لم يبق صحافي أو معلق أو خطيب في لبنان الا تحدث عن خلوّ الانتخابات اللبنانية من البرامج والمعاني السياسية. لكن ربما كانت السمة الأولى والمفارقة الأولى للزمن السياسي اللبناني ان الخلاء هذا تلازم مع بلوغ التحديات التي تواجه لبنان حجماً هيولياً. فالانتخابات وقعت على مفارق وتقاطعات يصعب عدّها، وهي جميعاً وثيقة الارتباط بمستقبل الوطن والشعب اللبنانيين. وهذا ما يجعلها، أقلّه من حيث المبدأ، احدى أهم العمليات السياسية المماثلة التي شهدها البلد الصغير في تاريخه الحديث. فهي تواكب عهداً جديداً بدأ في سورية برحيل الرئيس حافظ الأسد وحلول نجله بشار محله. والمواكبة هذه تنطوي على أسئلة سياسية واقتصادية وأمنية يفترض بالبرلمان الجديد ان يتعامل معها. وتبعاً لمركزية الدور السوري في لبنان، وللنقد المتعاظم الذي يواجهه بعد الانسحاب الاسرائيلي، فإن البرلمان الذي ستلده الانتخابات لا بد ان يراقب عن كثب تطورات الجبهة السلمية بين دمشق وتل ابيب وانعكاساتها المحلية، وان يتصرف بموجب ذلك. وهنا، بالضبط، يكمن معنى استمرار الهندسة السورية للانتخابات اللبنانية، وفي الآن نفسه معنى التراخي النسبي للهندسة المذكورة ومهندسيها. لكن الانتخابات تتزامن ايضاً مع الانسحاب الاسرائيلي من الأراضي اللبنانيةالمحتلة في الجنوب والبقاع الغربي. وهذا يعني ان البرلمان الجديد سيتعامل مع ظاهرات معقدة كالمقاومة وحزب الله سبق لاتفاق الطائف ان عاملها معاملة استثنائية، وايضاً مع ظاهرات محتملة كالسلام والتطبيع مع اسرائيل. ولهذه العناوين جميعاً وجه آخر في لبنان يعبر عنه مصطلح "توطين الفلسطينيين" الذي تتعاطى معه كل الطوائف، فضلاً عن الدولة واجهزتها، بحساسية تضرب جذرها في تشكيل كل طائفة وفي تركيبها و"ثقافتها". ثم ان الانتخابات هي ما سيرسم المستقبل السياسي لرئيس الجمهورية العماد اميل لحود ولعهده. فالبرلمان الجديد هو الذي يمدد أولا يمدد، ويجدد أو لا يجدد. وبالمعنى نفسه، فهو الذي سيملي المستقبل السياسي لرئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. اذ هل سيتولى برلمان العام ألفين حمل هذا الأخير الى السراي مجدداً، أم سيمهد لعودته، أم سيقطع الطريق كلياً عليها. وإذا كان هذا الطابع هو ما يفسرّ "حرب الرئيسين" لحود والحريري، أو معظمها، فإن لكل من الاحتمالات المذكورة أثره في الطوائف اللبنانية وعلى التوازنات التي تتحكم بها. وعن هذا البند تتفرع بنود فرعية اخرى لا يمكن التقليل من أهميتها. فالانتخابات هذه مطالبة ببلورة معنى اتفاق الطائف بوصفه شرعة حكم، لا سيما في ما خص مسألة التوازن والصلاحيات بين الرؤساء... وهي مسألة ذات امتدادات قاعدية، اجتماعية وطائفية. فأي تأويل للطائف هو الذي سينتصر له البرلمان الجديد، وكيف سترسو العلاقة بين نظرية الحكم في لبنان وممارسته، وكيف ستترسم الحدود بين "رئاسة الجمهورية" و"مجلس الوزراء"؟ واستطراداً، تقع الانتخابات هذه على منعطف اقتصادي تجعله الأزمة المعيشية الطاحنة مُلحّاً ودرامياً. فهل سيأتي البرلمان الجديد لينصر السياسة الاقتصادية الحريرية المضي في الاستدانة والتعمير والرهان على مردود لا بدّ ان يظهر! ام يأتي، على رغم كل نتائج بيروت، لنصرة الاقتصاد السياسي الحصّي سداد الدين والتقشف، أي تجفيف المصادر الداخلية وفرص العمل وحركة الاستهلاك دفعة واحدة. والى ذلك، فالانتخابات الحالية وبرلمانها هي المنوط بها اعادة تعريف الحدود الديموقراطية التي دللت "حرب التلفزيون"، فضلاً عن أمور اخرى اهمها السجال حول "المال السياسي"، أنها لا تزال بالغة الميوعة على رغم انقضاء عقد على السلم الاهلي الرسمي. وفي هذه الحدود يشير عدم الاستقرار على قانون انتخابي مقنع، والعشوائية غير البريئة التي وضع بموجبها القانون الحالي، الى حجم الاصلاح المطلوب. وبناء على ما سبق يُفترض بهذه الانتخابات، نظرياً، ان تكون الفيصل في النزاع الضاري، ولو على نحو ضامر غالباً، بين نظامي القيم اللذين تعاقبا على جمهورية الطائف: نظام الراحة والثراء والاقتداء بالنموذج الاميركي بعد تكييفه لبنانياً بالطبع، ونظام الصرامة والتقشف وتحبيذ الجندية والترويج لفكرة المقاومة، أي الاقتداء الجزئي بالنموذج السوفياتي بعد الكثير من تكييفه اللبناني. وغني عن القول انه اذا كان الرئيس الحريري رمز النظام الأول بامتياز، فالرئيس لحود هو رمز النظام الثاني. ان مجرد ذكر هذه العناوين الكبيرة يدلّ الى حجم المنعطف التاريخي الذي يناط بالبرلمان الجديد ان يتصدى لاسئلته وتحدياته. وهذا انما يكمن، جزئياً، في القضايا التي تراكمت خلال المرحلة المنصرمة. فالبلد الذي تعاقبت عليه الحرب والتعمير والخضات الديموغرافية والتحولات السكانية، كما تعاقب الاحتلال والمقاومة والتحرير، ومسلحو الطوائف المحلية والمسلحون الفلسطينيون والسوريون والاسرائيليون والايرانيون، فيما انتقل من "هيمنة مارونية" الى هيمنات متداخلة عاجزة حتى الآن عن انتاج بديل متماسك... هذا البلد ترك عدداً من المسائل الكبيرة معلقة، ثم أضاف اليها عدداً مماثلاً من المسائل الجديدة. وفوق هذا ينبغي ان لا ننسى ان اصغر تفصيل سياسي في عالمنا الراهن صار يمتّ الى العولمة وقضاياها، لا اقتصاداً فحسب انما في ما يخص مسائل الحكم والمحكومية والرقابة العابرة لحدود الدول. وحين نقيس بالمقاييس هذه يصعب ان لا نُصاب بالاحباط من جراء ما نعرفه عن ظروف الانتخابات وخلوّها من المضمون السياسي. الا ان نظرة أهدأ وأشد تواضعاً في طموحاتها تسمح بالقول إن احتمالا قد فُتح للمرة الأولى في جمهورية الطائف. فالانتخابات انتهت على عكس ما بدأت، لا سيما في بيروت حيث جاء الزلزال مدوياً. وهذا اشار ويشير الى بدايات او احتمال بدايات قد تصب، اذا ما أُحسن توظيفها، في خدمة هدف وطني جامع. وذاك ما يبقى، بطبيعة الحال، مشروطاً بادراك المسؤولين لمسؤولياتهم، فلا ينتهي الأمر استئنافاً للصغائر السياسية على نطاق اخطر. فإما ان ينشدّّ الوضع السياسي بأسئلته وطروحاته الى الصعيد الوطني الأعلى، واما ان تغرق الحياة السياسية في ازمة دستورية مخيفة، ومرشحة لأن تتعدى الحيّز الدستوري الى الحيّز الاهلي والطائفي. ولا ننسى ان الاستعدادات لانحدار كهذا قائمة دائماً. ان المؤمل هو ان تأتي نتائج الانتخابات كي تؤسس لتجاوز التناقض الأم بين اهميتها وبين فراغها السياسي والبرنامجي. اما عكس ذلك فلا يفعل غير تعميم الفراغ وتزويده انياباً سامّة