أشارت آخر الدراسات الى ان عدد المهاجرين في إسبانيا بات يشكل نسبة 10 في المئة من سكانها. وعلى رغم تحولها من دولة مصدرة للمهاجرين الى دولة مستقبلة خلال سنوات قليلة، فإن إسبانيا أصبحت تحتل اليوم المرتبة الثانية عالمياً، بعد الولاياتالمتحدة الأميركية من حيث عدد القادمين اليها بحثاً عن حياة أفضل. وفي أجواء الجدال القائم اليوم في أوروبا عموماً وإسبانيا خصوصاً حول إيجابية هذا الأمر أو إمكان تحوله الى مشكلة بالنسبة إلى"السكان الاصليين"، خصوصاً بعد سماع خطابات زعماء تنظيم"القاعدة"وبعض المتطرفين المهووسين باستعادة الأندلس، بدأت دول الاتحاد الأوروبي تعالج في شكل جدي هذه الظاهرة، من كل جوانبها. فهي تبحث عن وسائل الاندماج وتقوم بتحديث بعض قوانينها لدفع المهاجر الى الشعور بأنه لم يعد مواطناً من الدرجة الثانية. ولهذا الأمر ثمن سيدفعه المجتمع الأوروبي والمهاجر على حد سواء. إسبانيا هي أحد أوسع الأبواب التي يدخل منها المهاجرون في شكل غير شرعي، وأثار حفيظة بعض شركائها منح بطاقات اقامة الى مئات الآلاف منهم، متجاوزة بذلك توجيهات دول الاتحاد. وعلى رغم ان معظم الأوروبيين يعرفون مدى حاجتهم لليد العاملة الأجنبية التي تساهم، من جهة، وفي شكل كبير، في بناء البلاد وتقدمها وازدهارها، وتضمن من جهة اخرى نظام التقاعد والضمان الاجتماعي والصحي، القائم في شكل رئيس على مساهمات الطبقة العاملة، لكنهم يتخوفون من عدم اندماج"الاسبان الجدد"في مجتمعاتهم في شكل طبيعي، ما سيؤثر في تعايش ابنائهم معهم في المستقبل. ولذلك فإن نظرتهم تختلف باختلاف جنسيات المهاجرين والمجتمعات والدول التي يأتون منها وألوانهم واعتقاداتهم الدينية والإثنية. ويبدو ان مهاجري اوروبا ينتمون الى 183 جنسية من كل القارات، علماً ان الأوروبيين بينهم قد اصبحوا أكثرية بعد انخراط بعض دول أوروبا الشرقية في الاتحاد الأوروبي، حيث تضاعف عدد المهاجرين من هذه الدول خلال العام الحالي. على رغم انه لا يمكننا ان نحدد العدد الدقيق للمهاجرين في اسبانيا نظراً لوجود أعداد كبيرة من المقيمين بصورة غير شرعية، لكن الارقام الرسمية تشير الى وجود نحو اربعة ملايين مهاجر يحملون بطاقة اقامة، بينهم 655 الف مغربي و515 ألفاً من رومانيا ونحو 400 ألف من الاكوادور و250 ألفاً من كولومبيا و193 ألف بريطاني و 118 ألف إيطالي و113 ألف صيني و180 ألفاً من بلغاريا وألوف من بولندا وأوكرانيا وروسيا وبوليفيا وغيرها ... وقد اشترى 500 ألف منهم، خلال النصف الاول من السنة الجارية منازل، ما يؤكد دراسات رسمية تشير الى ان 70 في المئة من المهاجرين اختاروا اسبانيا للبقاء فيها. ونظراً للامتداد الجغرافي بين اسبانيا والمغرب وعامل اللغة الذي يجمع سكان دول اميركا اللاتينية بالإسبان، فإن اجتياز الحدود بصورة غير شرعية سهل ويسير. لكن اسباب مجيء أعداد من المهاجرين من دول اوروبا الشرقية، البعيدة جغرافياً، الى اسبانيا لا تفسير له سوى كونه تطبيقاً لسياسة التوازن الديني والإثني والعرقي التي تتبعها الحكومات الاسبانية وربما بدأت باللجوء اليها دول اوروبا التي تحتاج الى 20 مليون مهاجر خلال السنوات المقبلة ويشغر لديها حالياً 300 الف مركز عمل تقني، خصوصاً في قطاع الاتصالات، بحسب مكتب الإحصاء الأوروبي اوروستات. المانيا تحتاج الى المهندسين والتقنيين، واسبانيا وفرنسا وبريطانيا ينقصها الاطباء والممرضون. أي ان اوروبا اصبحت تبرمج دخول المهنيين وأصحاب الكفاءات والعمال والموظفين من جنسيات مختلفة بطريقة لا تفرغ بها البلدان المصدرة للهجرة من كفاءاتها ولا تُغيّر لون او دين مجتمعاتها. فاحصائيات الاممالمتحدة تؤكد ان عدد مهاجري العالم يبلغ نحو 190 مليون شخص، ثلثهم جاء الى اوروبا وخمسهم ذهب الى الولاياتالمتحدة الأميركية. عدد المهاجرين الى اسبانيا ازداد خلال الاشهر التسعة الاولى من هذه السنة بنحو 700 الف شخص، بينهم اكثر من نصف مليون اوروبي شرقي. فبعد انخراط رومانياوبلغاريا في الاتحاد، اوائل هذا العام، تضاعفت ارقام المهاجرين من هاتين الجنسيتين، بسبب تشريع اقامة من كان غير شرعي من جهة او قدوم مجموعات بينها اعداد لا يستهان بها من الغجر. مع كل ما يترتب على هذا الامر من نتائج ايجابية او سلبية. وحتى عام 2002 كانت الاتفاقيات الثنائية بين رومانيا وإسبانيا تتركز على مشكلة قبول الاولى استقبال المهاجرين الذين كانت ترحلهم اسبانيا بسبب اقامتهم غير الشرعية. وبعد ذلك العام وقع البلدان اتفاقيات تعهدت في إحداها اسبانيا رفع حصة رومانيا من العمال لتصبح الجالية الرومانية ثاني اكبر جالية على ارضها بعد الجالية المغربية وتتحول بذلك إلى ثاني بلد يقصده الرومانيون بعد المانيا. اما بالنسبة إلى البلغاريين، فتربطهم بإسبانيا علاقات منذ لجأ ملكهم الى مدريد وعاش ولي عهدهم الملك سيمون فيها الى حين عودته لترؤس حكومتها. ويحمل اولاده وأحفاده الذين ما زالوا يعيشون في اسبانيا جنسيتها. واذا عدنا الى الاحصاءات، فإن نسبة الرومانيين كانت الثانية في الارتفاع بعد البوليفيين بين عامي 2002 و2005 حيث بلغت 89 في المئة، يليهم البلغاريون بنسبة 65 في المئة فالأوكرانيون 53 في المئة وتأتي بعد ذلك دول اميركا اللاتينية. لكن هل في إمكان هذه الهجرة ان تفي حاجة اسبانيا الى العمالة؟ فهي ما زالت في اول الطريق والصعوبات كثيرة ويلزمها الوقت والارادة وتجاوب الطرفين، اي المهاجرين والاسبان على حد سواء. والاسبان هم من الاوروبيين الذين يلزمهم ايضاً التدريب على التعايش وباتوا غير مستعدين للمخاطرة بعدما خبروا مآسي اهمالهم التعرف على طبيعة بعض الفئات التي تعيش على ارضهم. ومن ناحية اخرى هناك مجموعات من الطرفين، تساهم في اثارة الغرائز العنصرية. وتشير احدى الدراسات الى ان"الاسبان بعامة ليسوا عنصريين بطبعهم، لكن هذا المرض الاجتماعي بدأ بالتفشي، ولو في شكل ضعيف في كل اوروبا"... يشعر مواطنون إسبان ان ثمة من يشاركهم خيرات بلدهم. وعندما سئلت احدى السيدات، التي تقيم في حي شعبي يكثر فيه المهاجرون في مدريد، حول التعايش والعنصرية والاندماج، قالت انها"ليست عنصرية لكن الذين يتكلمون عن ضرورة التعايش وسهولة الاندماج واللاعنصرية يعيشون في الأحياء الغنية ولا يعانون المشاكل التي يتسبب بها الاجانب". ويدرك الاسبان في الوقت ذاته ما سيحل بهم إذا استفاقوا يوماً على رحيل المهاجرين. فلا ورش البناء تعمل ولا المطاعم والمقاهي واسواق الخضار واللحوم والاسماك, ولن يتمكن كثيرون من الذهاب الى اعمالهم لعدم وجود من يهتم بالاولاد والمسنين... الى ما هنالك من قطاعات يملأ شواغرها العمال الاجانب. اي ان حاجتهم في بعض القطاعات قد اصبحت مغطاة على رغم حجاب المسلمة ومنديل رأس الرومانية او وزرة الغجرية والبلقانية او لحية الباكستاني. وفي الوقت الذي يبدو ان المهاجرين المغاربة يستقرون في اسبانيا ويأتون بعائلاتهم، بأصولها وفروعها احياناً، ويربون اطفالهم فيها ويتجنسون، فإن المهاجرين الرومانيين يعطون انطباعاً بإقامة موقتة على رغم اندماجهم بسهولة وتعلمهم اللغة. فإسبانيا هي مشروع موقت بالنسبة إلى مهاجري اوروبا الشرقية، يجمعون المال فيها ليعودوا الى بلادهم. ومعظمهم يحمل شهادات جامعية لا تساعده في العمل بمهنته, فيذهب إلى ورش البناء. والروماني اضافة الى انه اشقر ومثقف ويشاطر الاسبان الدين، ينتمي الى جالية"من الصعب ان يندس في داخلها إرهابيون يخططون لتفجيرات". وتشير مصادر الشرطة الى ان مجموعات كثيرة من النشالين او افراد عصابات السرقة وتهريب المخدرات جاؤوا من اوروبا الشرقية، وأن غالبية المتسولين وباعة الصحف ونشالي حقائب السيدات... هم من تلك المنطقة ايضاً. وبما ان للرفاهية ثمنها، فالإسباني يعرف انه يدفع ثمناً للنقص الديموغرافي وافتقار مجتمعه الى اعداد من الشباب. وتشير الارقام الى ان آباء اكثر من 20 في المئة من الولادات في اسبانيا هم من الاجانب. اما مصادر الشرطة فتؤكد عدم مواجهتها مشاكل تذكر مع افراد الجالية المغربية الاكثر عدداً، في حين ان التعقيدات الكبيرة بالنسبة إليها هي بين الرومانيين والالبان من كوسوفو وجيرانهم من الجمهوريات السابقة. وبالنسبة إلى المغاربة، فإن اندماج المثقفين من بينهم يتم بسهولة، في حين يجد ابناء بقية الطبقات صعوبات تطغى عليها التقاليد الاجتماعية والدينية. وكما ان المغربي الذي يعيش في مقاطعة الاندلس او غيرها من تلك التي تكثر فيها آثار العرب يشعر وكأنه يعيش على ارضه كما يرى فيه المواطن الاسباني قريباً وجاراً وموضع ثقة، اما المهاجر الروماني فغريب وبعيد على رغم اوروبيته, لكن الاسباني يطمئن إليه اكثر. وعلى رغم ذلك من الصعب ان نجد عائلات مختلطة رومانية واسبانية على عكس ما نشاهده بين المغاربة والاسبان. لكن احد اهم الاسباب التي تدفع المواطن الاسباني الى الارتياح للأوروبي الشرقي، قبل الدين واللون والاصل والثقافة، تعرض عاصمته عام 2004 لعملية ارهابية تسببت في مقتل 191 شخصاً ودين بتنفيذها عدد من المغاربة. اما بالنسبة إلى المعتقدات الدينية التي تشكل احد عوائق الاندماج، فمعظم الاسبان من غير المتدينين، يحترمون كل الاديان ويعتبرونها شأناً خاصاً يجب ألا يؤثر في العلاقات بين الأفراد, وهم يساهمون في بناء مراكز العبادة للمسلمين ومختلف الأديان. وكما تقوم الحكومة بالتعاون مع ممثلي الجاليات الرومانية والبلغارية وغيرها ببناء المعابد، يتم التنسيق مع ممثلي الجاليات المسلمة لإقفال مراكز لا تليق بالمصلّين واستبدالها بمراكز يؤمها مؤمنون"لا تجار الدين الذين يستعملونها لمآرب غير شرعية". وقد اصبح عدد مراكز العبادة للجالية الأوروبية الشرقية يضاهي عدد المساجد التي تعد بالمئات. فإسبانيا تساهم في تمويل الجمعيات الدينية صاحبة التمثيل والمعترف بها, لكنها لا تتساهل مع بعض المعتقدات التي تتناقض مع قوانينها ودستورها او مع بديهيات العصر الذي نعيش فيه او مع الحقوق الفردية للانسان والطفل. ولذلك فإن المشاكل مع الجاليات الاوروبية تختلف عن تلك التي تواجهها إسبانيا مع المغاربة او الباكستانيين والصينيين والهنود والافارقة وغيرهم. وهي لا تطلب من المهاجرين تغيير العادات العائلية والاجتماعية وربما الدينية المتجذرة فيهم والتي يحملونها معهم لا بل تحديثها للوصول الى قاسم مشترك بين فنزويلي اسود وأرجنتيني يهودي ومغربي مسلم وإكوادوري انجيلي وإسباني ملحد سيشكلون إسبانيا المقبلة.