا. فالهجرة في اسبانيا هي في معظمها مغاربية واكوادورية اضافة الى بعض المهاجرين من أوروبا الشرقية والصين ودول اميركية لاتينية أخرى. وهذا الأمر يساعد على تقوية اللاعنصرية بدلاً من اضعافها، ما يؤكد ان العلاج القائم غير صحيح. وبالطبع لا يمكن لاسبانيا ان تتساهل في منح جميع المواطنين الذين يعيشون بشكل غير قانوني اقامات واذونات عمل قانونية لأن ذلك يساعد على تشجيع تدفق المهاجرين اليها. فالاحصاءات تؤكد وصول 500 ألف مهاجر سنوياً الى أوروبا. لكن بوسع مدريد ان تعمل داخل الاتحاد الأوروبي على حماية الحدود بشكل فعال والاتفاق مع البلدان المصدرة للهجرة على آليات لتنظيم هذه الهجرة قبل ترحيل من وصل اليها وخاطر بأمواله وأموال عائلته. فنسبة المهاجرين في اسبانيا لا تتعدى 2.5 في المئة في الوقت الذي تزيد فيه على 8 في المئة في المانيا وبلجيكا، وفي فرنسا أصبح الاسلام ثاني الأديان المعترف بها. لقد بات من الواضح ان الهجرة أصبحت حقيقة أكثر منها هدفاً مستقبلياً، أما المهاجرون فباتوا يفكرون انهم بحاجة الى العمل في البلدان التي تستقبلهم لكسب الأموال التي تتحول الى مبالغ طائلة في بلدانهم بسبب التضخم الموجود في معظمها، ولكنهم يتساءلون في الوقت نفسه عما إذا كان ذلك يستحق المجهود الذي يبذلونه في مراكز عملهم وفي الابتعاد عن عائلاتهم وتحولهم الى ضحايا العولمة التي جلبت معها ما لم يعرفونه في بلدانهم، مثل مرض البقر المجنون واليورانيوم المنضّب والمأكولات المصنعة والمحولة جينياً وازدياد العنصرية والمطاردة الاجتماعية