يرى بعض المحللين ان روسيا تتصدر الجهات المتضررة من هجمات 11 ايلول سبتمبر 2001، اذ ان الطريق فتح واسعاً أمام الولاياتالمتحدة الى آسيا الوسطى التي قد تقع بأيدي الاميركيين فيحولونها حاملة طائرات في قلب القارة ووسيلة لاحتواء روسيا استراتيجياً من خاصرتها الجنوبية. كما قد يتمخض تطرف الاسلاميين عن نتائج سلبية للغاية بالنسبة الى موسكو، فالإرهاب المنطلق من الوكر الافغاني موجه ليس ضد الولاياتالمتحدة وحدها، بل ضد المصالح الروسية في آسيا الوسطى. وتوجد معسكرات ابن لادن التدريبية في افغانستان، وعددها حوالي 80 معسكراً حسب الدوائر الأمنية الروسية، على امتداد الحدود مع دول الكومنولث السوفياتي خصوصاً في مدينتي مزار الشريف وقندز. والهدف الاستراتيجي للاسلاميين المتطرفين في افغانستان اطاحة الأنظمة الحاكمة في آسيا الوسطى تحت شعارات دينية، وإعادة رسم خريطة المنطقة، واقامة "دولة الخلافة الاسلامية" وبسطها لاحقاً على مناطق اخرى، منها روسيا. وهذا المخطط معروف بالنسبة الى القيادة الروسية، إلا انها تأخرت في تدارك الأمر ومعالجته، فاستفحل حتى أطاح ناطحات السحاب في الولاياتالمتحدة. وقد يصح القول ان السياسة الروسية في آسيا الوسطى والقوقاز تعاني من عقدة ضيق الوقت التي خلّفت اسقاطات عميقة في تصرفات الكرملين، وجعلتها متسرعة متشنجة بعد مضي عشر سنوات من الخمول السياسي في الخارج والتأرجح والبلبلة والفوضى في الداخل. "فالاحتياطي السوفياتي" للنفوذ الروسي في جمهوريات آسيا الوسطى استنفد، وترعرعت هناك اجيال جديدة في ظل الاستقلال، كما نشأت صفوة جديدة من السياسيين ورجال الاعمال الذين أشاحوا بوجوههم عن روسيا، وباتوا يتطلعون الى جهات اخرى: تركيا، ايران، اميركا، ما يشطب كل "الأفضال التاريخية" التي كانت لروسيا السوفياتية في المنطقة، ويحملها على التخلي عن المشاريع الجيو - سياسية الضخمة كالنزعة الأوراسية أو السلافية والعودة الى الواقع للحفاظ على البقية الباقية من نقاط النفوذ، وليس مراكزه. الا ان توالي الاحداث المتسارعة في العالم واختيار الشرق الأوسط وآسيا الوسطى على وجه التحديد، ساحة للتنفيس والانتقام حوّلا البقية الى وهم كبير، فيما أقدم الكرملين على جهود مجموعة خلال العامين الماضيين لمداراة ذلك الوهم. وفي مقدم تلك الجهود احياء معاهدة الأمن الجماعي التي وقّعت قبل عشر سنوات لتشكيل مجلس الأمن الجماعي لدول الكومنولث السوفياتي وهيئاته الاستشارية مجلس وزراء الخارجية ومجلس وزراء الدفاع، ولجنة أمناء مجالس الأمن القومي ولجنة رؤساء أركان جيوش الدول المشاركة. ولم يكن وراء هذه القائمة الطويلة اسهام ملموس في ضمان الاستقرار الاقليمي والأمن الدولي في المنطقة على مدى ثماني سنوات منذ توقيع المعاهدة. وفي العامين الماضيين شهد نشاط المجلس تطوراً ملحوظاً على خلفية تصاعد الارهاب. فكانت الخطوة الأولى التمهيد لتشكيل قوات الانتشار السريع في آسيا الوسطى. والخطوة الثانية وضع خطة تشكيل القوات المشتركة للتصدي للعدوان الخارجي ومكافحة الارهاب في عمليات حربية مشتركة. وفي هذا الاطار تم نهاية العام 2000 الاتفاق على تأسيس المركز الدولي لمكافحة الارهاب في أقطار الكومنولث. وحدد اليوم الأول من آب اغسطس 2001 موعداً لتشكيل قوات الانتشار من 1300 جندي كبداية أربع كتائب روسية وقزخية وقرغيزية وطاجيكية، على ان يكون مقر قيادتها في بشكيك عاصمة قرغيزستان. إلا ان "ضيق الوقت" حال دون التنفيذ الفعلي للخطوة الأولى، كما حال دون القيام بالخطوات التالية المستندة اساساً الى التدرج المرحلي الذي دخل في تعارض صارخ مع تطور الاحداث في العالم. وهكذا أجهض مشروع الامن الجماعي بعدما طالت فترة تمخضه. وكان من أسباب تعثر التنفيذ عدم اطمئنان شركاء روسيا في آسيا الوسطى الى قدرتها على حمايتهم فعلاً. وبتقوض المشروع فقدت روسيا احدى الوسائل التي كان يراد لها ان تتولى دور العامل الفاعل في واحد من أهم الاتجاهات الجيو - ستراتيجية الروسية وهو الاتجاه الجنوبي، أي المعبر الرئيسي الى الخليج والمحيط الهندي. وبدلاً من مواكبة الاحداث باتت روسيا تجرجر قدميها في مؤخرة تلك الاحداث! ومعروف ان آسيا الوسطى متورطة ومتوغلة عميقاً في المشكل الافغاني. واذا تركنا جانباً المصالح الجيو - سياسية والاقتصادية وركزنا على الجانب القومي الديني فقط للقضية، يتجلى عمق ذلك التوغل. فالحرب الاهلية في افغانستان بين حركة "طالبان" وخصومها تجري، حسب بعض التقديرات، على خمس جبهات اصغرها جبهتا هور شاهشران وباميان الخزرية، الشيعيتان، في أواسط البلاد. وكانت قوات "طالبان" قد أخمدت المقاومة في جبهة باميان قبل شهور، حيث فجرت تماثيل بوذا الشهيرة. الا ان زعيم الخزر محمد كريم خليلي استجمع قواه في الاسابيع الاخيرة، ولن يتوانى في تسديد الضربة الى كابول من الخلف في حال زحف قوات الشمال عليها هذه الايام. وثمة جبهة ثانوية اخرى هي جبهة هراة على مقربة من الحدود الايرانية، ويقودها زعيم الشيعة هناك اسماعيل خان، وقوامها زهاء 7 آلاف محارب يتمتعون بدعم ايران، ويتأهبون لاقتحام المدينة. إلا ان الجبهتين الرئيسيتين اللتين يتجلى فيهما التداخل بين آسيا الوسطى وافغانستان هما الجبهة الطاجيكية بقيادة الجنرال محمد فهيم وأحمد شاه مسعود سابقاً وهي أقوى جبهة مقرها وادي بانجشير شمال شرقي افغانستان، وتتمتع بدعم الروس. والجبهة الأوزبكية التي افتتحت قبل اسابيع ويقودها الجنرال عبدالرشيد دوستم وهدفها الاستيلاء على مزار الشريف ثاني اكبر مدن افغانستان. ووجه التداخل ليس في المسميات، فهي اصطلاحية. إلا ان السكان على جانبي الحدود من قومية واحدة. وكما هي حال افغانستان وباكستان حيث يقيم البشتون الذين يشكلون أكثرية الافغان على رقعة مشتركة بين البلدين، كذلك يقيم الاوزبكيون والطاجيكيون في أرض مشتركة مع افغانستان. وعلى رغم علمانية نظام الحكم في كل من اوزبكستان وطاجكستان فإن التقارب الطائفي مع الافغان حقيقة لا جدال فيها الأوزبكيون سنة والطاجيكيون شيعة. ومن هنا فإن قناة عبور التطرف الاسلامي الافغاني الى الجمهوريتين مفتوحة منذ ان تحولت افغانستان معقلاً للاسلاميين. وبموازاة تصعيد نشاطهم في افغانستان نشأت التنظميات الاسلامية المعارضة في آسيا الوسطى، واكبرها "الحركة الاسلامية الاوزبكية" التي يقودها ثلاثة من "المجاهدين"، هم جمعة نمانغاني التنظيم العسكري وطاهر يولداشيف ومحمد صالح القيادة السياسية. واللافت ان ما تنشره وسائل الاعلام الروسية عن الحركة وزعمائها أشبه بالمقتطفات المستلة من ملفات الدوائر الأمنية ومحاضر جلسات المحاكم، فلا شيء مؤكداً فيها، حتى المعلومات عن سيرة هؤلاء الرجال لا توحي بالاطمئنان. فعلى سبيل المثال جاء في ملف التحقيقات الذي رفع الى المحكمة العليا في اوزبكستان قبل اشهر "ان أعضاء الحركة الاسلامية الاوزبكية اقترفوا في الفترة ما بين 1991 - 1999حوالي 19 جريمة قتل و35 عملية نهب وسلب وقاموا بسلسلة تفجيرات في طشقند في شباط فبراير 1998 ذهب ضحيتها 16 قتيلاً و128 جريحاً، ومارسوا عمليات التخريب في ضواحي العاصمة في تشرين الثاني نوفمبر 1999. كما نظم طاهر يولداشيف وجمعة نمانغاني حملة ارهابية على مقاطعتي سرخان دار وطشقند في الآونة الأخيرة". وتفيد المصادر الروسية ان جمعة باي احمد جان نمانغاني 33 عاماً خريج الثانوية الزراعية في مدينة نامنغان متزوج وله ابن. وكان قد خدم في الجيش السوفياتي الإنزال المظلي وشارك في الحرب الافغانية - السوفياتية العام 1988. وبعد التسريح عاد الى وادي فرغانة العام 1989، وتتلمذ على يد الشيخ عبدالولي انديجاني زعيم الاصوليين في آسيا الوسطى، ثم شارك في تأسيس "تنظيم التوبة العسكري"، وتعاون مع "جمعية العدالة" و"تنظيم جند الاسلام" في نامنغان، وكذلك مع "حزب الاحياء الاسلامي" الطاجيكي منذ العام 1991. وفي العام التالي اضطر الى الفرار من اوزبكستان مع ثلاثين من أنصاره الى منطقة كورغان تبه غرب طاجكستان، ومنها توجه الى افغانستان وواصل التدرب في معسكر "الجماعة الاسلامية" قرب مدينة طهار. وتضيف المصادر ان الاستخبارات الباكستانية أوفدته في بداية 1993 الى معسكر "بدر - 2" شرق افغانستان، حيث عمل في تدريب عناصر من مختلف تنظيمات الاسلاميين الدولية. وبعدها أوفد الى مدينة بيشاور الباكستانية حيث تخرج في دورة لتدريب قادة التنظيمات الارهابية في معسكر ميرام شاه تحت اشراف الاستخبارات الباكستانية. وعاد نامنغاني من افغانستان صيف 1993 ونظم بمساعدة الاخوان المسلمين وحزب التحرير الاسلامي وغيرهما معسكراً لتدريب المعارضة الاسلامية الاوزبكية في وادي قره تيغين طاجكستان، ثم أسس شبكة متشعبة من المعسكرات التدريبية في شمال طاجيكستان، وساهم رجاله مساهمة نشيطة في المعارضة الطاجيكية الموحدة ضد نظام الرئيس إمام علي رحمانوف الموالي لموسكو. وكانت جماعة نمانغاني حسنة التنظيم ومسلحة بكل المعدات الحديثة، بما فيها الأسلحة الخفيفة والمدرعات والمصفحات والمدافع العديمة الارتداد والراجمات الصاروخية والمضادات الأرضية. ويرى الخبراء ان قوات نمانغاني أفضل تسليحاً من جيوش بعض دول آسيا الوسطى. وفي 1997 صار نمانغاني القائد العام لما سمي "القوات المسلحة للحركة الاسلامية الاوزبكية" التي تسللت الى اوزبكستان مراراً من خلال قرغيزيا وشنت هجمات عدة على قوات الشرطة العام 1999، إلا أنها هزمت في مدينة يانغي آباد 75 كيلومتراً عن طشقند بعدما تعرضت لقصف جوي من قوات الحكومة. وفي بداية العام الحالي وبناء على طلب المسؤولين في العاصمة الطاجيكية دوشانبه تم ترحيل نمانغاني وأنصاره مع اكثر من 700 شخص من أفراد عوائلهم الى منطقة قندز الافغانية التي تسيطر عليها حركة "طالبان". واشرف على الترحيل وزير الدفاع الطاجيكي شير علي خيرالله. وذكر ان مروحيات وزارة الدفاع الطاجيكية قامت بثماني رحلات الى افغانستان في نهاية كانون الثاني يناير 2001 نقلت خلالها اكثر من 250 من مقاتلي الحركة الاسلامية الاوزبكية ويفترض ان يكون نمانغاني بينهم. الا ان حرسه الشخصي وقوات يزيد عددها على عدد "المطرودين" ظلت في وضواحي طويل دار تشكل خطراً على قرغيزيا واوزبكستان وعلى طاجيكستان نفسها. وبذلك توسعت رقعة نشاط جمعة نمانغاني الذي سماه بعضهم "خليفة اسامة بن لادن" في آسيا الوسطى. والى جانب حركة نمانغاني تنشط قوات "حزب التحرير" الاسلامي المتطرف الممنوع في دول آسيا الوسطى. وكان ألقي القبض على أكثر من مئة شخص من أعضائه في طاجيكستان العام الماضي. وحكم على 26 منهم بالسجن مدداً تصل الى 18 عاماً. وكما هي حال الحركة الاسلامية الأوزبكية يمارس حزب التحرير نشاطه في جميع دول آسيا الوسطى وبخاصة قرغيزيا. وثمة بالطبع تنظيمات ناشطة اخرى للاسلاميين مثل "حركة العدالة" و"جند الاسلام" و"الجماعة الاسلامية" وغيرها. بعد الغارات الجوية الأولى على افغانستان، كرر الرئيس الروسي بوتين تأييد بلاده المتحفظ للاميركيين، مشدداً على عدم مشاركة القوات الروسية في القتال فعلياً. إلا ان المحللين يعتقدون بأن روسيا تشارك في الحرب بصورة غير مباشرة من خلال قوات التحالف الشمالي الافغاني المعارض. فالمساعدات العسكرية لها تفترض إرسال فنيين ومدربين وخبراء دبابات روس الى افغانستان، فيما أصدرت وزارة الدفاع الروسية بياناً اكدت فيه ان روسيا لم ولن تبعث رجالاً مع شحنات السلاح الى قوات حكومة رباني. ويؤكد المحللون ان الفرقة الروسية المرابطة على الخطوط الامامية في طاجيكستان تعتبر من أفضل فرق الجيش الروسي تجهيزاً واستعداداً للقتال. إلا انها لن تعبر الحدود الطاجيكية الى افغانستان مطلقاً ومهمتها تقتصر على التصدي لتحشدات "طالبان" فيما لو عبرت تلك الحدود بهدف الانتقام أو في حال لاذت بالفرار