تسببت جزيرة "كورسيكا" الفرنسية باستقالة وزير الداخلية جان بيار شوفنمان من منصبه بعدما رفض مشروعاً تقدمت به الحكومة لإعطاء صلاحيات تشريعية لبرلمان "كورسيكا" معتبراً ان هذا المشروع يؤدي الى ضرب "الجمهورية" التي تقوم على فكرة المساواة بين المواطنين بغض النظر عن أصولهم الأثنية. ولمعالجة المشكلة الكورسيكية المزمنة في فرنسا، تسعى حكومة جوسبان الى ايجاد حل يلبي طموحات التيار الانفصالي فيها، فهل تبلغ الجزيرة في عهد جوسبان ما لم تبلغه في العهود الأخرى؟ "الوسط" من باريس تلقي أضواء على هذه القضية المعقدة. شكّلت جزيرة "كورسيكا" الفرنسية المتوسطية مصدراً دائماً لأوجاع الرأس لدى الحكومات الفرنسية المتعاقبة على رغم حجمها الجغرافي والديموغرافي المحدود 250 ألف نسمة. ومثلما فشل اليمين الفرنسي في ارساء الهدوء والسكينة واحترام القانون والنظام في الجزيرة، لم يتمكن اليسار من اعتماد سياسات فعّالة حيالها، لا بل يمكن القول ان حكومة ليونيل جوسبان الراهنة ضربت رقماً قياسياً في تورطها في الفضائح الكورسيكية وذلك من خلال سقوط محافظ الجزيرة السابق كريستيان بونيه في فضيحة مطعم مُشيّد بطريقة غير شرعية، ورفض صاحبه ازالته على رغم القرارات الرسمية باقفاله، فما كان من المحافظ الا ان امر دورية من الشرطة بنسفه واحراقه ليلاً وبطريقة غير شرعية لايهام الرأي العام ان الامر ناتج عن صراعات بين المافيات ومراكز القوى المحلية. وعندما فشلت المحاولة واكتشف الرأي العام تورط المحافظ في عمل شبيه بأعمال المافيات واساليبها، انهمرت الانتقادات على الحكومة الفرنسية ورئيسها ليونيل جوسبان وقُدّم المحافظ للمحاكمة في مبادرة هي الاولى من نوعها في تاريخ الجمهورية الخامسة. وعلى هامش المحاكمة نشرت وسائل الاعلام المحلية تقارير عن تورط مستشاري الوزير الاول الفرنسي في ما حصل معتبرة ان المحافظ ارتكب فعلته بالتنسيق مع مكتب رئيس الحكومة . وكانت قضية متفجرة اخرى قد سبقت فضيحة المحافظ بونيه، فقد تعرض سلفه المحافظ أرينياك للاغتيال على ايدي جماعة محلية مجهولة يقال انها مرتبطة بالانفصاليين الكورسيكيين ما شكّل تحدياً خطيراً للدولة الفرنسية. وبين القضيتين برزت اخيراً قضية جديدة تمثلت باغتيال شخصية كورسيكية تجرأت على فضح شبكات المافيا وعالمها الداخلي وتعذّر مرة اخرى التعرّف على كامل هوية الفاعلين والذين يقفون وراءهم. واذا كان العنف الطافح في الجزيرة يستهدف ممثلي السلطة الفرنسية والمتعاونين معها، فانه يطال ايضاً المستثمرين والذين يمتنعون عن دفع الخوّات للعصابات السرية التي غالباً ما يظهر اعضاؤها في مؤتمرات صحافية وايديهم على الزناد وتغطي وجوههم اقنعة ويرفعون مطالب انفصالية او يوجهّون تحذيرات وانذارات للسلطة الفرنسية والمتعاونين معها او يعلنون عن هدنات قتالية ولا تشمل هذه الهدنات الا الصدام مع قوات الدولة الرسمية، فيما المتفجرات تندلع في القرى السياحية او الفيلات العائدة لشخصيات لا تحظى برضى الانفصاليين. وعندما تكفّ الجماعات الانفصالية عن مهاجمة الدولة ورموزها فإنها تشن حروباً دموية ضد بعضها البعض. وتُشير روايات متقاطعة ومنتشرة بقوة في فرنسا الى ان الحكومات الفرنسية المتعاقبة خلال نصف القرن الاخير كانت تعتمد اساليب ملتوية في تعاملها مع الجزيرة، فتتفاوض سراً مع الجماعات السرية وتهاجمها علناً وذلك من اجل ضمان هدوئها او للحؤول دون امتداد عملياتها الارهابية الى "المتروبول" نفسه، وتذهب بعض الروايات الى ابعد من ذلك عندما تؤكد ان المسؤولين الفرنسيين غالباً ما كانوا يذهبون الى الجزيرة مُحمّلين بحقائب مُدجّجة بالاوراق المالية ثمناً لهدنة او لضمان هدوء المافيات او لشراء بعض العصابات المتمردة …الخ. والمراقب الاجنبي لأحوال الجزيرة وعلاقتها بالسلطة الفرنسية يحار كيف ان هذه السلطة تعجز عن ضبط أمن "كورسيكا" الصغيرة والمحاصرة بالمياه، على الرغم من وسائلها الحديثة والضخمة وعلى الرغم من هامشية الجماعات الانفصالية وتمثيلها الضئيل بين السكان ذلك لأن الغالبية الساحقة من نواب الجزيرة ترفض الانفصال عن فرنسا، ويتمتع الانفصاليون الشرعيون بمقاعد ضئيلة للغاية في برلمانها المحلي. وتزداد حيرة المراقب الاجنبي ازاء الحديث عن الاساليب غير الشرعية والتفاوض السري بين السلطات الرسمية والمافيات والعصابات السرية المسلحة وذلك في دولة تعطي دروساً للخارج في احترام النظام والقانون؟ لكن الحيرة سرعان ما تتبدد اذا ما وقفنا على الاوضاع المعقدة في الجزيرة. ويستفاد من الوقائع المتصلة بأعمال العنف والتمرد الانفصالي، ان اهالي الجزيرة وعلى رغم تعلّقهم بغالبيتهم الكبيرة بالانتماء الى فرنسا، فانهم يلتزمون الصمت المطبق حيال الجرائم المحلية فلا يتعاونون مع القضاء لكشف المجرمين والخارجين على القانون فلا يدلون بمعلومات عنهم ولا يتقدمون للشهادة ضدهم. لكن لماذا يتكتم الكورسيكيون على هذه الجماعات؟ الاجابة عن السؤال لا يمكن ان تكون الا معقدة ومتداخلة. فمن جهة تطغى العلاقات التقليدية على المجتمع الكورسيكي وتنطوي هذه العلاقات على قيم وعادات ونظام اخلاقي تنبذ المُشهّرين وتعزل الواشين لتصبح كل شهادة في المحكمة ضد انفصالي بمثابة وشاية وليست احتراماً للقانون. ومن جهة ثانية تقوم الجماعات المتمردة وعناصر المافيا بأعمال انتقامية ضد الواشين والمُشهّرين كي يكونوا عبرة لمن اعتبر واحياناً تمتد الاعمال الانتقامية الى الاهل والاقارب. واخيراً يصعب على السكان التعاطي الايجابي مع ادارة محلية يُنظر اليها وكأنها ادارة خارجية ذلك ان التنظيم المتبع في الجزيرة منذ ان ضمها نابليون بونابرت، وهو كورسيكي للمناسبة، يقضي بتقسيمها الى مقاطعتين متنافستين لتسهيل السيطرة عليها، وبعدم تعيين مواطنين محليين في الادارة فيها، وبتأهيل نخب اقلوية من ابنائها في المركز الفرنسي. ويندرج الحل الذي تقترحه حكومة جوسبان في مشروع تم التفاهم عليه بين مستشاري رئيس الوزراء وغالبية النواب الكورسيكيين بفرعيهم الموالي والمعارض للحكومة الفرنسية ويتضمن اعترافاً بخصوصية كورسيكا وبلغتها المحلية واعطاء برلمانها المحلي حق التشريع ونوعاً من الادارة الذاتية لشؤونها، ويتضمن فترة انتقالية تنتهي عام 2004 يُنظر بعدها في الخطوات اللاحقة وتُختبر خلالها قدرة الهيئات المحلية على التكيّف مع الوضعية الجديدة. وعلى رغم العبارات التطمينية والتصريحات المهدئة التي صدرت عن الحكومة ورئيسها ليونيل جوسبان، فان المشروع المذكور ينطوي على استجابة لمطالب الانفصاليين الذين كانوا يطالبون على الدوام بحكم ذاتي او بالانفصال تماماً عن فرنسا. وتتمثل هذه الاستجابة بتمييز الكورسيكيين عن غيرهم من الفرنسيين تجاه القانون فمنذ اللحظة التي يبدأ فيها تطبيق المشروع تكفّ المساواة بين الكورسيكي والفرنسي امام القانون الذي سيصبح ملزماً للفرنسي وغير ملزم للكورسيكي الا بما يتناسب مع الوضعية الخاصة التي عُينت لكورسيكا في المشروع. ويسود اعتقاد بان المشروع الجديد يفتح آفاقاً واسعة امام انفصال كورسيكا عن فرنسا وانه آيل لا محالة الى حكم ذاتي في المدى المنظور وينطوي على انصياع اكيد لمطالب الحركات الانفصالية المسلحة ذلك ان غالبية ممثلي الجزيرة الشرعيين لم تكن تطالب بالانفصال وتعتبر نفسها جزءاً لا يتجزأ من الجمهورية الفرنسية وتلتزم القانون الفرنسي وتحترم الدستور الجمهوري ناهيك عن ان استطلاعات الرأي والاستفتاءات الشعبية السابقة كانت كلها تؤيد البقاء داخل الجمهورية الفرنسية. وأثار مشروع جوسبان الكورسيكي عاصفة من الانتقادات طالت الحكومة وبصورة خاصة وزير الداخلية وقيادات في الحزب الاشتراكي، كما طاولت الاحزاب المؤتلفة في الحكومة وفي صفوف التيارات اليمينية واليسارية عموماً التي انقسمت بين مؤيد ومعارض للمشروع ناهيك عن تدخل المثقفين والمعلّقين الذين تراشقوا بالحجج التاريخية والمعاصرة حول مخاطر المشروع ومحاسنه. ويستحضر المثقفون المعارضون للمشروع حججاً تاريخية وسياسية ضده، فيرى ماكس غالو المؤرخ والروائي المعروف والناطق باسم حكومة بيار موروا الاشتراكية عام 1982 ان تاريخ فرنسا ليس منفصلاً عن تاريخ كورسيكا ويقول ان نابليون بونابرت عاقب الكورسيكيين في القرن الثامن عشر لأن قادتهم حاولوا ضم كورسيكا الى الملكيات المناهضة لفرنسا الجمهورية الفتية في حينه 1796 - 1797… واعتبر ان جوسبان ارتكب خطأ تاريخياً لأنه لم يطلب من الجماعات الانفصالية ادانة العنف والتخلي عن الارهاب قبل البحث في تطبيق مشروعه للحل في كورسيكا. وكان غالو يردّ على مدير تحرير صحيفة "لوموند" اليومية جان ماري كولومباني الذي دافع عن مشروع جوسبان واستند الى كلام اطلقه مكسيميليان روبسبير زعيم جمعية اصدقاء الدستور اليعاقبة تجاه كورسيكا حيّا فيه ممثلي الشعب الكورسيكي ولم يعتبر ان كورسيكا جزءاً من فرنسا كما يعتبر "اليعاقبة" اليوم في اشارة الى جان بيار شوفنمان واصدقائه. ورأى كولومباني ان نابليون بونابرت هو الذي وضع حداً لاستقلال كورسيكا وضمها في عهده الامبراطوري غامزاً من قناة الرافضين للمشروع وواصفاً إياهم في خانة بونابرت وليس في خانة روبسبير. يبقى التذكير في هذا المجال بمواقف المؤيدين للمشروع وهم يمثلون غالبية التيار الاشتراكي والتيار الليبرالي وذوي النزعة الاوروبية ويرى هؤلاء ان كورسيكا ليست المنطقة الفرنسية الاولى التي تحظى بوضعية خاصة في اطار الجمهورية فقد سبق لكاليدونيا الجديدة ان حصلت على وضعية اكثر استقلالية وتنظر تاهيتي الفرنسية ان يصادق مجلس الشيوخ على وضعيتها الخاصة التي تتضمن الاعتراف بعلم ولغة وسلطات تشريعية. ويرى المؤيدون للمشروع ان "الجمهورية" الفرنسية ليست مهددة بسبب الاصلاحات الكورسيكية والتهديد يطال فقط صيغة جمهورية لم تعد ملائمة ويستند هؤلاء الى ان المشروع الاوروبي الذي ينطوي في بعده الاهم على نظام فيديرالي، ما يعني ان ما يصحّ على اوروبا الفيديرالية يصحّ على فرنسا الاوروبية. ناهيك عن الدعوات الاوروبية المتكررة والموجهة لاعفاء الاتحاد الاوروبي والتي تحض على الاعتراف باللغات المحلية المقموعة ولا يمكن لفرنسا ان تقف ضد هذا التوجه وتواصل بالتالي تجاهل حق الكورسيكيين في الاعتراف بلغتهم وتدريسها. ويعتقد مؤيدو المشروع ان الاصلاحات الكورسيكية لن تنتهي باستقلال الجزيرة لأن اهلها لا يحبّذون اصلاً الاستقلال فهم يعرفون انهم يخسرون بانفصالهم عن فرنسا اكثر بكثير مما يربحون. وان كان بعض هؤلاء يرى ان المافيات الكورسيكية ستكون الرابح الاكبر من الاصلاحات لان الضوابط القانونية التي يضعها القانون الفرنسي على التصرف بالعقارات والشواطئ بصورة خاصة ستزول مع الاصلاحات الجديدة وسيكون بوسع المافيات التصرف بهذه الشواطئ والافادة من الامكانات السياحية الهائلة التي لم تُستثمر كلها بعد في الجزيرة. وكما هي الحال في كل المواضيع الوطنية الشائكة في فرنسا، زجّ البعض باسم المسلمين في هذه القضية، فقد اكد الجغرافي والاستراتيجي المعروف ايف لاكوست ان الاعتراف بخصوصية كورسيكا قد يقود يوماً الى الاعتراف بخصوصية المسلمين المتجمعين في الضواحي وفي اماكن محددة. ورأى لاكوست ان لا شيء مستغرباً على هذا الصعيد فمثال المناطق الفلسطينية المستقلة والمحكومة ذاتياً يشبه مثال المسلمين في الاراضي الفرنسية وما هو ممكن هناك قد يصبح ممكناً في فرنسا اذا ما قيّض لمشروع جوسبان، ان يطبق في كورسيكا ويعتبر لاكوست ان الخطر يأتي من هذا الجانب اكثر من الجوانب الاخرى المحصورة في الاراضي والمقاطعات الفرنسية في ما وراء البحار. خلاصة القول ان الحكومة الفرنسية التي عانت من المشكلة الكورسيكية خلال السنوات الماضية وسقطت في الاختبار الكورسيكي لا تملك ضمانات كافية لنجاح مشروع رئيسها الاصلاحي فاستطلاعات الرأي جاءت سلبية تجاهه والعارفون بشؤون هذا الملف يرون ان الاصلاحات المقترحة لا تنهي العنف المحلي وستفتح شهية الانفصاليين على طلب المزيد من التنازلات واستخدام العنف لاستدراجها، في حين يضحي جوسبان بسمعة حكومته الناجحة بائتلافها بعدما استقال منها جان بيار شوفنمان وعند ذلك تكون حكومة اليسار الائتلافية قد خسرت نفسها من دون ان تربح كورسيكا تماماً