بعد اسدال الستار عن "مهرجان جرش الدولي"، هناك سؤال واحد على كلّ الألسنة: أين ذهب الجمهور الذي صنع بالأمس نجاح التظاهرة؟ وكيف يمكن لادارة هذه التظاهرة الأردنيّة العريقة التي يشرف عليها أكرم مصاروة، أن توفّق بين الحفاظ على مستوى الذوق، وجذب الجمهور العريض إلى المدرج التاريخي الذي يحتضن المهرجان؟ لم تكن قائمة النجوم بمخزية أو عاديّة هذا العام: كاظم الساهر وإيهاب توفيق وعلي الحجار وأنغام واصالة نصري وسميرة سعيد ونبيل شعيل وسميرة سعيد... لكن الجمهور لم يأتِ بغزارته المعهودة! فهل استُهلِك كل هؤلاء النجوم لدى المتفرّج العادي، بسبب ترددهم على كل المهرجانات واحتلالهم موقع الصدارة على كلّ الفضائيّات العربيّة؟ السؤال ما زال يبحث عن اجابة... أما دورة جرش الأخيرة، فسلّطت أيضاً الضوء على أحوال القصيدة العربيّة الراهنة بين اسفاف وتألّق، كما خصصت تظاهرة تكريم الشاعرة الفلسطينيّة الكبيرة فدوى طوقان، تحت عنوان عام هو "بين قيد المرأة وفضاء النصّ". ولعل هذه الندوة من أبرز نشاطات جرش هذا العام... لعل السؤال الاكثر الحاحاً بعد اختتام فعاليات مهرجان جرش التاسع عشر هو لماذا خذل الجمهور هذه التظاهرة الفنية والثقافية التي ترسخت سماتها ونمت مع الايام تقاليدها؟ ولماذا بعد ذلك وقبله تتراجع الرهانات على كل ما يحاول السعي باتجاه تقليل مساحة الاسفاف والحيلولة دون امتدادها واستفحالها؟ هذه الاسئلة تجد ذرائعها في ذلك الانفضاض المدهش للجمهور، عن حفلات غنائية يشكل مردودها العصب المالي للمهرجان الذي تمكن منذ سنين من توفير استقلالية مالية له تغطي تكاليفه وتتكفل بتحسين ادائه وبرامجه عاماً اثر عام. فلماذا تتعثر هذه التجربة، وتوضع العراقيل في طريق تحققها؟ انطلاقة المهرجان في السادس والعشرين من تموز يوليو الماضي كانت مكللة بحزن شديد، شبيه بذلك الحزن الذي انطلق في غضون مهرجان العام قبل الماضي، بينما كان العاهل الاردني الراحل الملك حسين يتلقى علاجه الكيماوي في امريكا، في حين كانت البلاد تعاني تلوثا في المياه وبطالة اقتصادية حادة... وحزن هذا العام سببه سقوط مروحية عسكرية ومقتل ثلاثة عشر جنديا اردنيا من القوات الخاصة، وهو ما خُشي ان تنعكس آثاره على مناخات المهرجان. وسارت البداية على ما يرام مع ثلاث حفلات أحياها المطرب العراقي كاظم الساهر استقطبت جمهوراً ضاقت به جنبات المدرج الجنوبي في المدينة الأثرية، وهذا المدرج يتسع لزهاء خمسة الاف متفرج. وقد شكا كثيرون من نفاد تذاكر الحفلات. وتكرر الأمر، وان بشكل اقل، مع المطرب المصري ايهاب توفيق الذي يغني في جرش للمرة الاولى، والذي شكل مفاجأة المهرجان نظرا للازدحام الشديد الذي رافق حفلتيه. حفلات الساهر وتوفيق انعشت آمال القائمين على المهرجان. ولكن ذلك الاقبال لم يستمر طويلاً. فسرعان ما بدأت حشود الجماهير تتضاءل مع حفلات السورية اصالة نصري، والكويتي نبيل شعيل، والمغربية سميرة سعيد، حيث غنى ثلاثتهم أمام مدرج نصف فارغ، وعلت ملامح كل منهم خيبة كبيرة حاولوا استدراكها من دون جدوى. حتى ان سميرة سعيد وهي تحدق في المدرجات الخاوية خاطبت الجمهور، كأنما تواسي نفسها، قائلة: شكراً لأنكم حضرتم لسماعي، مما يدل على انكم تحبونني، وبالتالي سأسعى الى امتاعكم رغم قلة عددكم! واذا كانت هذه الحفلات قد شهدت امتلاء نصف مدرجات المسرح الجنوبي، فان ما جرى في مسرحية "رصاصة في القلب" بطولة علي الحجار وانغام، وتأليف توفيق الحكيم كان يدعو الى الأسف. فقد تأخر بدء عرض المسرحية اكثر من ساعة انتظارا للجمهور الذي لم يحضر، ولتلافي الحرج، قامت ادارة المهرجان بفتح ابواب المسرح مجاناً امام الجمهور الذي جاء بشروطه، وترك بالتالي لمزاجه ان يفرض نفسه، فهنا نفر يرددون كالببغاوات كل ما يقوله الممثلون، وهناك آخرون يرجون علي الحجار ان يقبل بحب انغام لافتين نظره الى شدة هيامها به. ناسين انهم يشاهدون مسرحية. اما الطامة الكبرى فتمثلت في ذلك الذي احضر آلة موسيقية شعبية وشرع يعزف عليها في الركن العلوي من المسرح، وهو ما دفع علي الحجار اثناء حوار في المسرحية الى التنويه بأن صوت تلك الموسيقى العلوية اجمل من صوت المطرب المندلع من الة التسجيل على المسرح! ونبيل شعيل الذي غنى في وقت يزدحم فيه الاردن بالمصطافين الخليجيين، وبعشاق هذا المطرب الكويتي، اصيب بخيبة شديدة، ربما تسبب فيها، كما يرى معلقون، تصريح شعيل بأنه لن يغني في العراق الا اذا افرج عن المعتقلين الكويتيين الذين يقبعون في سجونه في اعقاب الاجتياح العراقي للكويت العام 1990. ولم يشفع لسميرة سعيد اغنياتها الاخيرة التي احتلت مراكز متقدمة في بورصة الاغاني العربية... ويبدو ان علي الحجار وانغام يتوجهان للنخبة في اغنياتهما، ويبدو.. ويبدو! لكن الواضح، ان هناك توجها جماهيريا مضمرا لجر المهرجان نحو الامتثال لشروط تنزع عنه صفة الرصانة والتنوع. فهذا التحدّي تواجهه ادارة المهرجان بقيادة اكرم مصاروة بحزم، رافضة القبول بأن ينحدر المهرجان برسالته كما اعلن مصاروة غير مرة، وقد أعاد تأكيد ذلك في مؤتمره الصحافي الذي سبق انطلاقة المهرجان. وهذه الوقائع في جملتها جرت على المسرح الجنوبي الذي يقتضي ان يضم جمهورا جاء خصيصا لحضور فعالية بعينها، ولكن الضرورات اباحت المحظورات فاختلط الحابل بالنابل، مما يطرح اسئلة اخرى حول ما الذي يريده الجمهور. انحدار ذوق الجمهور؟ ادارة المهرجان بررت نقص الجمهور في الحفلات الاخيرة بأن الناس ربما يودون الغناء الذي يدغدغ مشاعرهم السطحية، اكثر مما يثير حواسهم العميقة، على ان ذلك لا ينطبق على حفلات الساهر الذي تجمع اغنياته بين الرصانة والتطريب، وتستقطب مستمعين من شتى المشارب والفئات والمستويات والأعمار. وأصالة نصري قدمت اغاني عميقة المدلول فيها اشتغال واضح على اللحن والاداء. وبذلت قصارى جهدها كي تعدّل من الصورة التي تركتها لدى مشاركتها الاولى في جرش قبل سنوات، وقد قالت عنها في مؤتمرها الصحافي انها لم تكن مقبولة، مع ان صداها الجماهيري كان كبيراً... ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. ولم تكن الفعاليات الأخرى في جرش أكثر حظاً من فعاليات الجنوبي، مع ان المسرح الشمالي ضم هذا العام فعاليات متميزة كان ابرزها فرقة الباليه الحديثة التشيكية، وفرقة باليه دنبرو بتروفسك الاوكرانية التي قدمت رائعة "جيزيل". ابدعت في تجسيد هذا الباليه الشهير مارينا ليونيكينا التي كانت لعبت ادوارا اساسية في اعمال الباليه الكلاسيكية "كسارة البندق"، "بحيرة البجع"، وسواها. واحتضن المسرح الشمالي عرض الازياء الذي صممته العراقية هناء صادق وحمل عنوان "نساء في الليل العباسي" اشتمل على اثواب وأردية نقلت أسرار الف عام خلت الى المسرح. وزهت بتلك التصاميم صبايا لم تتمكن ادارة العرض من ادخالهن في النسق الجمالي للمشهد، إذ جاء اخراجه باهتا لا يتناسب وفرادة الازياء وما تحيل اليه من معان خصبة التأويل. وعلى مسرح ارتيمس قدّمت فرقة "شكسبير اوريجنال كومباني" مسرحية "روميو وجوليت" بأسلوب كلاسيكي يتناسب مع هذه الرائعة التي ظلت محافظة على روح الازياء والموسيقى والاداء كما ابتدعته عبقرية الكاتب الانكليزي وليم شكسبير. ومن مدينة حيفا الفلسطينيةالمحتلة العام 1948، حضرت فرقة سلمى للرقص الشعبي وقدمت مغناة راقصة بعنوان "حوض النعنع"، اخرجها فكتور قمر، وصممت رقصاتها وأزياءها فريال خشيبون. تحكي المغناة قصة الغربة والرحيل في طابع مسرحي اشتمل على عناصر جماليّة عدّة، أبرزها الاغنيات المبتكرة التي كتب كلماتها محمد علي طه. وتنأى "حوض النعنع" عن ان تكون مجرد عرض فولكلوري، وتسعى لتلون ذلك بطابع ادائي ممسرح تدعمه رقصات ظن الجمهور انها ستبقى في اطار الغناء الشعبي. الا ان رغبة المخرج حرفت ذلك في اتجاه اداء غربي، يتوافق مع معطيات الحدث المسرحي، ما خلط الوقائع الدرامية ودفع بالعمل الى آفاق تغريب غير مبررة جمالياً. ولوحظ اختفاء النبرة التقليدية المتصلة بالتطبيع، لدى حضور الفرقة وعقدها مؤتمرا صحفيا، اعلنت فيه تمسكها بالتراث الشعبي الفلسطيني، حتى لو سحبت الارض من تحت اقدامنا. واشتمل المهرجان على عروض غنائية اردنية واخرى مسرحية قدمتها نقابة الفنانين الاردنيين. في حين جرى تكريم رائد الغناء الاردني توفيق النمري، في مناسبة مضي خمسين عاماً على عمله الفني. وقد قدمت فرقة اربد للموسيقى العربية ليلة مخصصة لابداع هذا المطرب الذي يلقب ب "شيخ الاغنية الاردنية". وبعيدا عن جرش، والى الجنوب بمقدار اربعين كيلومتراً، حيث العاصمة عمان، أقيمت نشاطات جرش الموازية، المتعلّقة بالشعر والنقد. وكان الحدث الأبرز في الحلقة النقدية وفي المهرجان بعامة هو الاحتفاء العميق بفدوى طوقان. فقد كرّم المهرجان الشاعرة الفلسطينية الرائدة، وخصص ندوة نقدية حول تجربتها الانسانية والابداعية حملت عنوان "فدوى طوقان بين قيد المرأة العربية وفضاء النص". ألقيت في الندوة ستة ابحاث وثلاث شهادات، وعرض فيلم وثائقي من اعداد واخراج الروائية الفلسطينية ليانة بدر. بين المشاركين في الندوة، نشير إلى صبحي حديدي سورية الذي تناول فدوى طوقان والريادة النسوية في الشعر العربي. واعتبر حديدي في بحثه "الحداثة العاطفية"، ان قصائد طوقان اتسمت بما سماه رولان بارت ب "خطاب العاشق في عزلته". واضاف ان ذلك الخطاب كان "يحمل رسالة تحرير اجتماعي ويرتطم تاليا بالمحرمات الاجتماعية في البيئات المحافظة". أما خليل الشيخ الاردن فرأى ان مجموعاتها الخمس، الصادرة بين 1952 - 1973، تكشف عن ضيق المسافة بينها وبين السيرة الذاتية... حيث كانت فدوى طوقان في رحلتها الحياتية الصعبة تحلم وهي يقظة بنزهة قمرية في النهر لتستيقظ على واقع يناقض باقي الحلم من سعادة وانطلاق. واشار احمد درويش مصر الى "التنوع الهائل لقصائد الرثاء في شعر فدوى طوقان، من حيث البواعث ووسائل التصوير، واستخدام التقنيات المختلفة سردا او تجسيدا او حوارا، وكل هذا يجعل تجسيد ظاهرة الموت في شعر فدوى طوقان ومسيرتها واحدة من الظواهر المهمة في تاريخ الادب العربي الحديث" وقرأ ماجد السامرائي "العراق" تحولات الذات الشاعرة اعتمادا على البدايات التأسيسية لشعر طوقان مركزا على دواوينها الثلاثة "وحدي مع الايام" 1955، "وجدتها" 1957، "اعطنا حبا" 1960، "التي تمثل على تفاوت الاستجابة لتجاربها ورؤاها، سياقات التحول العاطفي عند الشاعرة تجاه الذات والاشياء والعالم. حيث ظلت الشاعرة على امتداد مسارها تستجيب للتعبير الوصفي اكثر من استجابتها للصور الحية". وقدم المتوكل طه فلسطين قراءة في رسائل ابراهيم طوقان الى شقيقته فدوى، حملت عنوان "من بيروت الى نابلس"، اعتبرها المتوكل جديدة في مضمونها ومحتواها. فهي، في نظره، "رسائل تعليمية، لا وجدانية، وهي جديدة وحسب علمي فان تاريخ ادبنا العربي يخلو من مثل هذا النوع من الرسائل بين شقيقين شاعرين يتكاتبان ويتناصحان ويعلم احدهما الاخر". وخصت فدوى طوقان المهرجان بقصيدة جديدة عنوانها "هذا الكوكب الارضي"، أدانت فيها الدمار والحروب التي تنتهك حياة البشر، ورثت القتلى الذين يسقطون كل يوم صرعى شرورها. يقول مقطع من القصيدة: "لو بيدي/ لو انني اقدر ان اقلبه هذا الكوكب/ وان افرغه من كل شرور الارض/ ان اقتلع جذور البغض/ لو اني اقدر، لو بيدي/ أن اقصي قابيل الثعلب/ اقصيه الى ابعد كوكب/ ان اغسل بالماء الصافي اخوة يوسف/ واطهر اعماق الاخوة/ من دنس الشر" واعربت فدوى طوقان عن سعادتها الغامرة بالتكريم الذي خصّها به المهرجان، واصفةً "جرش" بأنها "طوق جيدي بالمكرمات وضخ في عروقي دما جديدا". واضافت طوقان في تصريح ل "الوسط" : "لقد غادرت مرضي واشعر الان انني شفيت"، في اشارة الى تعرضها اخيراً لجلطة اثرت على عينيها، واجبرتها المكوث رهينة مرحلة انعاش صحي لم تستطع الالتزام بها لتزامنها مع مهرجان جرش. وعلى الضفة الاخرى من المشهد كان الشعراء العرب يقدمون، من خلال مساهماتهم، صورة دقيقة عن أحوال القصيدة العربية الراهنة، في خفوت صوتها حيناً، ونبرتها العالية حدّ الصراخ حيناً آخر. بيد ان الشعر كان قليلاً وضئيلاً ومتسربلاً بالغياب، وهو ما دعا كثيرين، في صفوف الشعراء الاردنيين تحديداً، الى مقاطعة المهرجان. وكان في مقدمة هؤلاء ابراهيم نصرالله وزهير ابو شايب ويوسف عبدالعزيز وعلي العامري وباسل رفايعة وغيرهم. واعتبر مراقبون أن مشهد الشعر العربي الراهن الذي تمثل في المهرجان بمختلف اطيافه واجياله، يدعو الى الرثاء ويثير مكامن الاسى. فثمة شعراء مكرسون اعلاميا القوا قصائد لم تكن خالية من اي بعد جمالي فحسب، بل جاءت أيضاً تطفح بأخطاء نحوية وصرفية. حتى ان احدى الشاعرات اقترفت نحو 45 خطأ لغوياً اثناء قراءتها لقصائد لم تتعد مدتها خمس دقائق... ما اثار حنق الجمهور الذي انفض عن مجالس الشعر وشرع يطوف في اروقة "مؤسسة عبدالحميد شومان" حيث أقيمت الأمسيات، عساه يعثر في مكتبتها على ما يفيده ويطفىء ظمأه. وبرز من بين اكثر من خمسين شاعرا عربيا واردنيا: قاسم حداد البحرين، احمد دحبور فلسطين، عصام العبدالله لبنان، عماد جبار العراق، احمد الشهاوي مصر، علي بن تميم الامارات، امجد ناصر وعاطف الفراية وجعفر العقيلي ومهى العتوم الاردن