يرسم الشاب اشارة النصر بإصبعيه مصحوبة بابتسامة وهاجة غطت وجهه كله. كان هذا شاباً كردياً انتصب على ظهر السفينة التي حملته، مع رهط كبير من الناس، الذين يشبهونه بتقاسيمهم وملابسهم ولهفتهم، وحطت به، معهم، على شاطئ أوروبي. هي السفينة الشهيرة اياها التي أفرغت محمولها البشري من المهاجرين الأكراد، من جميع الأعمار في الجنسين، بعد ان تاهت بهم في الأمواج وضاعت، ثم ركنت في الساحل الأوروبي تعبةً ويائسةً. لم تكن رحلة الأكراد الأولى. ولن تكون الأخيرة بالتأكيد. يبدو الأمر وكأنه أصبح علامة فارقة يمكن الاستدلال بها عليهم: ينزحون من ديارهم زرافات ووحداناً كما لو أن الأرض، التي يعيشون فوقها، تحولت الى جمرات تكوي أجسادهم. ولكن لماذا رفع ذلك الشاب يده بإشارة النصر؟ وعلامَ تنطوي اشارته تلك؟ على من يظن انه انتصر؟ أكان هناك من يلاحقه فأفلت من أيديهم ووصل برّ الأمان؟ أكان يهرب من السجون والمعتقلات وعذابات البطش والتعذيب؟ هل كان ذلك الرهط الكبير، من الشباب والأطفال والنساء والشيوخ، ضحايا لاضطهاد همجي لم يتحملوه فهربوا وسعوا للنجاة بجلودهم؟ لا يبدو ان الأمر على هذا النحو. وعلى رغم ان الواقع السياسي الكردي صعب ومحفوف بالأخطار الا ان قلةً نادرةً فقط من المهاجرين الأكراد تعبأ بالسياسة وتنزح لدوافع سياسية. غالب الظن ان الشاب الكردي، المنتصر والمبتسم، كان يريد القول انه حقق أمنيةً عزيزةً على نفسه: لقد وصل أوروبا. هذه أمنية الجميع. غالبية الناس، في العالم الثالث كله وليس الأكراد إلا جزءاً منهم، تنام وتستيقظ على حلم الرحيل الى أوروبا. وإذا كان الأكراد أصبحوا كما لو ان الهجرة صارت "مهنةً" يحترفونها فلأن في وضعهم ما يجعل منهم مثالاً نموذجياً: انهم المجموعة البشرية الأكبر في العالم التي لا تملك وطناً قومياً خاصاً بهم. صارت السفينة الشهيرة بمثابة الوطن البديل. وإذا كان شهيراً قولهم، في ما مضى، بأن لا أصدقاء لهم سوى الجبال فإن السفينة أضحت، الآن، صديقتهم الوحيدة، والعزيزة. ودأبت البلدان الأوروبية على استقبال الأكراد بيسرٍ أكبر بكثير من استقبالهم لأي مجموعة قومية أخرى. وكان اضطهاد الحكومات التي تقتسم كردستان في ما بينها تركيا، العراق، سورية، ايران وممارساتهم الفظة ازاء الأكراد بمثابة بطاقة سفر مضمونة الى الجنة الأوروبية، ويمكن القول، من دون خوف من المبالغة، ان القمع الحكومي للأكراد، وان كان لا انسانياً وبعيداً من الحس البشري، فقد تحوّل الى ما يشبه النعمة في أيدي الأكراد الحالمين بالهجرة. ويكفي ان يكون المرء كردياً وآتياً من بلدٍ من البلدان المهيمنة على كردستان حتى يُستقبل بالترحاب. كان هذا هو الحال، على الأقل، حتى وقت قريب. بعبع... وسفينة فهمت الشرائح المختلفة في الوسط الكردي، ولا سيما شريحة الشباب، المعادلة جيداً: حفنة من ألوف الدولارات، رواية متقنة عن القمع والتعذيب ويفضل ان يكون الجاني نظام صدام حسين لأنه الأكثر شهرة في فظاظته ازاء الأكراد، سفينة مطوع في يد مهربين يقبضون الدولارات العتيدة تلك. وهكذا تكرس الحال وتحول الى ما يشبه أسلوباً جديداً للعيش قوامه الاستنفار الدائم من أجل توفير عدّة للرحيل. ومن يذهب في الرحلة الأولى ويستقر به المقام في "بلده" الأوروبي الجديد يتهيّأ لاستقبال من تخلف عن الركب من بعده. فما ان يضع فردٌ من العائلة قدمه في المستقر الجديد حتى يستدير ليمسك بيد أفراد عائلته، وجيرانه، ويجرهم واحداً بعد الآخر. تتوزع الشبيبة الكردية المهاجرة في الحواضر الأوروبية كلها. وهي تمارس حياتها الجديدة على نحو تتمزق فيه بين ذاكرتها وذهنيتها المترسخة في مقامها الأصلي وبين محيط المكان الجديد ومؤثراته. وينهض الآن نزوع نحو تثبيط الهمم في الرحيل واقناع من بقي بالبقاء والتشبث بالأرض التي يرتبط بها. ومع هذا فإن السفينة تدأب في الحركة بهدوء وتمخر عباب البحر حاملة أجيال الأكراد. ولكن في هذا ما يدعو الى الدهشة قليلاً. فليس هناك، في واقع الحال، ما يدفع بهؤلاء الى النزوح الرهطي على النحو الذي يفعلونه. والحال ان الوقائع التي كانت تبرر مثل هذا النزوح اختفت، وعلى وشك الاختفاء. فالأكراد في العراق يعيشون، منذ عشر سنوات، بعيداً من متناول يد صدام حسين وجيشه وأركان حكمه. ويدير المنطقة الكردية الأكراد أنفسهم، على شكل حكومتين تتقاسمان السلطة والأرزاق. وفي تركيا توقفت رحى الحرب التي كانت تدور بين الحكومة والمقاتلين الأكراب. بعد ان استسلم زعيمهم، حين قُبضَ عليه، وتعهد بالكفّ عن القتال والبدء بخدمة الدولة التركية. وصار هؤلاء يدعون، أكثر من أي جماعة أخرى، الى السلم والأمن. وانفتحت الآفاق الرحبة أمام الأكراد في ايران مع استلام محمد خاتمي الحكم هناك، ولم تعد هناك ضائقة تقف في وجههم وليس في سورية ما يهدد الأكراد في حياتهم أو شؤون عيشهم أو يصادر حركتهم وسعيهم في تحسين حالهم. فما الذي يرمي بهؤلاء جميعاً الى قذف أنفسهم في البحر وركوب الأخطار وسلك ناحية المجهول الأوروبي؟ وهل تدعو الحاجة فعلاً الى بيع كل شيء وتسليم المصير الى مهربين جناة لا يتورعون، في أحيان كثيرة، عن ترك هؤلاء للأمواج تبتلعهم وتقودهم الى الموت بدلاً من أوروبا؟ موضة، وحياة رغدة في كردستان العراق، وهو المكان الوحيد الذي يمارس فيه الأكراد حياة سياسية مستقلة ونشيطة، يعقد المسؤولون ندوات في شأن هجرة الشباب الكردي ونزوحهم من المنطقة. ويدعو هؤلاء الى ازالة الأسباب التي تقف وراء المشكلة والبحث عن مقومات تدفع بهم الى البقاء. ولكن معظم الشباب الكرد لا يولي انتباهاً لذلك، بل ان الكثر منهم يقلب الشفاء هزءاً وازدراءً. يقول سليمان م. وهو شاب وصل أوروبا حديثاً قادماً من اربيل، عاصمة كردستان العراق: "أبناء المسؤولين الأكراد كلهم يعيشون في أوروبا. انهم ينعمون بعيش رغيد ويدرسون ويتعلمون ويتذوقون الرفاه. ولقد اشترى هؤلاء المسؤولون الدور والقصور وصارت عندهم بيوت هنا وبيوت هناك. ولكنهم يكذبون ويقولون انهم ضد هجرة الناس. لماذا لا تعود عائلاتهم وأبناؤهم إذاً؟". ويشير عدد من المهاجرين الى ان السلطات الكردية نفسها تهيئ لهم سبل الرحيل. إذ تشكلت المافيات التي تدير شبكات المهربين وتقبض أموالاً طائلة من ذلك". ويتحدث كاوا س. عن الرشاوى الكثيرة التي دفعها للمسؤولين الحزبيين الأكراد. ويؤكد الجزء الغالب من الشبيبة الكردية المهاجرة من كردستان ان الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية هي التي تدفع بهم الى الرحيل. فليست لديهم مطامح سياسية. والحال ان الحياة السياسية مكبوتة أو مصادرة في ظل هيمنة الحزب القوي في كل قطاع. ولا يستطيع المرء ان يعيش على نحو لائق ما لم يكن منتمياً الى حزب أو ملتحقاً بميليشا أو مناصراً لجماعة، حتى وان كانت أفكارها تتعارض مع قناعاته. "ان ما دفعني الى الهجرة هو رغبتي في العيش في هدوء بعيداً من النفاق وهيمنة الأحزاب والجماعات المتصارعة"، يقول كاوا. من الموت في الجبال الى العيش في أوروبا ولا تختلف هواجس القادمين من كردستان تركيا كثيراً. والحال ان الشكوى، هنا أيضاً، تنصبّ على الجانب الكردي أكثر من انصبابها على الحكومات التركية. يقول م. أردوغان: "لقد خذلنا الحزب الذي كنا نهتف له وخذلنا زعيمه الذي كنا نركض وراء شعاراته. فبمجرد القبض عليه انهار وتخاذل وباعنا وباع قضيتنا من أجل حياته الخاصة. لقد أهلك عشرات الألوف من الشباب في الجبال وزجّ بالآلاف في السجون ومات الألوف وجرحوا وتشوهوا. وحين وصل الدور اليه ترك كل شيء واستسلم". ويعبّر هذا الرأي عن أفكار كثر من الشباب الكردي في تركيا. وكان هؤلاء انخرطوا في صفوف المقاتلين للرد على الحكومة التركية التي صادرت شخصيتهم القومية. وانتقل الآلاف الى الجبال أو دأبوا على ممارسة حياة نضالية سرية سعياً وراء قضيتهم. ولم تكن الهجرة الى أوروبا تخطر للكثر منهم، بل ان الهجرة كانت تعتبر، في نظرهم، خيانة للوطن. ولكن بعد انفراط عقد المقاتلين واستسلام الغالبية منهم للجيش التركي بدا كما لو ان خيبة أمل كبيرة سيطرت على الجميع. وظهر الفضاء مغلفاً باليأس والهزيمة. وشعر كثر من الشباب بأن شيئاً ما قد انكسر ولم يعد هناك ما يربطهم بالأرض التي آثروا الموت من أجلها، وفضّل قسم كبير الهجرة الى أوروبا بعيداً من الأحزان. والحال ان الحكومة التركية شددت الخناق أكثر بعد انهيار المقاومين. وباتت حركة الشباب الأكراد مقيّدة أكثر كما صارت حريتهم أكثر عرضة للمصادرة. أضف الى ذلك ان معدلات البطالة ما برحت في ازدياد. ويضطر الكثر الى الهجرة لاستغلال ما بقي من العمر من أجل تكوين عائلة وتوفير حد مقبول من العيش. ويأخذ هؤلاء، من بعد الرحيل، بأيدي أهلهم فيأخذونهم الى حيث هم. غير ان للكثر منهم أقارب ماتوا أو اختفوا أو عذبوا أو بقوا مسجونين، وتراهم، يجوبون العواصم الأوروبية رافعين صور الزعيم الذي خذلهم وذلك ظناً منهم ان ذلك قد يعيد اليهم من غاب. أو هذا ما يرسمه لهم الحزب، على أقل تقدير. الفقر... والكذب تعد أوضاع الأكراد في سورية، مقارنة مع باقي الأماكن، جيدةً من حيث الأمان والسلم. ولا تمارس الحكومة السورية بحقهم الممارسات الهمجية التي دأبت في السير بها الحكومات الأخرى. ومع هذا فإن قوافل طويلة من هؤلاء ما تنفك تختار طريق الهجرة. ويعد الشباب الفئة الأكبر من بين مجموع المهاجرين الكرد من سورية. ويهاجر هؤلاء ليس هرباً من القمع أو التعذيب بل سعياً في الخلاص من الفقر وضيق الحال. ويعيش أكراد سورية، في الغالبية الأعمّ، في منطقة الجزيرة الواقعة على الحدود العراقية - التركية. وهذه المنطقة تعاني من الفقر وتدني المستوى الحياتي، وهي لا تحظى بالرعاية والاهتمام من لدن الحكومة على رغم كونها تشكل الخزان الزراعي والمائي والنفطي. وهنا أيضاً تنتشر البطالة بين الناس، وعلى وجه الخصوص بين الشباب، ويعجز الكثر منهم عن توفير مقومات العيش. وفي حال كهذه فإن الهجرة الى أوروبا جاءت بمثابة هدية من السماء. ولكن بما ان القمع السياسي الذي يطالهم خفيف بالمقارنة مع الآخرين وبما ان ما يمكن تسميته ب"قضية كردية" لم تتبلور في سورية ولم تثر جانب الرأي العام، فإن الكثر من أكراد سورية يعمدون، حين الوصول الى أوروبا، للكذب والادعاء بأنهم من أكراد العراق. وأكثر المهاجرين من هؤلاء الشباب تجنبوا السياسة ومداراتها وركزوا اهتمامهم على سبل عيشهم. ويقع هؤلاء في الارتباك والفوضى حين يضطرون الى تلفيق روايات عن الذي لاقوه على يد "صدام حسين". ولعل السفينة الشهيرة التي حطت على شواطئ مدينة مارسيليا الفرنسية كانت الذروة في الرواية الكاذبة. فلقد انشغل العالم، على مدى ما يقارب شهراً من الزمن، بمأساة "أكراد العراق" الذين انكشفت حقيقتهم، في ما بعد، وتبين انهم أكراد الجزيرة السورية. وكان معظم هؤلاء شباب دفعوا أموالاً كثيرة لمهربين نقلوهم من المرافئ اللبنانية الى فرنسا، عبر اليونان. يقول ع. ترّو: "لم أهرب من ملاحقة أو قمع. لقد بعتُ ما كنتُ أملكه وقررت الهجرة لأنه لا يوجد هناك ما يمكن ان يوفر العيش. لا عمل، لا زراعة، لا صناعة، لا شيء. لقد حملت أولادي ورجوت المهربين ان يأخذوني، فإما ان اصل الى أوروبا فأعيش كإنسان أو أموت في البحر، وفي الحالين فإن الأمر أفضل من العيش في فقر وحرمان". جنس، وديسكو وألعاب تسلية يأتي الشباب الكردي من مجتمع تقليدي محافظ ويجد نفسه فجأةً أمام بحر هائل من الحرية المفتوحة على كل الجهات. ويصير ينظر بعينين مبحلقتين الى الشباب والشابات الأوروبيين، يمارسون كل ما يحلو لهم ممارسته، على وجه التقريب، في الشارع المفتوح. وتثور ثائرة المكبوتات المدفونة في الأعماق. انه يمضي ليتعامل مع مجتمع تطور سلوكه ونمت أذواقه وترسخت عاداته ونظراته وعلاقاته على مسافة زمنية طويلة. ولكن الشاب الكردي يحمل تراثاً ثقيلاً من الموروث التقليدي الكابت يترنح أمام الواقع الجديد. وكثيراً ما تسوء العلاقة التي تجمع الشاب بعائلته، أو تنقطع بالكامل. وتمضي غالبية كبيرة من هذه الشبيبة أيامها تتسكع في الشوارع وترتاد الأماكن الصاخبة. ويعمد قسم من هؤلاء الى السرقة من أجل توفير ما يحتاج اليه. أما القسم الأكبر فيلجأ الى الحيل وتصنّع المرض للتهرب من العمل والبقاء طفيلياً، يأخذ نفقاته من خزينة الدولة. ولكن جزءاً آخر يوفّر ما يحصل عليه من مال من مركز الخدمات الاجتماعية أو مكتب العاطلين من العمل ويرسله الى من بقي من أهله في الوطن. كذلك فإن أعداداً متزايدة تقع في مصيدة الميسر، انطلاقاً من ماكينات التسلية، وتعاطي المواد المخدرة وسوى ذلك مما يفقدهم التوازن النفسي ويجعلهم ضحايا التشتت والانحدار والانهيار. وليست الشبيبة الكردية المهاجرة، في ذلك، استثناء. فذلك حال كثر من الشباب المهاجر، الآتي من أطراف قصيّة لتجرّب حظوظها من أجل حياة حلموا بها وبذلوا من أجلها كل ما هو ثمين، بما في ذلك حياتهم. أكانت اشارة النصر التي رسمها ذلك الشاب الكردي على ظهر السفينة علامة على انه تجاوز الموت في البحر وأدرك مبتغاه الأوروبي وترك خلفه، ربما للأبد، وطناً لم يمنحه أي شيء، بما في ذلك الاحساس بامتلاك شعور انساني صادق وهوية تمنحه الكرامة ونزعة الانتماء.