الروصس في حياتهم معطاؤون كرماء، ويصل الأمر ببعضهم حد الإسراف والتبذير، لكن الجود الذي أبداه ساسة موسكو في السنوات الأخيرة فاق التصور والحدود، وكان في الغالب "لوجه الله" من دون ابتغاء جزاء أو شكور. فقد وافق الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف على هدم جدار برلين وتوحيد الالمانيتين وحل حلف وارسو والانسحاب من بقاع العالم المختلفة، ولم يعتبر ذلك مِنّة، واكتفى بابتسامة من جورج بوش الأب. وحطم بوريس يلتسن الدولة التي كانت لعقود من الزمن قطباً ثانياً لرحى العالم، ولم يعد يرد طلباً ل"الصديق" بيل كلينتون، ولم يطالب مقابل ذلك بأكثر من حقن مالية كانت تتسرب الى جيوب كبار المسؤولين وتصبح عبئاً على عائق الدولة، لكنها ترافقت مع ابتسامة أخرى وإن كان فيها الكثير من السخرية والشماتة. وها ان الكرملين يعود الى منح "الهبات" التي انهمرت على جورج بوش، الإبن هذه المرة، والذي بدا مذهولاً الى حد انه نسي حتى ان يبتسم. وبعدما تنازلت موسكو عن آسيا الوسطى وفتحت الأجواء أمام الطائرات الاميركية وقبلت بإلغاء أو تهميش دور الاممالمتحدة، بعد كل ذلك أعلن فلاديمير بوتين انسحاب بلاده من قاعدة كامران البحرية في فيتنام وقاعدة لورديس للرصد والمتابعة الاستخبارية في كوبا. وعزت موسكو قرارها الى أسباب اقتصادية، إلا ان توقيت صدورها قبل أيام من لقاء بوش وبوتين في شنغهاي كان تلميحاً شفافاً الى المغازي السياسية. والساسة الروس تحدثوا صراحة عن الرغبة في "وضع نقطة" تنهي تاريخ الحرب الباردة وتفتح صفحة جديدة في العلاقات مع الغرب، من دون الالتفات الى ان هذا الود الجياش لم يقابل بالمثل اميركياً، بل ان واشنطن لم تكلف نفسها حتى عناء التظاهر بوجود حب متبادل ناهيك عن الانسحاب من قواعدها الكثيرة قرب روسيا. هذا في حين ان "الهدية" كانت أثمن من كل عقود الماس. وإذا كانت قاعدة كامران تضاءلت أهميتها فعلاً لأن الأساطيل الروسية غالباً ما لا تجد الوقود الكافي للوصول اليها، فإن قاعدة لورديس ظلت من أهم ما تبقى لروسيا من متاع جيوسياسي وورقة مهمة كان يمكن "بيعها" للأميركيين مقابل تنازلات كبيرة. ولكن روسيا آثرت ان تعلن اغلاق القاعدة ثم تطالب... باغلاق قاعدة اميركية مماثلة في النرويج، في حين ان أبسط قواعد التعامل في أسواق السياسة كانت تقتضي العكس. وبفقدان لورديس تخسر روسيا مصدراً كان يزودها ب70 في المئة من المعلومات الاستخبارية عن الولاياتالمتحدة، بل ان روسيا تتنازل بذلك عن الركيزة الجيوسياسية الوحيدة لها في النصف الغربي من الكرة الأرضية، وتلغي سلفاً احتمالات استخدام القاعدة كعنصر في منظومة اقترح العلماء الروس اقامتها كرد على الأميركيين اذا نفذوا مخططاتهم لإنشاء شبكة الردع الصاروخي التي ستعني الهدم الكامل لكل هيكلية التوازن الاستراتيجي. وفي معرض تبرير القرار الروسي قال رئيس الاركان اناتولي كفاشفين ان هافانا تتقاضى سنوياً 200 مليون دولار كإيجار عن القاعدة، واكد ان هذا المبلغ يكفي لشراء 20 قمراً تجسسياً. الا ان ذوي الاختصاص يشيرون الى ان الجنرال عثر على "دكان" يبيع الاقمار بثمن بخس و"فاته" ان يلاحظ الفرق الشاسع بين الرصد الفضائي والمتابعة الأرضية، كما نسي ان القمر الاصطناعي له "عمر" قصير أقل بكثير من المنشآت الأرضية. ولئن كان اغلاق كامران ولورديس اقراراً من موسكو بأن هناك حدوداً جديدة، أضيق من ذي قبل، لسياستها الخارجية فإن الكرملين مطالب بأن يوضح غايات هذه السياسة وطبيعة التحالفات التي يريد اقامتها. وفي ضوء ذلك سيترتب على الدول الأخرى ان تعيد النظر في علاقاتها مع روسيا لكي تتفادى التجربة الكوبية المريرة، اذ ان موسكو اثبتت انها يمكن ان تتخلى عن شركاء لها من دون استشارتهم أو اخذ مصالحهم في الاعتبار. اما تأكيد وزارة الخارجية الروسية على ان العلاقات مع كوبا ستبقى "مبدئىة" بعد القرار الأخير فهو مجرد كلام، والمبادئ اذا كانت رخوة ومطاطة على هذا النحو فإنها لا تغني ولا تسمن ولا تدفع عدواناً. ولن يلوم أحد هافانا اذا قررت ان تؤجر لورديس الى الصين أو الى أي بلد آخر اقل "جوداً" من روسيا.