كانوا ثلاثة أصدقاء وابنتي عم، طالب، أيوب وهيرش. كانوا يحلمون بمغادرة كردستان العراقية للعيش في أوروبا. غير ان مغامرتهم انتهت عند حافة طريق إيطالية صغيرة بالقرب من فوجيا، حيث رمى سائق شاحنة جثثهم مع جثث ثلاثة عابرين سريين أكراد آخرين. بالنسبة الى الصحافة الايطالية التي نشرت صوراً رهيبة للمشهد - علماً بأن السائق وهو في عجلة من أمره دهس بشاحنته احدى الجثث - لم يكن الأمر أكثر من حلقة اضافية في ملف الهجرة السرية، لكن في كردستان العراق، وخصوصاً في السليمانية حيث كان يعيش المهاجرون السريون، أحدث خبر موتهم صدمة عنيفة. فهم هنا ليسوا نكرة، بل شبان ينتمون الى أسر معروفة في بازار المدينة، من هنا تحدثت الصحافة والتلفزة المحلية عن الحادث، غير ان التأثر سرعان ما أخلى المكان أمام الاذعان: فهناك شبان كثيرون يسعون الى السفر، على رغم المخاطر، وعلى رغم خطر الموت خلال الطريق. طالب محمود باقر كان في الثانية والعشرين. وهو عمل منذ الرابعة عشرة في بقالة في بازار السليمانية. وبمرتبه البالغ 800 دينار 40 دولاراً كان يعيل أمه وشقيقتيه، اذ ان أباه توفي وهو بعد صغير، لكن مرتبه لم يكن كافياً، وهو منذ سنوات يحلم بالسفر الى أوروبا سعياً وراء الرزق: "لماذا لن أنجح؟ كان يسأل أمه، لقد تمكن كثيرون من تحقيق بغيتهم". كان يحلم بأن يربح المال بسرعة ويعود الى كردستان. لذلك اقترض 50 ألف دينار 2500 دولار، ما يمثل ثروة حقيقية، لكي يشتري جواز سفر عراقياً "نظيفاً" وسمة دخول الى تركيا كل هذا مقابل 1000 دولار وهو حين وصل الى تركيا استعان بخدمات سمسار عبور أوصله بالسيارة الى اليونان في مقابل 2200 دولار. ولكن ما ان وصل الى أثينا حتى بدأت متاعبه: لقد استنفد ما معه من مال، وبات عليه ان ينتظر أربعة أشهر ريثما تبيع أمه ما تبقى لهم من أثاث وجهاز تلفزيون وبراد، وتقترض من جديد لكي تجمع له قرابة 1200 دولار، يدفع بها خدمات سمسار عبور إيطالي، هو سائق شاحنة تنقل القطن. وفي منتصف شهر تشرين الأول أكتوبر هاتف طالب أمه ليقول لها ان الأمور سويت وانه سيسافر صباح الغد... سافر لكنه لم يصل أبداً، فهو اذ كان "مسجوناً" مع سبعة أكراد شبان آخرين في مساحة لا يزيد طولها عن ثلاثة أمتار وعرضها عن مترين سويت داخل حمولة القطن، مات مختنقاً مع خمسة من رفاق مغامرته. أما السائق فإنه حين تنبّه الى وفاتهم، لم يتردد في القاء جثثهم على جانب طريق ايطالية ضيقة كأنهم أكياس من القمامة. وانهارت سعدية، أم طالب، فهي الآن لا تدري كيف سيقيّض لها وابنتيها ماهاباد 24 سنة ومجدة 13 سنة الخروج من هذه الفاجعة. لقد فقدت ذاك الذي كان يعيلهن، ولم يعدن يملكن شيئاً، الشقة خالية من أي أثاث، وعليهن ايضاً ان يفين بديون طالب. أيوب عبدالرحمن كان أقرب صديق الى طالب، عمره عشرون سنة، وهو أيضاً كان يتيماً، حيث ان أباه التاجر، سقط فوق لغم عند الحدود الإيرانية حيث كان لجأ في العام 1966، يوم استعادت قوات صدام حسين أربيل لفترة قصيرة. أيوب، الذي ينتمي الى أسرة أيسر حالاً من أسرة طالب، كان أنهى دراسته في ثانوية السليمانية. وهو قبل ان يقدم امتحان البكالوريا، في تموز يوليو، كان بدأ يحضر الخطط للسفر الى أوروبا مع عدد من الأصدقاء. وكانوا معاً يشكلون مجموعة، وهو وصديقه طالب وابن أخيه هيرش، وابن عم آخر وبعض الأصدقاء. وفي الثانوية كان الرحيل محور الحديث دائماً. كان والد أحد أصدقائهم قد عاد من أوروبا حيث "حقق نجاحاً" وكان يقول لهم: "ماذا تفعلون هنا؟ ان الناس هنا غير متعلمين فلماذا لا تسافرون؟". وكان أيوب يتحدث، كذلك، عن الوضع السياسي للأكراد، وعن غياب الأمن. كان أبوه قد اعتقل من قبل العراقيين في العام 1988 أيام حملة الأنفال، وعذب طوال ستة أشهر في سجن بغدادي. وكان أيوب يخشى عودة صدام حسين الى منطقة كردستان التي يسيطر عليها الأكراد منذ العام 1991. وكان يقول لأمه: "ما الذي سيمكننا فعله اذا عاد صدام في حملة أنفال جديدة؟ هل نهرب الى الحدود الإيرانية كما فعل أبي ويواجهنا المصير نفسه؟". على عكس صديقه طالب، لم يكن أيوب راغباً في السفر الى أوروبا سعياً وراء المال، كان بالأحرى مثقفاً، شاعراً، ويريد ان يصبح شاعراً شهيراً كما كان يقول لأخته آسيا 16 سنة. كان يريد السفر الى أوروبا ليتعلم اللغات ويدرس. وبما انه كان من أسرة ثرية نسبياً، تمكن من ان يجمع المال الضروري لسفره من دون ان يحتاج الى اقتراض اي شيء. وهو مثل الآخرين أنفق 2000 دولار للوصول الى تركيا، ثم 2300 دولار للوصول الى اليونان. غير ان مساره انتهى بشكل فاجع عند حافة طريق ايطالية صغيرة. وهو كان قبل ان يصعد الى الشاحنة في رحلته الأخيرة، كتب قصيدة بعث بها الى أسرته قال فيها: "استنشاق هواء الحياة / هو أنتِ / فإذا رحلتِ ما الذي يمكن ان يعزيني؟". الأصغر بين الثلاثة هيرش لطيف سعيد، ابن أخت أيوب، كان في الثامنة عشرة فقط. وكان على وشك الانتقال الى المدرسة الثانوية. أبوه عبداللطيف كان هو الآخر تاجراً في بازار السليمانية. وهيرش، على عكس طالب لم يكن يواجه صعوبات مالية ملحة، اذ ان بيت أبيه يعكس ثراء ما. فلماذا تراه، هو الآخر، حلم بالسفر الى أوروبا؟ "كان يريد الحصول على مهنة أفضل من مهنتي" يقول أبوه: "كان يريد ان يدرس. هنا ليس ثمة عمل للشبان. كان هيرش يخشى المستقبل. كان يخشى ان يعود صدام حسين...". أسابيع قبل نهاية السنة الدراسية قال هيرش لأبيه انه يريد الرحيل، وطلب منه ان يساعده. حاول أبوه اقناعه بالبقاء، ولكن عبثاً. واليوم يقول عبداللطيف: "نحن جميعاً نخشى عودة صدام". لقد أنفق الوالد ما مجموعه ستة آلاف دولار، لتمويل سفر ابنه. وكان هيرش أول الواصلين الى أثينا، وهناك انتظر وصول رفاقه طوال اثنين وعشرين يوماً. بعدما دفع مبلغ 1650 دولاراً، ثمناً لركوب الشاحنة التي ستقله الى إيطاليا. وكان عمه طه قد هاتف ملكو، وهو وكيل كردي لسمسار العبور في أثينا الذي كان عليه ان يسوي مسألة العبور في إيطاليا. وكان قد طلب منه، مرتين، الا يضع هيرش في حاوية. وجاء تأكيد السمسار: "لا... لن نضعه في حاوية، بل سنخبئه وراء مقعد السائق". ويقول طه اليوم: "سألت السمسار عن حجم المخاطر فقال الخطر الوحيد يكمن في اعتقاله وأعادته الى بلده، تماماً كما لو انه في سيارة تاكسي. من الواضح ان الرجل قد كذب علي". كان هيرش يريد السفر الى انكلترا. وعن هذا يقول أخوه هيوا 21 سنة: "كان يريد تحسين لغته الانكليزية، ومتابعة دراسته سعياً وراء حياة أفضل" كان يشكو دائماً من عدم وجود حكومة مركزية قوية، ومن غياب الاستقرار، والوضع الاقتصادي المتدهور". لقد رافق هيوا أخاه هيرش حتى الحدود التركية، عند ابراهيم خليل بالقرب من زاخو. ويروي هيوا: "لقد افترقنا هناك من دون ان ننبس بكلمة، كان التأثر يخنق أصواتنا. كنا نعرف اننا لن نلتقي قبل مرور سنوات طويلة". وعائلة هيرش تعيش اليوم حداداً يفوق في حجمه حداد الأسر الأخرى، لأن أمه هاجر فقدت ابنها هيرش وأخاها أيوب في الوقت نفسه، وتقول هاجر وهي تجهش بالبكاء: "لم أكن أريده ان يرحل. طلبت منه الانتظار وأن يكمل دراسته هنا. عندما كان يجد نفسه وحيداً معي كان يصغي الي، ولكنه ما ان يكون مع أصدقائه حتى تثيرهم من جديد فكرة الرحيل: كان يعيش تمزقاً: حين يواتيه العقل يقول انه من الافضل ان يبقى ثم...". والوالد عبداللطيف انهار حين علم ان الأطباء الشرعيين الايطاليين أشاروا في تقريرهم الى ان الشبان حاولوا فتح ثغرة في جدار الحاوية بأيديهم قبل ان يموتوا مختنقين، اذ تبين ان أظافرهم مكسرة. ابراهيم، وهو تاجر شاب في الثامنة والعشرين، يراقب ما يحدث لدى جيرانه ويقول: "أنا نفسي، لو كان في وسعي ان أرحل لرحلت على رغم المخاطر كلها.. لماذا؟ لأننا لا نعيش في أي أمان، ومستقبلنا غير واضح: كل الناس هنا يخشون عودة صدام حسين... حين ضربت حلبجة بالقنابل الكيميائية صمت العالم كله. وحين أطلق صدام في العام 1988 حملة الأنفال التي أدت الى فقدان 180 ألف شخص لم يحمنا أحد، من في وسعه الآن ان يقول انه لن يعيد الكرّة؟". طه، عم هيرش، يشير هو الآخر الى افتقار الشبان هنا الى الآفاق المستقبلية، ويتهم برامج التلفزيون الفضائية قائلاً: "ان كل هذه البرامج الفضائية التي تبث هنا تصور الحياة في أوروبا بصورة مثالية: تصورها كجنة حيث لا يتوجب على الناس سوى الانحناء كي يلتقطوا المال". المؤسف ان النهاية المأسوية لمحاولة طالب وأيوب وهيرش، الوصول الى هذه "الجنة"، وعلى رغم تغطية الصحافة والتلفزة المحلية لسماتها الفجائعية، لا تثبط من عزيمة ألوف المرشحين للرحيل. هاودين، 18 سنة، يعيش في حلبجة، لقد سبق له ان حاول الرحيل مرتين، وفي المرتين اعتقله الأتراك، مرة في ارزروم في نيسان ابريل 1999، وأخرى في أنقرة، في أيار مايو 2000 وفي كل مرة كان الأتراك يعيدونه الى الحدود كردستان العراق. ما يعني انه فقد الألفي دولار اللذين كان جمعهما واقترضهما من والده، خلال المحاولتين. لكنه اتخذ قراره بالقيام بمحاولة ثالثة. فإذا قلت له ان البعض يموت خلال الطريق يجيبك: "سأرحل على أية حال، أريد أن أبقى في الخارج أربع سنوات أو خمساً، لكي أعمل وأكسب مالاً، ثم أعود. وربما أبقى هناك، فالحياة هنا ليست حياة. ليس ثمة عمل ولا مستقبل. وأفضل أن أجازف بأن أبقى عامين في معسكر انتقالي في أوروبا من دون أن يكون لدي حق العمل. هنا باتت الحياة أكثر وأكثر سوءاً. إذ مع تقسيم كردستان الى منطقتين يتزعم احداهما مسعود بارازاني والثانية جلال طالباني صارت حياتي في يد أي كان، اليوم تقع معارك بين الإسلاميين والاتحاد الوطني الكردستاني، وغداً بين هذا والحزب الديموقراطي الكردستاني، وبعد غد بين الأخير وحزب عبدالله أوجلان. كيف يمكننا ان نعيش وسط هذا كله؟ وإذا أردت يوماً أن أتزوج كيف أدفع مهر الزوج؟ كيف أحصل على بيت؟ للحصول على عمل يجب الانتماء الى حزب من الأحزاب. وانه لمن الأسهل الوصول الى ايران أو بغداد من الوصول الى اربيل تحت سيطرة بارازاني. فعند الحواجز التي يسيطر عليها البشمركة، ثمة دائماً من يشتبه بأنني أتجسس أو أقوم بأعمال تخريبية". "اننا نعيش في سجن كبير" يقول كردي مسيحي من زاخو ويضيف: "تلكم هي الحال منذ عشر سنوات، ولست أدري كيف الخروج من هذا المأزق، فأنا لا يمكنني أن أسافر لأني أعيش من دون أوراق ثبوتيه، الناس الذين يصلون الى أميركا أو استراليا، يحصلون على جواز سفر بعد ثلاثة أو أربعة أعوام، أما هنا فإنني لا شيء بعد عشر سنوات من وصولي. وإذا حدث ان ذهبت الى تركيا بجواز سفر عراقي صالح كلفني ألف دولار، سيعيدونني الى هنا، مرة ومرتين، وبقدر ما يريدون. أنا لا أتمتع بذلك الحق البشري الأساسي: الحق في الحصول على هوية، على جواز سفر". هاجس جواز السفر هذا، يكون له في بعض الأحيان نتائج غير متوقعة: هناك تاجر كردي من اربيل، في الثلاثين من عمره، لديه كل ما من شأنه أن يصنع سعادته: متزوج، ناجح في عمله، يمتلك بيته وسيارته، لكنه أنجب ولداً واحداً ويرفض انجاب آخرين على رغم الحاح زوجته وحماته. لماذا؟ "لا أريد ان أنجب أطفالاً أجدني عاجزاً عن منحهم أوراقاً ثبوتية". جواز السفر، الذي يتطلع كثيرون الى الحصول عليه، يمكن شراؤه، مع هذا، في كردستان العراق، في مقابل مبلغ يتراوح بين 500 دولار و700 دولار، وذلك تبعاً لكمية السمات الفيزا المذكورة عليه. عدنان اسم مستعار متخصص في بيع الجوازات في بازار اربيل، وهو يبيعه كما يبيع آخرون تذاكر السفر، قبل ذلك كان رساماً، غير ان مهنته الجديدة أكثر ربحاً بالطبع. وهو يعترف اليوم بأنه يبيع ما بين 30 و40 "عبوراً" في الشهر الواحد. ومثله هناك نحو خمسين لديهم دكاكين متخصصة في البازار. وعدنان يبيع جوازات سفر عراقية قديمة "تم تنظيفها"، اي محيت عنها الكتابات القديمة وأبدلت الصورة. وهذا النوع من الجواز، وهو الأكثر عادية، ثمنه 500 دولار. وهي في العادة جوازات كانت استخدمت لسفره مرة واحدة الى الأردن، من قبل عراقيين عادوا وباعوها. أما الجوازات الأفضل وتسمى "البلوك" فهي حقيقية خالية ويباع الواحد منها ب60 ألف دينار 3 آلاف دولار غير ان عدنان لا يكتفي ببيع الجوازات، بل انه يبيع الاتجاهات أيضاً: زبون يريد الاتجاه الى المانيا يمكنه هنا ان يشتري سفرة "مباشرة وسريعة" أو سفرة "على مراحل". والسفرة السريعة هي تلك التي تتم بجواز سفر فيه سمة "شينغن" لمدة ثلاثة أشهر: هنا يركب الزبون الطائرة من عمان، في رحلة لا مجازفات فيها لكنها تكلف 7000 دولار يقول عدنان ان نصف المبلغ تحصل عليه سلطات بغداد. ومن الواضح ان الأشخاص الذين يلجأون الى هذه الطريقة هم من الأثرياء أو المهندسين أو الاطباء. أما السفر "على مراحل" فإنه يبدأ في تركيا، حيث يدخل الزبون ب"سمة" كلفتها 50 دولاراً تدفع للحزب الوطني، غير ان فترة الانتظار هنا طويلة جداً، وقد تصل الى عام أو عام ونصف العام. ويمكن الحصول على هذه السمة عن طريق احزاب تركمانية لها قواعد في كردستان العراق. هنا يكون الانتظار أقصر بين 15 يوماً وشهرين لكن السعر أعلى: 12 ألف دينار 600 دولار. أما بقية الرحلة فحافلة بالمخاطر، لكن الطريقة هنا هي اللجوء الى سماسرة العبور الذين لجأ اليهم طالب وأيوب وهيرش، وللوصول الى اليونان يتوجب، حسب عدنان، دفع 2600 دولار. ومن اليونان يسافر العابر السري في مخبأ داخل صهريج أو داخل حاوية، وذلك على مسؤوليته الخاصة. والمال لا يدفع للسمسار الا بعد الوصول الى اليونان، إذ يودع لدى طرف ثالث، وفقط حين يتصل المسافر هاتفياً ليؤكد وصوله الى اليونان، يحول المبلغ الى حساب السمسار. ويقول عدنان انه يبيع، أيضاً، رحلات عن طريق المراكب، وهي أرخص نسبياً 2300 دولار. ومن اليونان يمكن للمسافر السري ان يواصل رحلته بالطائرة، انه سفر من دون مخاطر لكنه أغلى، نحو 4 آلاف دولار للبطاقة والنفقات والفيزا. ويمكن للمسافر أن ينتقل من اليونان الى ايطاليا مختبئاً في شاحنة في مقابل 1500 دولار. انه الحل الأرخص، وهو الحل الذي اختاره طالب ورفاقه. ولا يخفي عدنان ان كل صيغ "السفر السري" تحمل أخطاراً. ويقول: "أنا نفسي، لست مستعداً لإرسال أخي الصغير الى أوروبا على هذا النحو". كل هذا لا يثبط من عزيمة ثلاثة طلاب طب في جامعة دهوك، يمكننا ان نعتبرهم ممثلين للنخبة الكردية الشابة: فخلال حوار معهم في مقهى كلية الطب قال ديلاور 23 سنة ودلشاد 22 سنة واركوان 20 سنة، وهم في السنتين الثانية والثالثة، انهم يرغبون ثلاثتهم في السفر، سراً الى أوروبا. وقال ديلاور: "انني أنوي الرحيل"، ليجيبه دلشاد "وأنا أيضاً"، واركوان الذي يزايد: "سأكون أول الراحلين". للتمرين أو الدراسة أو البقاء؟ الجواب يأتي أولاً غير واضح، لكنهم يسلكون بعد ذلك درب الصراحة. أما اراكوان الذي لديه اخوان يعيشان في انكلترا فيقول: "ربما أعود بعد ذلك". ان موقف هؤلاء الشبان الذين ينتمون الى أسر مرتاحة نسبياً، ويبدون منخرطين بشكل جيد في المجتمع الكردي ويعدون أنفسهم لمهن تعتبر راقية في كردستان اليوم، هذا الموقف يكشف الكثير، فلئن كان الكثيرون من الشبان الأكراد الفقراء يسعون الى الهجرة لأسباب اقتصادية - كسباً للرزق وتمكيناً لأسرهم من الافلات من الفاقة - فإن اصحاب الامتيازات يريدون بدورهم الهروب من كردستان لأسباب أكثر سياسية: "انني أحب وطني كثيراً، وسبق لي أن برهنت على هذا الحب حين انخرطت في البشمركة وأنا يافع"، يقول تاجر ثري من اربيل، له ابنان يعيشان اليوم في اوروبا، ويستعد اليوم لترحيل بقية أبنائه على أن يرحل هو معهم: "لقد علَّمت ابنائي ان كردستان أهم من كل ديار الأرض، ولكن ليس ثمة مستقبل ها هنا. أنا لا أرسل أولادي الى الخارج لأسباب اقتصادية، ولكن لأننا هنا بتنا متخلفين مئة عام عن أوروبا". وبتشاؤم شديد، وإنما ببصيرة حادة، يؤكد كردي شاب لا ينتمي الى أي من الحزبين الرئيسيين، بأنه "إذا حدث وأعلن بلد أوروبي ان حدوده مفتوحة وأنه مستعد لاستقبال كل المهاجرين الراغبين وعائلاتهم، فمن المؤكد أن كردستان ستخلو من سكانها، لأن الجزء الأكبرمن سكان كردستان راغب في الرحيل، بحيث لن يبقى في نهاية الأمر سوى 2 في المئة من السكان". في انتظار ذلك، لا يقتصر الأمر على طالبين أو ثلاثة، بل على مئات الألوف من الأكراد الذين يبدون مستعدين للمخاطرة بحياتهم في سبيل الوصول الى أوروبا. والواقع أن هجرة عدد لا بأس به من الشبان الأكراد أسفرت منذ الآن عن نتائج وخيمة طاولت الحياة الاجتماعية الكردية: أعداد متزايدة من الشابات يبقين عازبات، بسبب العجز عن العثور على شريك، فهل يمكنهن، بدورهن، سلوك سبيل المنفى؟ الزعماء الأكراد، لوعيهم بالتهديد الذي تشكله هذه الهجرة بالنسبة الى "الحلم الكردي" - الذي يقوم على إقامة كيان ذي وضعية خاصة، إن لم يكن على إقامة دولة كردية - يقرون، طواعية، بأن هذا السيل المهاجر سببه الوضع الاقتصادي السيء، والخوف من عودة صدام حسين، لكنهم يرفضون الإقرار بأن معاركهم الداخلية فيما بينهم تلعب دوراً مهماً في ذلك، ويفضلون التنديد بحصة البلدان الغربية من المسؤولية. وحول هذا يقول نتشيرفان بارزاني، رئيس الحكومة الكردية في اربيل: "في إمكان أوروبا مساعدتنا، على تحسين الوضع الاقتصادي بغية تأمين عمل ووظائف لشباننا" ويضيف: "بيد أن الارتباك الذي يحيط بمستقبلنا يشكل عاملاً أكثر اهمية من الوضع الاقتصادي: فما الذي سيحدث إذا عاد صدام؟ إن الناس يريدون الحصول على جواز سفر، ليتمكنوا من الوصول الى مكان آمن إذا حدث أن تكررت أحداث العام 1991- يوم هرب اكثر من مليون كردي نحو الحدود التركية الإيرانية". أما هيرو طالباني، زوجة جلال طالباني، مديرة شبكة التلفزيون الفضائية "كرد - سات" فتقول: "لا تنسوا أن أهل هذه البلاد كانوا يعيشون أوضاعاً مادية جيدة. وفجأة فقدوا كل شيء. والآن، إذا ما حدث ان استثمرت البلدان الغربية هنا، الأموال التي تنفقها في أوروبا من اجل استقبال المهاجرين، فمن المؤكد ان هذا سيساهم في وقف النزيف. إن الأممالمتحدة تدفع تعويضات حرب لسكان الكويت، فلماذا لا تدفع شيئاً الى العراقيين الذين خسروا كل شيء؟ إنه مالنا أليس كذلك؟"