أمير الرياض يعزّي في وفاة الأميرة العنود بنت محمد بن عبدالعزيز آل سعود بن فيصل آل سعود    الدكتور الربيعة: منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع يضم مختصين من مختلف أنحاء العالم لمناقشة تحديات العمل الإنساني ومعالجتها    مباحثات برلمانية سعودية إيطالية    25 طنا من التمور لبلغاريا    التقديرات الأولية تشير إلى تقدم ملحوظ للاتحاد المسيحي في انتخابات البرلمان الألماني    الملك وولي العهد يهنئان عددا من البلدان    إحباط تهريب 525 كجم من القات    الجهات الأمنية بالرياض تباشر واقعة إطلاق نار بين أشخاص مرتبطة بجرائم مخدرات    فجر الدرعية من سور يحميها إلى أكبر أسطول بحري    تركيب اللوحات الدلالية للأئمة والملوك على 15 ميدانا بالرياض    زيلينسكي: انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي يمنحها ضمانا للأمن الاقتصادي    نتنياهو يهدد باستئناف القتال في غزة    نمو تمويلات المصانع    هيئة الهلال الأحمر بنجران ‏تشارك في احتفالات يوم التأسيس 2025    الجمعية السعودية للتربية الخاصة (جستر محايل )تحتفل بيوم التأسيس    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة تطلق غدًا معرض قلب الجزيرة العربية    فرع "هيئة الأمر بالمعروف" بنجران يشارك في الاحتفاء بيوم التأسيس    مبعوث ترمب في المنطقة الأربعاء للتفاوض حول المرحلة الثانية    فن التصوير الفوتوغرافي في "يوم التأسيس" وأبراز التراث الجيزاني    لوكا دونتشيتش يقود ليكرز لإيقاف سلسلة انتصارات ناغتس بعرض استثنائي    يوم التأسيس.. واستشراف المستقبل..    حملة توعوية عن "الفايبروميالجيا"    محافظ رجال المع يدشن مهرجان البن الثاني بالمحافظة    «منتدى الأحساء»: 50 مليار ريال ل 59 فرصة استثمارية    500 لاعبا يتنافسون في السهام بجازان    أمير القصيم يدشّن مجسم يوم التأسيس تزامنًا مع يوم التأسيس السعودي    بالأزياء التراثية .. أطفال البكيرية يحتفلون بيوم التأسيس    آل برناوي يحتفلون بزواج إدريس    برعاية مفوض إفتاء جازان "ميديا" يوقع عقد شراكة مجتمعية مع إفتاء جازان    وادي الدواسر تحتفي ب "يوم التأسيس"    برعاية ودعم المملكة.. اختتام فعاليات مسابقة جائزة تنزانيا الدولية للقرآن الكريم في نسختها 33    بيفول ينتزع الألقاب الخمسة من بيتربييف ويتوّج بطلاً للعالم بلا منازع في الوزن خفيف الثقيل    الكرملين: حوار بوتين وترمب «واعد»    بنهج التأسيس وطموح المستقبل.. تجمع الرياض الصحي الأول يجسد نموذج الرعاية الصحية السعودي    فعاليات متنوعة احتفاءً بيوم التأسيس بتبوك    «عكاظ» تنشر شروط مراكز بيع المركبات الملغى تسجيلها    دامت أفراحك يا أغلى وطن    علماء صينيون يثيرون القلق: فايروس جديد في الخفافيش !    8 ضوابط لاستئجار الجهات الحكومية المركبات المدنية    ذكرى استعادة ماضٍ مجيد وتضحياتٍ كبرى    لا إعلان للمنتجات الغذائية في وسائل الإعلام إلا بموافقة «الغذاء والدواء»    في ذكرى «يوم بدينا».. الوطن يتوشح بالأخضر    ضبط وافدين استغلا 8 أطفال في التسول بالرياض    تعزيز الابتكار في صناعة المحتوى للكفاءات السعودية.. 30 متدرباً في تقنيات الذكاء الاصطناعي بالإعلام    الاستثمار العالمي على طاولة "قمة الأولوية" في ميامي.. السعودية تعزز مستقبل اقتصاد الفضاء    تمنت للسعودية دوام التقدم والازدهار.. القيادة الكويتية: نعتز برسوخ العلاقات الأخوية والمواقف التاريخية المشتركة    لا "دولار" ولا "يورو".." الريال" جاي دورو    ابتهاجاً بذكرى مرور 3 قرون على إقامة الدولة السعودية.. اقتصاديون وخبراء: التأسيس.. صنع أعظم قصة نجاح في العالم    " فوريفر يونق" يظفر بكأس السعودية بعد مواجهة ملحمية مع "رومانتيك واريور"    مشروبات «الدايت» تشكل خطراً على الأوعية    نهج راسخ    الملك: نهج الدولة راسخ على الأمن والعدل والعقيدة الخالصة    جمعية رعاية الأيتام بضمد تشارك في احتفالات يوم التأسيس    الاتحاد يقسو على الهلال برباعية في جولة يوم التأسيس    بنزيما: الاتحاد ليس قريبا من لقب الدوري    من التأسيس إلى الرؤية.. قصة وطن    الدولة الأولى ورعاية الحرمين    لائحة الأحوال الشخصية تنظم «العضل» و«المهور» ونفقة «المحضون» وغياب الولي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



متفائل بالعولمة لكنه لا يستبعد أن يعيش في عزلة تامة . مسافر عبر الزمان والمكان لاكتشاف الحضارات وسبر أغوار النفس البشرية أمين معلوف : الكتابة وطني ومبادئ الحرية غير قابلة للمساومة والاجتزاء
نشر في الحياة يوم 14 - 08 - 2000

ليس سفيراً للشرق ولا أسير برجه العاجي، بل هو مجرّد روائي مولع بالتاريخ والكتب القديمة، وكاتب حريص على التعددية اللغوية التي اكتسبها والتي يعتبرها مصدر ثراء. إنّه أمين معلوف من أشهر الكتّاب العرب المعاصرين في العالم، وصاحب تجربة روائيّة خاصة يشكّل التاريخ مادتها الأوّلية، وقوامها التأمّل في أحوال الحضارة، والسفر عبر الزمان والمكان لسبر أغوار النفس البشريّة. ولعلّ أمين معلوف على رغم إنشغاله المتواصل في التاريخ، أو ربّما بسبب هذا الانشغال، هو نمودج لرجل القرن الحادي والعشرين في العالم العربي، لجهة احاطته بجراح عصره ومنطقته، وسعيه إلى نشر أفكار التسامح والتعددية والعقلانيّة... والشرق الذي يسكن وجدان صاحب "ليون الافريقي"، "ليس مجرد نقطة محدودة على الخريطة، بل هو عالم شاسع يمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ، ويمثل ثلثي الكرة الأرضية"... أما السؤال الميتافيزيقي الذي يتردد في أدبه، فهو يؤكّد أنّه لا يستحوذ على اهتمامه أكثر من المشاغل الأخرى. لأن "كل ما في الأمر أنني أقوم كغيري من الناس ببعض التأملات، وأطرح التساؤلات حول مغزى الحياة، وما ينتظرنا بعدها". والأديب الذي يعتقد أن "الكتابات مثلها مثل الإنسان لا تدوم طويلاً"، يعترف أنه يتماهى مع بطل روايته الجديدة "رحلة بلدسّار" في حالات ومواقف وأحاسيس عدة، "كإنسان اضطر لمغادرة بلاده بسبب جهنمية الحرب، ليعيش في بلد بعيد، ويكتب بلغة أخرى غير لغته الأم".
في الوقت الذي كنا نعد فيه لإجراء هذا الحوار مع أمين معلوف، كان طلبة البكالوريا في فرنسا منهمكين في امتحان مادة اللغة الفرنسية. وكان مقترحا عليهم أن يحللوا نصاً مقتطفاً من رواية "سلالم الشرق" لأمين معلوف، إلى جانب نصوص أخرى لأدباء فرنسيين من مصاف لافونتين وإيميل زولا. ما يدل على المكانة المتميزة التي يحظى بها صاحب "ليون الإفريقي" الذي يعد اليوم أشهر الكتاب العرب في اللغة الفرنسية، وأكثرهم استحقاقا لتقدير الأنتلجنسيا الفرنسية.
ولد معلوف في لبنان، العام 1949، وترعرع في أحضان عائلة مثقفة، تحتل فيها الكتابة والثقافة والأدب مكانة الصدارة. بدأ حياته العملية صحافياً. وغطى عددا من أهم الأحداث والنزاعات العالمية، من حرب الفيتنام إلى الثورة الإيرانية.
مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية، غادر إلى فرنسا حيث استمر يعمل في الصحافة، وشغل منصب رئيس تحرير مجلة "جون أفريك"، قبل أن يقرر التفرغ كليا للكتابة الأدبية.
"الوسط" التقت أمين معلوف في باريس، لمناسبة صدور روايته الجديدة "رحلة بلدسّار" عن "منشورات غراسيه" الباريسيّة، وأجرت معه حواراً مطولا حول أعماله وانشغالاته الأدبية والفكرية. وقد بدأنا الحوار بمشاكسته بخصوص عبارة وردت في راويته الأخيرة، حيث كتب على لسان بطل الرواية بلدسّار: "في أحضان بعض النساء نحس بالغربة فيما تكون أحضان نساء أخريات بمثابة وطن لنا". فسألناه ما هي خاصيات كل صنف من هؤلاء النساء ؟ وأجاب :
- هذا السؤال لا يجب أن يطرح عليَّ أنا، بل على بلدسّار الذي مر في حياته بتجارب شتى ومتنوعة، وحاول أن يستخلص منها مثل هذه الحكمة. وأنا لا أزعم أنني مررت بتلك التجارب نفسها، وبالتالي فأنا في الواقع لست على القدر نفسه من الحكمة، ولكني أتصور أننا في مختلف تجارب الحياة التي نمر بها، نلجأ دوما إلى أذرع أو أحضان النساء اللواتي نتعرف بهن. وتلك الأحضان قد تضيعنا أو قد تساعدنا بالعكس على أن نهتدي إلى طريقنا. ولكن لا أحد باستطاعته أن يدَّعي أنه يعرف بالتحديد أي حضن سيضيِّعه، وأي حضن يجد فيه الخلاص !
هناك فكرة نمطية متداولة عنك في الغرب، وفي فرنسا بالأخص، تعتبرك "سفيراً للشرق لدى القارئ الأوروبي". كيف تنظر إلى هذه الصفة ؟ وهل أنت راض بدور السفير هذا؟ ألا ترى أنه ينتقص من مكانتك الأدبية، ويجعلك مجرد راوية "إيكزوتيكي"، كل مهمته تسلية المخيلة الغربية بحكايات الشرق الساحرة ؟
- لقد لاحظت بالفعل أن مثل هي التسمية قد نسبت إليَّ. ولكني لم أسعَ أبداً إلى اكتسابها، ولا أبالي بها صراحة. صحيح أنني متمسك بانتماءاتي الثقافية، وفخور بمختلف مكونات هويتي، وأتبناها بشكل كامل. أنا حريص على الاحتفاظ بكل الأواصر التي تربطني بتكويني الثقافي الأول، بلبنان وبالعالم العربي وبحضارة المتوسط. لكني في الآن نفسه متمسّك بالعلاقة الحميمة التي تربطني بفرنسا وأوروبا والعالم الغربي.
ألا ترى أن جعل اسمك وأدبك مرادفاً للشرق، وضعك في برج عاجي، وتسبب في جفوة والتباس في علاقتك بالقارئ الغربي الذي لا ينظر إليك إلا بعين الانبهار، والقارئ العربي أو الشرقي الذي قد يحس أن كتاباتك لا تتوجه إليه ؟
- دعيني أقول إنني لا آخذ كل ما يقال عني، بالضرورة، على محمل الجد! إنني أحاول أن أتعامل بسعة صدر، وأن أواجه الأمور ببعض الحكمة. وأنا بطبعي لا أحبِّذ الخوض في مثل هذه المجادلات التي لا نهاية لها. بل أستمع إلى كل ذلك، ثم أواصل سيري، وكأن شيئاً لم يكن، لذا لا أعتقد أن شيئا ما، مما يقال أو يمكن أن يقال عني، سيجعلني أسير برج عاجي. صحيح أن اهتمامات كتاباتي حتى الآن تنصب كلها على العالم الشرقي، ولكن لا تنسي أن الشرق ليس مجرد نقطة محدودة على الخريطة، بل هو عالم شاسع يمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ. الشرق يمثل ثلثي الكوكب الأرضي، ويضم مئات الحضارات المختلفة، وملايين البشر الذين صنعوا، على مرّ العصور والحقب، تاريخاً عريقاً تمتد جذوره بضعة آلاف من السنين. لذا فالتطرق إلى الشرق في كتاباتي ليس برجا عاجياً، أحس فيه بأني سجين ومقيد، بل هو تعبير عن حاجتي الماسة للتعرف إلى تاريخ هذا الشرق والتعريف به، إلى تجزئته وتفكيك مختلف مكوناته وعناصره، للتمكن من فهمه واستيعابه، وبالتالي فهم نفسي.
العولمة، ولكن...
كثيرون بعتبرونك أيضا نموذجا للكاتب الذي يملك ثقافة ذات بعد عالمي شامل Universel. فهل هذا هو سبب دفاعك بحماس عن العولمة، في كتابك قبل الأخير "الهويات القاتلة"؟ وهل تؤمن بالفعل بثقافة ذات بعد عالمي شامل ؟
- يجب علينا في سياق العولمة هذا، برأيي، المطالبة من جهة بالقيم الإنسانية الجوهرية، المتمثلة بكرامة الإنسان وحقوق المرأة في المساواة والحرية. ومن جهة أخرى، يجب ألا نغفل عن مواكبة هذه العولمة بجهود لا غنى عنها لضمان احترام حقوق كل الفئات أو الشعوب أو الثقافات، وتوفير شروط التفتح والازدهار لها. فأنا حين أتفاءل بالعولمة، لا أتصورها مرادفا لعالم لا مكان فيه إلا للغة واحدة أو ثقافة ذات مرجع أوحد، مصدرها بلد بعينه أو حضارة معينة، ويتوجب على بقية الإنسانية أن تتبناها وتتقبلها من دون نقاش، على حساب مختلف أشكال التعبير الثقافية الأخرى التي هي حاليا بصدد التهميش أكثر فأكثر. ولكني على المنوال ذاته، لا أقبل بعالم يعتبر مبادئ الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان فيه قابلة للمساومة والاجتزاء، بحيث تختلف درجة الالتزام بها واحترامها، حسب كل منطقة جغرافية أو كل البلد أو كل وسط ثقافي. أنا أطالب بالعالمية، لكن شرط ضمان تعدد التعابير والخصوصيات الثقافية داخل هذه العالمية، في جو من التلاحق والتسامح والتبادل الحر، بين مختلف التجارب والثقافات والحضارات.
أمن أجل المطالبة بذلك، ألّفت كتابك "الهويات القاتلة"؟
- أعتبر أن هذه النقطة المتعلقة بالتواصل والتعدد في آن، هي المنطلق الأساسي لتأملاتي . وهذه العلاقة الهشة والحساسة بين العولمة والتعددية تحتاج إلى التحديد والتدقيق وتعميق النقاش بشأنها، خصوصاً أنها ستنعكس على حياة كل إنسان، وتؤثر على خياراته بخصوص المكانة التي يتصورها أو يريدها لنفسه في هذا العالم، وطبيعة ارتباطاته ومرجعياته الثقافية. وهناك جانب آخر تطرقت إليه في كتاب "الهويات القاتلة"، وأعتبره في غاية الأهمية. وهو ضرورة أن يتبنى الإنسان مختلف المكونات الثقافية التي ينتسب إليها، والتي تثري هويته. واعتقد أنه يجب الاستفادة من مختلف عناصر هويتنا الثقافية، مهما بدت لنا أحيانا متباعدة أو متضاربة، بدلا من حصر أنفسنا في الانتساب إلى عنصر أو مكوِّن ثقافي واحد. وأعتقد أن هذه المسألة لا تهم الأفراد فحسب، بل تنطبق أيضا على الدول والمجتمعات. ولا شك في أننا متى فهمنا ذلك، سنتفادى الكثير من النزاعات والمواجهات العرقية أو الثقافية التي تمزِّق العالم حالياً.
"أصول" لا "جذور"
كتبت أيضا أنك لا تحب مصطلح "جذور"، لماذا ؟
- أفضل كلمة "أصول" على كلمة "جذور" ، فأنا لا أحب تلك الصورة التي توحي بها كلمة "جذور"، إذ تتمثل في شيء يغرس في الأرض، وعلينا أن نتمسك به، مهما اختلط بالوحل ! ولا يخفى عليكِ أن وظيفة الجذور تتمثل في منع الشجرة من التحرك. وقد يكون ذلك مواتياً للنباتات أو الشجر، أما الإنسان، فإن صيرورته مرتبطة بالقدرة على الحركة والتنقل والتطور. لذا فتجربة الإنسان أشبه بمسار يهتدي إليه على الطريق. وهذا المسار قد يشكل "أصولاً" يمكن أن يستهدي بها غيره ممن يسيرون على الطريق ذاتها. ولكنها لا يمكن أن تكون "جذوراً" ، لأن اتخاذ الجذور يعني انتفاء الحركة، وبالتالي الجمود أو المراوحة في المكان نفسه.
على رغم كل التطور الحالي في وسائل الاتصال، ما تزال الصورة المتداولة في الغرب عن العالم الشرقي ملتبسة ومشوهة في الكثير من جوانبها. هل كتاباتك تنصب في تصحيح هذه النظرة ؟ وهل ستظل تكتب أبدا عن عوالم الشرق، أم تفكر في أن تكتب يوماً عملاً روائياً تدور أحداثه في العالم الغربي الذي تعيش فيه منذ قرابة ربع قرن ؟
- إنني لا أسعى للعب مثل هذا الدور. فادراج أعمالي الأدبية فقط في خانة تصحيح النظرة الغربية إلى الشرق، أعتبره انتقاصا كبيرا منها. ولكنني حين أقول هذا، لا أقصد التنكر لأصولي الشرقية، أو إغفال التأثيرات التي تمارسها عليَّ هذه الأصول. فعندما أكتب عن القرن السابع عشر مثلاً، أجدني أميل بشكل طبيعي إلى الحديث عن الإمبراطورية العثمانية، أكثر من الحديث مثلاً عن الدولة الفرنسية التي كانت في عهد لويس الرابع عشر آنذاك. أنا لا أريد أن آخذ وجهة مناقضة لهذه الميول الطبيعية، لمجرد تغيير تلك الصورة المتداولة عني. وخلاصة رأيي في هذه المسألة، أنني لم أتخذ من المرافعة عن الشرق مهمة أرصد لها كل جهودي وأعمالي الأدبية. بل جاء ذلك تعبيرا عن ميل طبيعي في نفسي. ولن أغيِّر شيئا من سلوكي هذا، نتيجة ما يقال أو يمكن أن يقال عني. لكنني، وإن كنت دائم السعي لإبراز الجوانب الإيجابية التي يتحلى بها العالم الشرقي، ويجهلها الآخر الذي لا يزال أسير نظرة نمطية تعطيه عنا صورة محدودة وفلكلورية... إلا أنني أعتقد بأن ذلك ليس فرضاً إلزامياً على كل كاتب شرقي الأصول.
أنا لا أوافق من يطالب رساما أسود، مثلاً، بأن يرسم دوما وأبدا لوحات إفريقية المعالم والمناخات. فهذا الرسّام الأسود يجب اعتباره رساما وحسب، وإذا كانت أصوله أو تجربته تسمح له بالتعبير عن القضايا الإفريقية، فلا بأس. ولكن لا يجب أن يتحول الأمر إلى قضية إلزامية. فلكل إنسان الحق في اختيار المادة الإبداعية التي تحلو له وتناسب حساسيته، بقطع النظر عن هويته وانتماءاته. وتحضرني مقولة شهيرة لمفكر من العهود القديمة، يدعى تيرانس، كان في الأصل عبدا إفريقيا نقل إلى روما ثم أُعتق. وقد قال: "إنني إنسان، ولذا أعتبر أن أي سلوك إنساني - مهما كان - ليس غريباً عني". وهذه المقولة برأيي هي عين الحكمة. وأنا أطمح إلى التطرق إلى مواضيع شتى، ليست بالضرورة مرتبطة بالشرق. ولكن شريطة ألا يفرض عليَّ ذلك وضع قناع لإخفاء أو تجاهل تلك الأصول التي طبعت تكويني الثقافي.
الحديث عن قرب نهاية العالم الذي تناولته في روايتك الأخيرة، ليس من خاصيات عصرنا الحاضر وحده،. كيف تفسر هذه الظاهرة، وحاجة الإنسان من حين إلى آخر إلى الاعتقاد بأن العالم على وشك النهاية؟ هل حدث أن راودتك مثل هذه الهواجس، ولو للحظة خاطفة ؟
- لا، لم تراودني مثل هذه الهواجس قط. فأنا إنسان عقلاني، وأرى أنه من غير المعقول الاعتقاد بأنه قد تقع أحداث في غاية الأهمية أو الخطورة، لمجرد أننا كنا مقبلين على نهاية العام 1999 وحلول العام 2000. الأمر يتعلق بمخاوف وهواجس لا تؤرقني ولا تراودني أبدا، لكني في خضم كل ما أثير من مثل هذه المخاوف، مع حلول الألفية الجديدة، عدت إلى التاريخ، فوجدت أن مثل ذلك قد أثير أيضا عشية رأس السنة، العام 1666. وفي روايتي أتأمل في هذه الظاهرة، وأحاول رصدها وفهم خلفياتها، ووصفها بمزيج من التسلية والتبرم في الآن نفسه.
لماذا يميل عموم الناس بسهولة إلى تصديق بمثل هذه الرؤى الكارثية التي تنذر بقرب نهاية العالم، على رغم أنها تتنافى مع أبسط قواعد العقلانية ؟
- للأسف، لا أعتقد أن التصديق بمثل هذه الظواهر يقتصر على البسطاء من عموم الناس، فحسب. فقد علمنا أخيراً أن أحد رؤساء الدول الأوروبية الكبرى كان يتصل هاتفيا بإحدى المنجمات، مرات عدة في اليوم، لاستشارتها في أمر أزمة عالمية بمثل خطورة "حرب الخليج"! وليس ذلك بالأمر الاستثنائي، فلقد لجأ كثير من الشخصيات العالمية البارزة، على مدار التاريخ، إلى مثل هذه المعتقدات، ووقعوا بذلك تحت غواية التخلي عن الفطنة والعقلانية للارتماء في أحضان الشعوذة. وهذه الظاهرة تثير اهتمامي وفضولي كمؤلف. ولقد كانت ماثلة بذهني، طوال فترة كتابتي ل "رحلة بلدسّار"، تلك المقولة الشهيرة للرسام غويا، حين قال : "إن سبات العقل كفيل لوحده بتوليد أبشع الفظائع وبإنجاب الوحوش الخرافية !".
لماذا لم تصدر روايتك هذه يوم أول كانون الثاني يناير 2000 ؟
- لقد تعمدت الانتظار حتى تهدأ سكينة الذين كانوا يخشون نهاية العالم، قبل إصدار الرواية، لأنني لا أحب مسايرة مثل هذه الموض الثقافية أو الأدبية. فأنا أعتقد أن العمل الأدبي يجب أن يشق طريقه بنفسه، وأن تكون له حياته الخاصة به، بقطع النظر عن الأحداث أو المستجدات أو المناسبات. وأنا لا أرضى لنفسي بإصدار كتاب في مناسبة معينة، لمسايرة مذاق العصر أو ركوب الموجة.
ولكنك اخترت الكتابة عن هذا الموضوع بالذات، في فترة روِّجت فيها بشأنه الكثير من المخاوف والتنبؤات الكارثية ؟
- تلك الموجة من التنبؤات دفعتني إلى التطرق لهذا الموضوع، ليس من أجل مسايرة الموضة، بل لأنني أعتبر هذه الظاهرة علامة فارقة لازمت السلوك الإنساني منذ القدم. والتالي فهي جديرة بالبحث والتحليل، ولأن لها دلالة خاصة فينا تتعلق بفهم هشاشة الوضع الإنساني.
هل تحلم بأن تمتلك يوماً مفتاح أسرار العالم، على غرار بطل روايتك بلدسّار ؟ أم أنك تعتبر هذه الرواية بحد ذاتها مفتاحا سحرياً، من حيث كونها درسا بليغا في مقاومة التدمير الذاتي والظلامية ؟
- لا أخفي أنني لو كنت على يقين بأن في مقدوري الإطلاع يوما على مفتاح كل أسرار العالم، لما انصرفت لحظة واحدة عن السعي وراء ذلك ! لكنني أعرف تمام المعرفة أن ذلك "السر" لن يكون بحوزتي، ولا بحوزة أي إنسان. ولذا فأنا على قناعة بأن حقيقة كل يوم تكمن في اليوم ذاته، وبالتالي فلا جدوى من البحث عن سر يفسر كل الأمور بشكل قَبْلي. وقد تكون هذه هي العبرة الأساسية التي يمكن استخلاصها من هذه الرواية.
ينابيع التاريخ وحدائقه النيِّرة
يشعر قارئ رواياتك بأن كاتبها مؤرخ يتخفى تحت لبوس الروائي. فهل يرجع ذلك إلى اعتقادك بأن استعادة التاريخ تحتاج إلى تغذيته بسلاح التخييل، لسبر أغوار الماضي ومنحه دينامية تجعل منه عالماً حياً، ولو بشكل افتراضي ؟
- إنني كثير الاهتمام بالتاريخ، ولكنني لست مؤرخاً بالمعنى الفعلي للكلمة. إنني استوحى من التاريخ، وأستمد أفكاري والمادة الخام لرواياتي من ينابيعه وحدائقه النيِّرة. والبون شاسع بين ما أكتبه، وإن كان يستند إلى التاريخ، وبين الكتب التاريخية المحضة. وفي النهاية، فإن أساس رواياتي يتركز على شخصيات خيالية تخوض مغامرات خيالية. لكن ذلك لا يمنع أنني من الناحية التاريخية، أحرص على احترام تداول أحداثها وسياقها. ما أقوم به في رواياتي هو اختيار إطار أو سياق تاريخي ما، يتعلق بموضوع أو ظاهرة أو فترة أو أحداث معينة. ثم بعد ذلك أقوم ببناء قصة روائية خيالية، واخترع شخوصا خيالية أجعلها تتحرك في ذلك السياق التاريخي المحدد. إنني حقا مغرم بالتاريخ، وأود أن يخرج القارئ لرواياتي بنظرة سليمة وغير مشوهة، عن خصائص وميزات الفترات التاريخية التي تدور فيها أحداث تلك الروايات.
إلى أية فترة تعود بداية اهتمامك بالتاريخ ؟
- أعتقد أن اهتمامي بالتاريخ يعود إلى أبعد فترة يمكنني أن أتذكرها من حياتي. فقد اهتممت مبكرا بالتاريخ، لأنني ولدت في بلد لا يمكن للإنسان فيه أن يفهم ما يحدث، إن لم تكن له دراية واسعة بالتاريخ. فكيف لنا أن ندرك أحداث لبنان وتكوينه وخصوصيات حياته الاجتماعية والسياسية والفكرية، إذا لم ندرس التاريخ بعمق؟ وهذا يصدق أيضاً بالنسبة إلى كل بلدان المنطقة العربية والشرق الأوسط، وبلدان حوض المتوسط بشكل أشمل. فالتاريخ بالنسبة إلي لم يكن مجرد مادة دراسية، يمكن الاهتمام بها ضمن سائر المواد، بل هو عنصر جوهري أحس بدونه أنني لا أستطيع فهم أي شيء مما يدور حولي!
حين تكون بصدد اختيار فترة تاريخية معنية لتجعلها اطاراً لأحداث أحد أعمالك الروائية، ما الذي يجتذبك بالدرجة الأولى من بين خاصيات ذلك العصر: الأحداث أم الأماكن أم سحر شخصيات معينة؟
- يتوقف الأمر قبل كل شيء على ما أود قوله في العمل الروائي. تلك هي نقطة الانطلاق التي أقوم على أساسها باختيار الفترة أو السياق التاريخي المناسب، ليكون بمثابة تورية وعبرة تاريخية تعطي حجة أقوى لما أريد إيصاله للقارئ. ففي الرواية الأخيرة، أردت التعبير عن موقف ضد الظلامية، وضد التخلي عن المنطق العقلاني الذي تشهده اكثر من منطقة عبر العالم، وهذا التخلي يعد سبباً في كل أشكال التعصب والعنف وعدم التسامح. انطلاقا من هذا الموضوع الذي كنت أريد التطرق إليه، وقع اختياري على إطار تاريخي وجدت أنه مناسب لاحتضان فكرة الرواية وشحنها بملامح شخصيات وأحداث معينة، لتتشكل بذلك الحكاية وتنصهر في سياقها التاريخي، وتتلون بخصوصياته. وهكذا وجدتني، من خلال حكاية بلدسّار ورحلة اغترابه، أعبِّر بشكل ما عن مشاعري وذكرياتي الشخصية، كإنسان اضطر لمغادرة بلاده بسبب جهنمية الحرب، ليعيش في بلد بعيد، ويكتب بلغة أخرى غير لغته الأم. وقد فوجئت، أنا نفسي، بأن هذه الرواية تتضمن الكثير من الحالات والمواقف التي عشتها أو عانيت منها. وإذا بالإطار التاريخي الذي تدور فيه أحداث الرواية، يتحول مجرد قناع تتخفى وراءه ملامح تجربتي الشخصية.
صدقيّة سياق الأحداث
في كل رواياتك نلمس حرصا على صدقيّة سياق الأحداث، وتطابقه مع الحقائق التاريخية الخاصة بالفترة التي تدور فيها. فأين يتوقّف الجانب التوثيقي في عملك ليبدأ الجانب التخييلي؟ لنأخذ رواية "رحلة بلدسّار" مثلاً ؟
- صحيح أن أحد هواجسي الرئيسية، حين أكتب هو الحرص على أن تكون الأحداث أو الأماكن أو الأجواء التي أصفها محاكية للواقع التاريخي. وذلك يتطلب مني العديد من البحوث التوثيقية، لتجنّب الوقوع في مفارقات أو مغالطات تاريخية. وما أقوم به في هذا الصدد، لا يكاد يختلف عما يقوم به المؤرخ من جهد توثيقي، حين يريد كتابة مؤلَّف تاريخي عن فترة أو عن أحداث معينة. والفرق الوحيد هو أن تلك البحوث التوثيقية استعملها أنا لغرض مغاير لغرض المؤرخ. وقد يستغرب بعضهم أن أقضي فترات طويلة جداً، حين أكون بصدد بناء الإطار العام لعمل روائي كهذا، في التثبت مثلاً في نوعية العملة التي كانت تستعمل في حلب أو لشبونة، العام 1665. فهذه المعلومات تعد جزئيات ثانوية، وليست هي التي تشكل البنية الأساسية للرواية. ولكنني أعتبر ذلك عنصرا في منتهى الأهمية، لأنني إنسان دقيق في عملي، وأحب أن يكون القارئ - إذا رغب في ذلك - قادراً على التثبّت من الصحّة التاريخيّة لكل جزئيات الرواية، مهما بدت ثانوية أو قليلة الأهمية.
كم من الوقت استغرقت أبحاثك التوثيقية بالنسبة إلى رواية "رحلة بلدسّار"؟ وكم عدد المراجع التاريخية التي استعنت بها ؟
- كان هنالك عدد كبير جدا من الكتب والمراجع من حولي، ولكن ذلك لا يعني أنني قرأتها كلها. لقد أحطت نفسي بما يقارب 300 كتاب، لكن هناك بينها ما لم ألقِ عليه سوى نظرات سريعة وحسب، للتثبت في بعض الجزئيات، كالعملات المتداولة أو نحو ذلك، أو لاختيار أسماء الشخصيات. بينما أطلعت في بعض المراجع الأخرى، بشكل اكثر تعمقاً، على سجلات تجار تلك الفترة، للتشبع بعالمهم واختراقه، كي أعبِّر عنه كما لو كنت واحدا من هؤلاء التجار ! وفي المقابل ، يحدث أن أقوم أحيانا بقراءة بعض المراجع بدقة كبيرة، ثم لا استخدم المعلومات التي أعثر عليها في تلك المراجع. فقد درست مثلا العديد من المراجع عن أوضاع روسيا في القرن السابع عشر، لكنني، فيما بعد، غيَّرت رأيي، وصرفت النظر عن الحديث عن تلك المنطقة في روايتي.
هل شعرت بالحاجة إلى زيارة بعض المناطق التي وردت في الرواية ؟
- بالفعل قمت، خلال فترة تحضير الرواية، بزيارة العديد من المدن التي عبرها بلدسّار في رحلته. زرت جبل لبنان وإزميل واسطنبول، وعبرت بالباخرة مناطق عدة شملتها رحلة بلدسار، لكي أكون أكثر إحساساً بتلك المناطق وتآلفا معها. لكنني لم أقم برحلة كاملة ومنهجية لتتبع آثار بلدسّار، من البداية إلى النهاية.
إذا بحثنا عن قواسم مشتركة بين كل رواياتك، نجد ثلاثة مواضيع أساسية : الرحلات، التأمّل الروحي، وحب المخطوطات القديمة. هل هذه الاهتمامات الثلاثة هي أيضا من مشاغل وهوايات أمين معلوف الإنسان ؟
- بالفعل ، أهتم كثيرا بتلك المسائل الثلاث. فأنا مولع بقراءة الكتب القديمة، لكنني لست من هواة جمعها أو اقتنائها بأي ثمن ، مثل بلدسار. أما الرحلات فقد أخذت تقل شيئاً فشيئاً، منذ 15 سنة. و قد يرجع ذلك إلى تقدمي في العمر. أما عن التأمل الروحي أو الديني، فهو حاضر في رواياتي بدرجات متفاوتة. لكن هذا لا يعني أن هذا الموضوع يستحوذ على اهتماماتي الشخصية أكثر من غيره. كل ما في الأمر أنني أقوم كغيري من الناس ببعض التأملات، وأطرح التساؤلات حول مغزى الحياة، وما ينتظرنا بعدها.
علمنا أنك تعيش حاليا تجربتك الأولى في كتابة الأوبرا، وهي تختلف كثيرا عن التأليف الروائي. هل تجد المتعة نفسها التي تعودتها من قبل ؟
- صحيح أن تقنية كتابة الأوبرا مختلفة جداً، باعتبارها أقصر وأقل مشقة من الرواية، وباعتبار النص مهيأ للغناء، ما يقتضي تكوين الجمل والتعابير بطريقة مغايرة تماماً. وأنا مولع بالمرور بمختلف التجارب الكتابية، ولقد وجدت متعة لا حد لها في كتابة هذه الأوبرا.
هل تنوي اختبار فنون أخرى، كالكتابة المسرحية ؟
- دعيني أصارحك بأني عندما راودتني، لأول مرة، الرغبة في كتابة نص شخصي، وأنا في الرابعة أو الخامسة عشر، فكرت في كتابة مسرحية ! هذه الفكرة، إذاً، موجودة في ذهني منذ أمد طويل ، ويهمني كثيرا أن أجرِّبها. لكن لا أدري إن كنت بالفعل سأفلح في تحقيق مثل ذلك يوماً ؟ وهل أنا قادر على هذا النوع من الكتابة ؟ يجب أن أخوض التجربة، على الأقل، لأعرف مدى قدرتي على ذلك.
مديح العزلة
قام بلدسّار برحلات شاقة، ليرجع في نهاية الرواية إلى زراعة حديقته والاعتناء بها؟ ما المغزى من ذلك ؟
- إن ذلك الوضع ينطبق نوعاً ما على الحالة التي أنا عليها الآن. فقد قمت برحلات شتى في الماضي، ولكني اليوم لا أجد راحتي إلا في عزلة مكتبي، مع أوراقي وأقلامي وكتاباتي. وقد وصلت إلى مرحلة في حياتي، لم أعد أشعر فيها بجدوى الذهاب والإياب، ولم يعد لدي شعور بالحاجة إلى الابتعاد عن طاولة عملي.
المعروف عنك أنك تعيش في عزلة تامة، عندما تكون بصدد التأليف. فكيف تحتمل الانتقال من هذا النوع من الحياة الهادئة إلى مواجهة الأضواء ووسائل الإعلام، كلما انتهيت من عمل جديد ؟
- أتحمل ذلك بشكل سيّئ جداً. ولا استبعد أن يأتي اليوم الذي أقرر فيه التزام العزلة التامة. حيث تراودني رغبة شديدة في ذلك، لا تضاهيها سوى رغبتي في العمل أكثر فأكثر. وقد يكون هذا ناتجا عن التقدم في العمر، كما أسلفت.
ما هي مكانة لبنان في كتاباتك وفي حياتك اليومية ؟
- للبنان مكانة كبيرة في حياتي اليومية من دون شك. أما مؤلفاتي، فقد يكون للبنان أحيانا وجود مباشر فيها، مثلما هو الأمر في "صخرة طانيوس" أو "سلالم الشرق" أو "الهويات القاتلة". وقد يتعلق الأمر في مؤلفات أخرى بقضايا أو أحداث غير مرتبطة مباشرة بلبنان. لكن الوقائع والأحداث والكوارث التي عشتها في لبنان، تلقي بظلالها دوماً، بشكل أو بآخر، على كل ما أكتبه.
هل تعتبر اللغة الفرنسية وطناً في حد ذاتها؟
- كلا، إني أعتبر الكتابة وطناً. أما إذا اعتبرنا اللغة وطناً، فيمكن أن نقول إنني مرتبط بثلاثة أوطان: أولها لغتي الأم التي هي العربية، وثانيها لغة التعبير المفضلة لدي، وهي الفرنسية. ثم بالدرجة الثالثة، لدي ارتباط حميمي وخاص، لأسباب عائلية وتاريخية، باللغة الإنكليزية. وأنا حريص على هذه التعددية اللغوية التي اكتسبتها، وأعتبرها مصدر ثراء ثقافي مهم جداً.
لماذا تقوم بإتلاف مذكرات بلدسّار، في الرواية، كلما تقدم في كتابتها؟ هل ذلك تعبير عن هواجس تراودك بخصوص خلود الكتابات الأدبية ؟ وهل تخشى على مؤلفاتك من أن يلفها النسيان يوماً؟
- إنني فعلا أتساءل عن مدى خلود الكتابات. بالطبع نحن نتمنى أن يدوم ما نؤلفه لأطول فترة ممكنة، ولكن ذلك ليس أمراً مؤكداً. ترى كم نعرف اليوم من كُتَّاب القرن الثامن عشر ؟ بالتأكيد لا نعرف سوى القليل منهم. وكم من كاتب نقرأ أعماله حقا من بين هؤلاء الذين نعرفهم ؟ وهكذا كلما رجعنا إلى الوراء زمنيا، يتأكد لنا أي حد تُنسى الكتابات وتزول بسرعة. أنا اليوم أكتب، والناس تقرأ لي. فهل سيكون الحال كذلك غداً ؟ لا أحد يدري مَن مِن أدباء اليوم ستُقرأ أعماله بعد قرن أو قرنين. الكتابات مثلها مثل الإنسان لا تدوم طويلاً. وقد تدوم الكتابات أكثر، باعتبارها تبقى بعض الوقت بعد مؤلفها. لكنها آيلة حتماً إلى الزوال. وهذه إشكالية تؤرقني بالفعل، ولا أعتقد أنها يمكن أن تغيب عن ذهن أي كاتب !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.