كيف سيخرج الزعماء السنّة البيروتيون من انتخابات 3 أيلول سبتمبر المقبل؟ وأي مغزى ستنطوي عليه نتائج الاقتراع في دوائرهم الثلاث، في تحديد مستقبل زعامة بيروت، ذهاباً منها الى زعامة الطائفة؟ لوهلة هناك بضع ملاحظات: - أولها، انها المرة الأولى التي يبدو فيها العهد معنياً بالمنافسة الانتخابية في بيروت، ومعنياً بمواجهة الرئيس رفيق الحريري، من غير أن يكشف علناً فحوى هذه المعركة ودوافعها، ومن غير أن يكتم في المقابل أهدافها. وللمرة الأولى خصوصاً يبدو العهد معنياً بخصومة مرشح سنّي، بمقدار ما هو معني بمنع استئثاره بزعامة بيروت برمتها، بل معني بالمنحى الذي يمكن أن يسلكه الشارع السنّي البيروتي واتجاهاته. - ثانيها، انها المرة الأولى التي تخرج فيها المعركة الانتخابية من نطاق تنافس سنّي - سنّي محلي بيروتي بحت، لتصبح في الظاهر معركة انتخابية تُتوّج الرابح فيها على زعامة الطائفة السنّية في كل لبنان، لا في بيروت فحسب، فيما واقع الأمر هو غير ذلك تماماً. إذ أن المفارقة المثيرة في كل هذه المواجهة أنها لا ترمي الى تأكيد زعامة الشخصية السنّية القوية على زعامة بيروت في ضوء نتائج الانتخابات النيابية في بيروت، وإنما تقويض زعامة الرئيس الحريري، المنبثقة من انتخابات 1996 التي خاضها رئيساً لحكومة تلك الانتخابات. - ثالثها، انها المرة الأولى التي يختلط فيها الشأن الانتخابي بالشأن الديني، فتكتسب المنافسة الانتخابية طابعاً ينجح في استقطاب رجال الدين السنّة البيروتيين، لا سيما مرجعهم الأول مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني الى ساحة النزاع الانتخابي. الى الحد الذي جعل قباني يطلق قبل أيام صرخة المطالبة بتحييد الأوقاف الاسلامية في بيروت عن أسلحة المعركة الانتخابية. ولهذا لم يكن من السهل التأكد من تشتّت مواقف رجال الدين السنّة البيروتيين، الموزّعين بين الولاء للحريري ومناوأته. فأضحوا جزءاً من لعبة التأثير في الشارع السنّي البيروتي. - رابعها، انها المرة الأولى التي تتحوّل المعركة الانتخابية باكراً - حتى قبل الاقبال على صناديق الاقتراع - عن نتائجها، فتُقفل سلفاً باب الخيارات المتاحة أمام الشخصية السنّية البارزة المرشحة لترؤس حكومة ما بعد الانتخابات النيابية، بحيث يصبح في الامكان تحديد هوية المرفوض لتبوؤ هذا المنصب، أكثر من هوية المؤهل لبلوغه. - خامسها، انها المرة الأولى التي يفلت فيها دور السلطة، غير المحايدة في كل حال، من عقال الضوابط القانونية، فتصبح شريكاً مباشراً في المواجهة وفي استخدام كل الوسائل الممكنة في خضم المنافسة الانتخابية، على غرار انضمام الاعلام الرسمي في حملة مواجهة الحريري والتلويح له بفتح ملفات قضائية بتهم الاهدار والانفاق ومخالفة القوانين وسوء استخدام السلطة، من غير ان تباشر السلطة فعلياً في الطلب الى القضاء وضع اليد على هذه الملفات. مما يشير حتماً الى حصر هذه الحملة ببعدها السياسي فحسب، بإفقاده الجدية اللازمة حيال هذه الملفات. - سادسها، انها المرة الأولى التي يسبق البحث في حكومة ما بعد الانتخابات نتائج هذه الانتخابات، على رغم ان هذين الاستحقاقين مستقلان تماماً في الآلية الدستورية والقانونية لعملهما، ومستقلان في عدم الترابط الحتمي لأحدهما بالآخر، ومستقلان حتماً في النتائج المنبثقة من كليهما. فضلاً عن استقلال كل منهما، نتائج الانتخابات وحكومة ما بعد الانتخابات، بسلطة دستورية لا تقيم صلة وصل بينهما. كذلك الأمر بالنسبة الى مفاعيل أحدهما على الآخر التي أكسبتها الممارسة السياسية استقلالية لا تجعل بالضرورة الشخصية السنّية الخارجة قوية من الانتخابات النيابية هي صاحبة الحظ الأفضل لترؤس حكومة ما بعد الانتخابات. بل قد يبدو العكس هو الأوفر حظاً. زعامة الشمال في خضم كل هذا تجري انتخابات الدوائر الثلاث لبيروت التي اسقطت كل الأوهام القائلة بعدم ترابطها بمستقبل الوضع الحكومي في البلاد. وهذا ما أمكن قوله أيضاً عن انتخابات الدائرة الثانية في الشمال بين الرئيس عمر كرامي والوزير نجيب ميقاتي اللذين لم ينفصل خوضهما انتخاباتهما في لائحتين مستقلتين عن واقع التنافس على الزعامة السنية في طرابلس والشمال. إذ منذ عقود طويلة يستأثر بيت الرئيس عبدالحميد كرامي، المفتي السابق، بزعامة الشمال ليرثها من بعده نجله الرئيس رشيد كرامي ثم بعد اغتياله النجل الثاني الرئيس عمر كرامي. في المقابل حُجبت مواقع السلطة والتأثير عن زعامة شمالية مماثلة لا تقل نفوذاً في جذورها الشعبية كالنائب سليمان العلي في عكار، البعيدة عن طرابلس، العاصمة اللبنانية الثانية. فلم يشق الرجل طريقه الى رئاسة الحكومة مرة، سوى الفرصة اليتيمة التي كان سيمنحه اياها تسلّم الرئيس الراحل بشير الجميل سلطاته الدستورية العام 1982. وما يصح على العلي، صحّ كذلك وبكثير من الاصرار على الرئيس أمين الحافظ بإسقاط حكومته العام 1973 قبل مثولها أمام مجلس النواب. إذ ما تعنيه على الدوام الاقامة في الزعامة هو الاستئثار بها. لم يأت الرئيس بشارة الخوري بعبدالحميد كرامي الى رئاسة الحكومة العام 1945 الا بعد خلافه مع حليفه وصديقه القديم الرئيس رياض الصلح. ومع ذلك لم يمكث كرامي الا ثمانية أشهر فقط في رئاسة الحكومة ولم يعد اليها أبداً، وفضّل بشارة الخوري العودة بزعامة رئاسة الحكومة، كصنو للزعامة في الطائفة السنية، الى صيدا مع الرئيس سامي الصلح، ابن عم رياض الصلح. كان عبدالحميد كرامي أول مَن وضع للشمال موطئ قدم في رئاسة الحكومة وفي زعامة الطائفة السنية الشمالية في السلطة، في موازاة وجود رئيس الجمهورية رأس الزعامة المارونية فيها، الى أن استعاد رشيد كرامي هذا المنصب العام 1955 لمرة يتيمة في عهد الرئيس كميل شمعون، ثم ثابر علىه ثلاث مرات في عهد الرئيس فؤاد شهاب، وأربع مرات في عهد الرئيس شارل حلو، ومرة واحدة في عهد الرئيس سليمان فرنجية، ومرة واحدة في عهد الرئيس أمين الجميل. كل ذلك كان كافياً على امتداد أربعة عقود لاستئثار بيت عبدالحميد كرامي بزعامة الشمال وبالعودة المحتملة دائماً الى رئاسة الحكومة التي أوصلت العام 1990 الرئيس عمر كرامي الى خلافة أخيه فيها. وهذا ما برر ولا يزال وطأة المنافسة التي حصلت في انتخابات الشمال العام 1996، كما الآن بين عمر كرامي وأحمد كرامي ابن ابن عم عبدالحميد كرامي، مع أن أحمد مصطفى كرامي أضحى اليوم في صلب معادلة التوازن السني داخل طرابلس في مقياس "الشعبية"، وفي صلب معادلة التوازن السياسي داخل البيت الواحد الذي خرج منذ انتخابات 1996 من دائرة استئثار وارثي عبدالحميد كرامي بزعامتي المدينة والشمال وحدهما. وليس سر الأسرار القول أن أحمد كرامي يحظى بدعم مسؤولين سوريين كبار أضحوا يشكلون الحصانة السياسية لاستمرار دوره في طرابلس. وقد يكون وجوده حليفاً للوزير سليمان فرنجية في لائحة الائتلاف خير معبّر عن أن هذه اللائحة لم تخلُ من كرامي ما، لكنها في المقابل أكدت، وبكثير من الأهمية، أن بيت عمر كرامي ليس وحده صاحب الزعامة السنية في طرابلس، ولا صاحب الزعامة الشعبية في البيت. وبذلك لم ينقض فرنجية تعاوناً تقليدياً منذ انتخابات 1992 مع هذا البيت، وان بوجه آخر، في البيت نفسه الذي نادراً ما كان، وخصوصاً في الستينات، حليفاً لبيت فرنجية الزغرتاوي، والذي فضل التعاون مع زعامة زغرتاوية اخرى هي رنيه معوض. يقال هذا الأمر أيضاً عن الوزير نجيب ميقاتي، الوثيق الصلة بالرئيس السوري بشار الأسد، فقد وجد نفسه في انتخابات الدائرة الثانية من الشمال لا يخوض، ولا يفوز تالياً بمجرد مقعد نيابي عن طرابلس، وإنما يضع موطئ قدم راسخة في زعامة طرابلسية وشمالية جديدة، هي الأولى منذ ظاهرة أمين الحافظ التي لم تعمّر أكثر من بضعة أسابيع، ثم لم يلبث الحافظ أن أضحى بعدها، سياسياً وانتخابياً، مقيماً في عباءة بيت كرامي حتى سقوطه في انتخابات 1996. في بيروت، لا يختلف كل هذا في شيء. الواضح ان الرئيس رفيق الحريري بات يتصرف في انتخابات 2000 على أنه يدافع عن زعامة سنّية محققة أتى بها في انتخابات 1996 وكان آنذاك رئيساً لحكومة تلك الانتخابات. والواضح أيضاً أن رئيس الحكومة الحالية سليم الحص يتصرف على أساس الدفاع عن موقع فعلي في زعامة بيروت بدأ يرسيه منذ ألّف أول حكومة في عهد الرئيس الياس سركيس العام 1976، ومنذ ذلك النهار لم يخرج من المعادلة السياسية في زعامة بيروت ولا في كونه مرشحاً محتملاً وأحياناً دائماً لرئاسة الحكومة. والواضح أيضاً وأيضاً أن النائب تمام سلام يتصرف على أساس اعادة الاستقطاب الى بيت جده أبو علي سلام - قبل والده الراحل الرئيس صائب سلام - من ضمن المعادلة إياها. وتالياً فإن الزعماء البيروتيين الثلاثة يخوضون في انتخابات 2000 معركة زعامة لا يقتصر نفوذها عليهم وحدهم، على الأقل على غرار ما كان يحصل في انتخابات عقد الستينات بتنافس الرئيسين صائب سلام وعبدالله اليافي، معاً في مواجهة آخرين وأحياناً وجهاً لوجه، عبر حصر المواجهة هذه بطرفيها فحسب، بل بات الصراع على المقاعد السنية ال6 في الدوائر الثلاث الحالية لبيروت هو من "اختصاص" أي فريق، يجد نفسه معنياً في الدخول في لعبة الاستقطاب هذا. وذلك ما تعنيه وطأة المعركة الانتخابية في بيروت، ليس بين الحريري والحص، مع ان كلاً منهما يترشح عن دائرة انتخابية مستقلة وان تقاذفا بعنف الحملات الاعلامية، وإنما بين الحريري والحكم اللبناني، وتحديداً بينه ورئيس الجمهورية اميل لحود مع وصول التباعد الشخصي بينهما الى مواجهات بلغت حتى الشارع الشعبي بوسائل مختلفة، في الوقت الذي يواجه الحص، من بعيد، الحريري من غير أن يكون وجهاً لوجه حياله. الأمر نفسه بالنسبة الى سلام، الحلقة الأضعف في المواجهة بين لحود والحريري، على وفرة محاولاته اعادة احياء بيت زعامة والده. فللمرة الأولى تبدو زعامة بيروت ليست حكراً على السنّة البيروتيين ولا هم وحدهم أصحاب القرار القاطع فيها، وتبدو كذلك زعامة رئاسة الحكومة ليست حكراً على قرارات زعمائهم البيروتيين فقط. بل للمرة الأولى يبدو من سياق ما يجري حتى الآن في انتخابات بيروت ان النزاع ليس على مَن سيأتي رئيساً للحكومة المقبلة، وإنما على مَن يتعين ألا يصل اليها أبداً. وهذا ما يريده كرامي من ميقاتي، والحص وسلام من الحريري، والحريري من الحص وسلام. لكن الأهم أيضاً ان هذا ما يريده رئيس الجمهورية من الحريري، وقد أضحى كل منهما الآن على طرف نقيض لا يذلله - اذا شاؤوا - غير السوريين