اكثر من 560 فلسطينياً من أصل 823 شهيدا، قتلوا بدم بارد. 140 طفلا، 13 معوقا، 70 امرأة و10 مسنين. فلماذا قتلوا؟ وكيف؟ ولماذا لا يحاسب قاتلوهم؟ احدى القصص: وجدوه جريحا في خندق ترابي، فهشموا جمجمته ومزقوا النصف الاعلى من جسده برصاص الدمدم المحرم دوليا وخردقوا ساقيه بعشر رصاصات ثم دفنوه من دون ان يدري بهم احد. عبدالناصر هديب عنصر في جهاز الامن الوقائي الفلسطيني في قلقيلية، وعند دخول القوات الاسرائيلية الى المنطقة معلنة احتلالها تلقى الاوامر مع زملائه، باخلاء الموقع الذي يطلق عليه اسم "صوفيني". وكانت في محاذاة الموقع بعض الخنادق قليلة العمق استخدمها الجيش الاردني قبل 1967 ولم تغلق. عبدالناصر، كما روى زميله الذي رفض الافصاح عن اسمه، كان يسير في نهاية طابور زملائه المغادرين عندما بدأ الاسرائيليون باطلاق الرصاص عليهم من دون اية مقاومة، فاصيب بساقه ووقع داخل احدى الحفر. وفي هذه الاثناء وصلت قوة من الجنود ودبت الفوضى من جهة والهلع من جهة اخرى. ولم يتمكن احد من مساعدة عبدالناصر على النهوض، فبقي مكانه وتركه زملاؤه. طوال ايام احتلال قلقيلية، في اواخر الشهر الماضي وحتى مطلع الاسبوع الماضي، توجه المسؤولون في الامن الفلسطيني الى القوات الاسرائيلية مرات عدة وابلغوهم بفقدان فرد من قوات الامن. وفي كل مرة كان الجواب: "لا نعرف شيئا عن مصيره"، وأنهم بحثوا عنه في المستشفيات ولم يجدوه. وبقي الجميع في قلق دائم حتى يوم انسحاب القوات الاسرائيلية من قلقيلية. وتوجه زملاء عبدالناصر على الفور الى الخندق الذي وقع فيه زميلهم لدى اصابته بساقه فوجدوا التراب يغطيه، فبدأوا بالحفر بأيديهم لمعرفتهم ان الخندق غير عميق، وبعد دقائق قليلة وجدوا جثة زميلهم وقد ارتمى على بطنه يحتضن بندقيته التي لم تنطلق منها اية رصاصة، بينما كان الرصاص يخردق الجثة في كل مكان. ولم يتمكن احد من امعان النظر في جمجمته التي تهشمت تهشيما كاملا. المحامية نائلة عطية التي أوكلها زملاء الشهيد بمتابعة قضيته، طلبت تشريح الجثة ومنع دفنها. وبعد اصرار وبتدخل من وزير العدل الفلسطيني فريح ابو مدين تم تشريح الجثة لتكون اول جثة شهيد تشرح في مستشفى فلسطيني، تبعا للاعتقاد بأن الشهيد لا يشرح انما يدفن كما كان عند استشهاده. وقالت المحامية عطية ل"الوسط": "ما حصل لهذا الشهيد هو قتل بشع بدم بارد ودفن جثة لاخفاء اثار عملية القتل البشعة التي تعرض لها عبدالناصر". وكانت جثة عبدالناصر قد حولت الى مستشفى رفيديا حيث تم هناك تشريحها، وقبل أيام كشف تقرير التشريح عن بشاعة القتل: "جميع الرصاصات التي اخترقت ساقيه وعددها عشر خرجت من مكان اخر وهذا يدل على ان اطلاق الرصاص كان من مسافة صفر"، تقول المحامية التي تسلمت التقرير لمتابعة القضية، وتضيف: "اصيب بعشر رصاصات في ساقيه وهناك عشرون ثقبا للرصاص تبين مكان دخول الرصاصات وخروجها. اما جمجمة الضحية فمهشمة تماما والاحتمال الاكبر ان تهشيمها جاء نتيجة الجرافة التي استعملها الجنود عند تغطية الخندق الذي تواجد فيه. اما منطقة الصدر فحسب ما تبين من تقرير التشريح فان الجنود استعملوا رصاص الدمدم المحرم دوليا، والذي ادى الى تمزيق اعضاء جسمه من القسم الاعلى، أي القلب والرئتين والامعاء وغيرها. باختصار ما حصل له هو اعدام بكل ما تعنيه الكلمة. فكل الشهود يؤكدون انه اصيب برصاصة في ساقه لم تساعده على متابعة طريقه وأدت الى وقوعه على الارض. وكما جاء في تقرير التشريح فان قتله تم عند وصول الجنود الى الموقع وكان لوحده". ويؤكد زميل الشهيد الذي كان يسير امامه عند اطلاق الرصاص ان زميله وقع على الارض بسبب اصابته برصاصة في ساقه. وعندما هربوا كان لا يزال على قيد الحياة. احدى النساء التي تسكن بجوار موقع الحادث كانت قد ذهلت عندما شاهدت الجنود يرمون التراب داخل الخندق. فقد صرخت في وجوههم تحذرهم من وجود شخص مصاب داخل الخندق: "لكن احدا لم يعرني اهتماما وبدم بارد ومن دون اي اهتمام او قلق اغلقوا الخندق. ونحن لم نتمكن من فعل شيء لان الحصار كان يمنعنا من الخروج من البيت". الشهيد عبدالناصر هديب أب لثلاثة اطفال 3 و5 و6 سنوات اهله يسكنون في الاردن ولم يلتقيهم منذ فترة طويلة بسبب الاوضاع الامنية. وزوجته وصلت من الاردن مع اطفالها قبل حوالي سنتين ولم يتح لها السكن الا في مخيم اللاجئين "عين السلطانة" في قضاء اريحا، فيما عمل عبدالناصر في قلقيلية، وبين فترة واخرى كان يزور زوجته واطفاله. وقد اضطر للعمل بعيدا عنهم لضمان لقمة العيش لهم. كانت هذه قصة شاب فلسطيني واحد من مجموع 823 شهيدا فلسطينيا تم قتلهم خلال الانتفاضة الفلسطينية الاخيرة، منذ 28 ايلول سبتمبر 2000 وحتى العاشر من تشرين الثاني نوفمبر 2001. وحسب الاحصاءات الفلسطينية فان 30 في المئة من هؤلاء فقط قتلوا خلال مواجهات عسكرية بغض النظر عمن بدأ هذه المواجهات او خلال عمليات انتحارية. اي بالامكان القول ان الذين سقطوا شهداء في هذه الحالة يعرفون انهم يخوضون معركة قد تنتهي بقتلهم وقسم منهم لم يوفر هو ايضا الوسيلة لقتل اسرائيليين. والمعروف ان 199 اسرائيليا قتلوا خلال هذه الفترة من جراء عمليات فلسطينية. ولكن قتل المدنيين الابرياء يظل ابشع. ومستوى الجريمة فيه اكبر واخطر. والاحصاءات الفلسطينية تقول ان 70 في المئة من قتلى الانتفاضة الاخيرة هم اناس عزل. لكل منهم قصة تزعزع الابدان. وترافقها مآس لا تنتهي حتى بالقتل. فها هي قوات الاحتلال الاسرائيلي تقتل احد نشطاء "حماس" ياسر عصيرة، في 2 من الشهر الجاري، وبعد عشرة ايام تقوم بهدم بيته. فالقتل وما يسببه من معاناة لعائلته لم يكفها فتقوم بتشريد العائلة ايضا. وعموما فإن العائلات الفلسطينية التي يقتل منها احد أفرادها يكلفها القتل معاناة على مدار السنين. وفي حين تقوم المؤسسة الاسرائيلية بتعويض عائلات القتلى الاسرائيليين وترعاها، حسب القانون، مدى الحياة، فان العائلات الفلسطينية الثكلى لا تجد من يرعاها. لكن مسألة التعويض ليست القضية الاساس على رغم انها قضية مأسوية. وهناك مشكلة حقيقية تتعلق بموضوع "سياسة القتل" الاسرائيلية، لم تأخذ ما تستحقه من اهتمام عالمي او عربي. ولم تهتم بها كما يجب حتى منظمات حقوق الانسان العالمية. لا بل حتى وسائل الاعلام التي تبحث عن القصص المثيرة وغير العادية باتت تنظر الى القتلى الفلسطينيين كمجرد ارقام تضاف الى كتب الاحصاء. وتشدها اكثر قصص القتلى الاسرائيليين المدنيين في العمليات الانتحارية الفلسطينية. وزير الدفاع الاسرائيلي بنيامين بن اليعيزر، يتباهى بأن قواته تمكنت من منع 95 في المئة من العمليات الانتحارية او عمليات التفجير التي انطلقت خلايا فلسطينية لتنفيذها، وبهذا يوحي بان عمليات القتل التي تنفذها قواته شرعية مئة في المئة، لانها كانت في اطار الدفاع عن النفس. أما رئيس الحكومة ارييل شارون فيعلن ان عمليات الجيش تستهدف "تنفيذ ما ترفض السلطة الوطنية تنفيذه، وهو كبح جماح الارهاب والارهابيين". وبهذا يقنع اوساطا واسعة من السياسيين والاعلاميين الغربيين. وكلاهما يقنعان الاسرائيليين بأن الحرب التي تخوضها القوات الاسرائيلية، انما هي حرب عادلة لا مفر منها للدفاع عن امنهم. والمبعوثون الاسرائيليون المنتشرون في اوروبا والولايات المتحدة لشرح الموقف الاسرائيلي يعرضون المسألة كما لو ان "اسرائيل ضحية للارهاب الفلسطيني". ولا يذكرون بالطبع شيئا عن الاحتلال سبب كل المصائب. لا بل لا يقولون شيئاً عن اعمار الضحايا الفلسطينيين. فبين هؤلاء 140 طفلا وفتى تقل اعمارهم عن 17 عاما. وبينهم اربعة اطفال رضع و12 طفلا لا تزيد اعمارهم عن 11 عاما و25 طفلا في جيل 14 عاما و27 طفلا في جيل 15 عاما. ومن بين القتلى 13 معوقا أناس جارت عليهم الايام ففقدوا اطرافا او حواس وباتوا مقيدي الحركة. وهؤلاء لا يقاومون الاحتلال قط بل انهم يستصعبون التحرك من اجل قضاء الحد الادنى من احتياجاتهم اليومية. احدهم قتل يوم 9 تشرين الثاني نوفمبر برصاص الاحتلال وهو أبكم وأصم. وقد برر الناطق العسكري الاسرائيلي قتله بأن الجنود طلبوا منه ان يتوقف فلم يمتثل للاوامر فاطلقوا النار عليه. ولم يجد الناطق حرجا في تفسير الجريمة عندما ابلغ ان الرجل لا يمكن ان يسمع الاوامر. ومن بين القتلى 79 امرأة من ربات البيوت اللواتي قتلن في ساحة الدار، او من تلميذات المدارس اللواتي قتلن في ساحة المدرسة. هؤلاء ايضا لم يشاركن في المقاومة. والمرأة كما نعرف مغيبة عن ساحة الانتفاضة هذه المرة، على عكس الانتفاضة الاولى التي كانت جماهيرية. ومن بين القتلى اكثر من عشرة تجاوزوا الستين. كل هؤلاء قتلوا بدم بارد. اي من دون مقاومة. ومن دون ذنب. بعضهم برصاص قناصة الاحتلال عن سبق تعمد واصرار. ولكن حتى الذين قتلوا نتيجة الاهمال او الصدفة لا يوجد من يحصل لهم حقهم الاولي، وهو معاقبة المجرم القاتل