آهٍ... وصلاة قصيرة... ودمعتان فاضتا من المحاجر... زرفتها تلك السيدة الفرنسية حين وطأت قدماها مداخل المغارة. الجميع هنا يتساوى في مشاعره تحت قبة الجليد والماضي. مغارة جعيتا ليست مكاناً بالمعنى المألوف للأمكنة... المغارة هنا عبارة عن عناق الحجر المرتفع من تحت، بالماء الهابط من أعلى، ما يشبه حكاية الطهارة التي غزلتها الطبيعة بأجمل حلة. الزوار يدخلون اليها عبر دهليز في بطن الجبل، خطواتهم الاولى المتسارعة تتباطأ تدريجياً، حتى لا تخدش أصوات أكعابهم أنفاس الماء اللاهثة، المترقرقة فوق ألسنة الصخر... ويتبدى المنظر لوحات عجائبية تحت العين بصور الذهول. ويصبح الكلام غير مباح فيسكت المتكلمون وتعم لغة الصمت المكان... الذي تسيطر الدهشة أمام هيبته. ويصبح التمني طقساً قدسياً. وتحل الجلالة مكاناً عميقاً في النفس، فيرمي هؤلاء المال في مجرى ماء جعيتا، ليبرأ المريض، وتتحقق أمنيات الطموح، وينجمح الجاد في عمله، ويلتقي العاشق بمعشوقته، ويرتاح التَعِب من همومه. هكذا أصبحت جعيتا محتوى لأسرار النفس وكهوفها وميولها. يقول أحد السياح اليابانيين بلغة انكليزية متهدجة: "هنا تكمن القدرة على خلق الرؤى المستعصية فتكون ملهمة الشاعر والرسام والمفكر". يقال ان ملاين السنين استقرت في تلك القطرات البلورية المتجمعة في أحشاء الجبل لتتكون منها أروع عجائب الشرق، وليس من مكان يماثل مغارة جعيتا في عمقها واتساعها وجمالها. فانتازيا اللامعقول الرحلة الى جعيتا كرحلة الذي يجتاز اللامعقول بين مناخين واحد ملتهب وآخر متجمد، فمسافة 20 كلم التي تفصل المغارة عن بيروت مدينة الضجيج والحركة والاجواء المشحونة بدخان السيارات، صعوداً نحو الجبل عبر ذوق مصبح، فيسوع الملك ثم الانعطاف يميناً في طريق هادئة وساكنة، تقطنها الاشجار وألوان الخضرة. رحلة تنبئ بأن الحياة في هذا الجبل القريب أقرب الى الحلم والمفاجأة. حيث السكينة تعم أجواء لا يعكرها إلا أصوات الطيور المغردة، وخرير مياه نهر الكلب الذي يعبر الوادي. على كتفها تقع مغارة جعيتا بقسميها الاعلى والاسفل. السماء في جعيتا تبدو متعالية بزرقتها الصيفية، وهي تظلل في فضائها العلوي أحلام أشجار خضراء تتعانق متناعسة، فوق صخور تلك الوهاد حاملة الى القلوب عالماً أقل قساوة وأكثر جمالاً. تكتمل صورة الخارج بلوحة الداخل في المغارة، فالصخر لآلئ بلورية، أو برونزية بأشكال نوازل معلقة كالثريات المضيئة بدفقات أعمدة الماء الكلسية التي تفاعلت عبر الدهور مع الحجر، وراحت تروي الرؤية العجائبية التي لا مثيل لها. كتب عنها الشاعر جورج شحادة قصيدة "صخور جعيتا تغني" التي جاء فيها: "هذه المغارة هي أعجوبة للحرية، فهؤلاء الذين يملكون القلوب المفكرة يجدون في هذا المكان المليء بذكريات الطفولة، سندباد، وأليس في بلاد العجائب". وفي حناياها أقام الموسيقي العالمي فرانسوا بايل حفلة وأصدر إسطوانة عنوانها "جعيتا أو خرير المياه". وما زالت الى اليوم تتوجه بحفلات غنائية وموسيقية ونشاطات أدبية وثقافية. وجعيتا عبارة عن مغارتين: سفلى وعليا، متشابهتين في تكوينهما الا ان السفلى يجري فيها جدول ماء ويتم الانتقال في داخلها بواسطة مراكب صغيرة أما العليا فجافة. تم اكتشاف مغارة جعيتا السفلى عام 1836 على يد صياد أميركي يدعى طومسون وقد اتخذها مأوى له اثناء قيامه برحلة صيد، وفيما هو في داخلها سمع خرير مياه فتتبع الصوت حتى وصل الى عمق خمسين متراً. وبعد سنوات من مبادرة طومسون، وفي عام 1873 سبر اعماقها المهندسان الأميركيان مكسويل وبليس بتكليف من شركة مياه بيروت. وقد ركب المهندسان طوقاً مجهزاً بعوامات مصنوعة من جلد الماعز وألواح خشبية وسارا نحو خمسين متراً على النهر فنفذا الى رواق طويل، توغلا فيه فإذا به يضيق شيئاً فشيئاً مؤدياً الى صخرة ضخمة سدت قسماً من المجرى. وفي عام 1926 نجح البروفسور وست في الوصول الى مسافة 1600 م. وعام 1927 تقدمت بعثة بقيادة توميون حتى عمق 1800 م غير ان منحدرات خطرة أوقفت الرحلة. ومع تأسيس النادي اللبناني للتنقيب عن المغاور، دخل اعضاء النادي السبعة آنذاك المغارة ومكثوا سبعة أيام، محققين رقماً قياسياً هو 6200 م ولم يتخطوه نظراً الى تدفق المياه بقوة. وفي شهر آب أغسطس من عام 1955 دشن الرئيس الراحل كميل شمعون بدء العمل بتأهيل مغارة جعيتا، وبدأ الزوار بالدخول اليها عام 1957، حيث بلغ عددهم عامها 40817 زائراً ووصل الرقم عام 1962 الى مليون شخص وظل في ارتفاع حتى بلغ 16 مليوناً عام 1966. في تلك الاونة لم تكن مغارة جعيتا العليا قد اكتشفت بعد، وكانت المغارة السفلى تقفل في فصل الشتاء بسبب ارتفاع منسوب المياه فيها. الى ان اكتشفت المغارة العليا عام 1958، وكان لا بد من توجيه الانظار اليها والانكباب على تأهيلها لاستقطاب السياح على مدى فصول السنة، وعمل الرئيس الراحل فؤاد شهاب على تأهيل المغارة العليا بالاستعانة بمهندسين ايطاليين وفرنسيين حيث أضيفت ممرات اصطناعية لوصل أجزائها وإقامة مدرج للحفلات الفنية وناقلات هوائية تلفريك لنقل الزوار من المغارة السفلى الى العليا. شاهدة على المرارة المسؤولون اليوم عن المغارة يسمحون بالدخول الى عمق 650م. فقط، وتعتبر المغارة الوحيدة بعمقها وأثرها الخلاب في لبنان وإن وجد مثلها في بلدتي عثرين وبعقلين اللبنانيتين اللتين اكتشفهما الشاب نبيل سري الدين عام 1998. وجعيتا الساكنة في عزلة الطبيعة، تشكل النبع الاساسي لنهر الكلب الذي يمد بيروت ونواحي المتن وكسروان بمياه الشفة. كانت جعيتا اول شاهد على الحرب اللبنانية القاسية، التي بدأت عام 1975. إذ تحولت ترسانة مسلحة وملجأ للمسلحين، فأصيبت ملحقات المغارة ومحيطها بالتدمير الكامل. وهكذا كبرت أجيال وفي مخيلة أبنائها حلم زيارة مغارة جعيتا التي سمعوا عنها ولم يخدمهم القدر بالتعرف اليها، الا من خلال أحاديث الكبار، والتعرف عليها كأسطورة تاريخية مطبوعة على ورقة الليرة اللبنانية التي غابت عن العيون بفعل التدهور المالي الذي أصاب لبنان. فكانت جعيتا ذكرى حجر، وذكرى ورقة منسية غابت عن الجيوب وعن الاذهان بانتظار ان يأتي السلام. وتعلن جعيتا عودة الحياة الممكنة الى الوطن. عودة النور الى بلورة الماء ومع بداية صيف 1995، عادت جعيتا تنبض بالحياة، بعد ان تكفلت شركة "ماباس" الالمانية اعادة تأهيلها على مدى عام ونصف العام من العمل المتواصل. وها هي اليوم تقص حكاية الزمن الجديد مع كل تفاصيل التطور والحضارة والانارة المميزة والمتطورة، والتحسينات الجمة من مقاهٍ ومطاعم واستراحات وتحسينات بيئية يشرف عليها رئيس الشركة الدكتور نبيل حداد، وهو واحد من أنصار البيئة والمناضلين من أجلها، يسخر علومه الهندسية في خدمة الطبيعة في كل أنحاء العالم. وإن كانت بداية مشواره انطلقت من ألمانيا مع تأسيس "حزب الخضر" الذي يهدف الى بناء بيئة المستقبل وانسانها. لقد رأى الدكتور حداد ان الرحلة لا تكتمل الا بالعودة الى الوطن الذي ينتمي اليه، فكان قراره العودة الى لبنان، وكانت جعيتا مدغدغة أفكاره التنموية والبيئية. ومن هنا جاء مشروع اعادة تأهيل جعيتا متنفساً لطموحاته ومجسداً لأفكاره المستقبلية. لكن قصة مشروع جعيتا لم تكن وردية. ولا تحمل الالوان الزاهية التي راودته في البداية. معوقات كثيرة اعترضته وحملات محاربة شنت في وجه شركته الألمانية الجنسية، اللبنانية التفكير والطباع والوجدان... فيقول: "أنا هنا في وطني أفرح لنهضته، أشهد من خلال جعيتا وإعادة الحياة اليها الى ارضاء ولعي البيئي لكن حسرة التعامل مع الجوار والذهنيات التي حولي، تضعني على محك النفور والتردد. وأشعر الآن اني في ورطة لا عزاء لي فيها الا من خلال التسجيل للتاريخ بأن جعيتا عادت مضيئة، عادت حية تقص رواية الزمن، الذي نحن جزء من حلقته المريرة والحلوة في آن". حكاية اعادة تأهيل جعيتا قديمة التداول وفصولها بدأت منذ ان كلف وزير السياحة السابق نقولا فتوش عام 1994 شركة "ماباس" مهمة التأهيل والادارة والاستثمار. فقامت حملات اعلامية وأصوات لبنانية عديدة تناهض هذا المشروع الذي ما زالت صدى مفاعيله تتردد حتى الآن. ففي حينها انفجر سخط أهالي بلدة جعيتا عن تلزيم المشروع الى شركة ألمانية كون هذا المرفق السياحي يشكل مورداً طبيعياً هاماً من موارد ثروة البلاد، معتبرين ان هذا التلزيم تشوبه العيوب والتجاوزات والمخالفات، فرفعوا الدعاوى امام مجلس الشورى فجاءت نتائجها سلبية عليهم وربحت شركة "ماباس" الدعاوى كلها. لكن مسلسل المضايقات لم ينتهِ عند هذا الحد، فما زالت الاوساط البلدية غير مقتنعة بشرعية الشركة اذ انها بالنسبة اليها ما زالت تشكل خنجراً في خاصرة جعيتا المرفق السياحي والبلدي. معاناة تأهيل جعيتا يتحدث حداد عن طريقة التزام مشروع تأهيل مغارة جعيتا فيقول: "أنا لم أختر هذا المشروع عن سابق اصرار وتصميم بل ان الصدفة لعبت دوراً كبيراً في ذلك. فخلال زيارتي عام 1993 مع وفد ألماني لسورية بهدف البحث عن فرص استثمارية، زرت لبنان وهو وطني الأم وشجعني الوزير نقولا فتوش آنذاك على ضرورة التزام تأهيل جعيتا، اذ كانت الدولة اللبنانية تبحث عن مصادر تمويلية لإحياء هذا المشروع. وأنا بدوري كنت معروفاً من خلال عدة مساهمات في مشاريع تنموية في البقاع حيث عملت على تحسين مواسم القمح والذرة، وهكذا بعد الدراسات قدمنا الاقتراح، وبدأنا العمل على اساس ان يعود الى الدولة اللبنانية في السنوات الخمس الاولى 5 في المئة من العائدات، وفي السنوات الخمس التالية 10 في المئة، وفي السنوات الثماني الاخيرة من العقد تحصل الدولة على 20 في المئة من الارباح، اضافة الى الضرائب والرسوم والتكاليف وبكلام وزير السياحة نفسه آنذاك فإن الدولة اللبنانية لم يتح لها في الماضي ان لزمت مشروعاً كهذا بهذه الشروط". ويضيف حداد: "ان شروط العقد تبقي كل شيء بيد الدولة اللبنانية، فالاشراف وتحديد رسوم الدخول وغيرها تعود الى وزارة السياحة. كما يعود كل شيء من معدات وتجهيزات الى الدولة دون اي تعويض للشركة. وكذلك شراء مراكب زجاجية، تستعمل في المغارة المائية. وانشاء تلفريك لا يقل ثمنه عن مليوني دولار. اضافة الى استحداث قطار من المرآب الى المغارة، فضلاً عن اعادة تجهيز الاستراحات السياحية وبناء مطعم شرقي فخم فتصبح المغارة مجمعاً سياحياً بحد ذاته من أرقى المجمعات السياحية في الشرق الاوسط، وفعلاً تم انجاز كل هذه الشروط بفترة زمنية قصيرة وكان افتتاح المغارة بكل هذه المواصفات في تموز يوليو العام 1995". وعن المشاكل التي رافقت قيام هذا المشروع، والتي ما زالت رواسبها عالقة حتى الآن، يقول حداد: "نحن التزمنا كشركة كل الشروط لكن هناك امور لم تكن واضحة بالنسبة الينا، فوجئنا بوجودها، منها دفع مبلغ 5 في المئة من عائدات المغارة الى بلدية جعيتا و10 في المئة الى وزارة المالية، اضافة الى ضرائب غير منظورة كضريبة الطابع المالي وتوزيع الارباح. وبعد ذلك نحن كشركة علينا ان ندفع رواتب الموظفين والصيانة والضمان الاجتماعي وفواتير الكهرباء الباهظة، دون مراعاة. اضافة الى المعوقات التي نواجهها عند كل عملية نقل لكومة تراب او كيس اسمنت. اذ نحتاج الى المبررات والتصاريح، والى زيارة دوائر عدة في الدولة، فنصبح بحاجة الى متخصص يفهم بالتسلسل الاداري في الدولة ومخلّص تأشيرات لنقل الحصى. انها أمور تقتل طاقتنا وتشلّنا عن العمل وتقف عائقاً في وجه المستثمر وتنفره. يجب ان يكون هناك نوع من التساهل والليونة حتى انجاز المطلوب". استثمار... واستياء أما بصدد مردود هذا المشروع على الشركة، وأهميته، وامكانية تكرار مثل هذه الاستثمارات، فيضحك حداد، ويجيب: "لو وضعت المبالغ المالية التي وظفتها في مشروع جعيتا في أي مصرف مالي لكن الربح أكثر بكثير ووفرت على نفسي جملة من المتاعب. نحن لم يغشنا أحد، لكن هناك "توريط" ولا امكانية للرجوع الآن، ولن أعيد الكرة وأستثمر مثل هذه المشاريع التي تفتقد الى الاحصاءات والدراسات اضافة الى اني أريد ان أبتعد عن "وجع الرأس" الذي لا يفارقني، فهناك تدخلات لا تحصى، وعيون لا تمل المراقبة وأفواه تحاسب صعوداً ونزولاً". وتساءل حداد "ماذا تستفيد الدولة اللبنانية من معالم سياحية مهمة كصيدا وصور وجبيل وطرابلس وبعلبك؟ هذه الاماكن التي يمكن ان تتحول مزاراً سياحياً أشبه بالايكروبولس في اليونان أو الأهرام في مصر؟ لو عرفت الدولة اللبنانية كيف تحولها الى أماكن اسثتمارية ناشطة من خلال نشاطات فنية ورؤية سياحية بناءة! لكن طالما التعقيد موجود أمام المستثمر والتدخلات لا يوضع لها حد سيبقى الاستثمار ضعيفاً. لذا انا لن أكرر خطأ جعيتا ثانية. فلبنان لكي يكون بلد الخدمات الحقيقية يجب ان يبتدع نظاماً راقياً يواكب العصر ويشد المستثمر ويقوم على أسس قانونية وليس على عقلية تقليدية وكأن الكل له حق المبارزة والتطاول والقانون يأتي في الأخير". ويجد نبيل حداد وهو الخبير البيئي، المناهض لعمليات التسلح في العالم، ان اللبنانيين "ينقصهم الكثير من الحس البيئي"، فهم "يتعاملون مع الطبيعة بخشونة وفظاظة وهذا عائد الى قلة الثقافة البيئية والحرية المتفلتة التي لا رقيب عليها. فعلاقة الانسان بالبيئة، علاقة تقوم على حس تربوي ورادع اخلاقي تماماً ككافة العلاقات التي تجمع الانسان بأخيه الانسان، فهناك ضوابط يجب ان تتبع وأساليب يجب ان تطبق، فلا تترك الامور على مغاربها. من هنا نجد ان حزب الخضر في ألمانيا استطاع ان يحقق حضوراً لدى الكتل الشعبية وينافس أكبر الاحزاب السياسية، لأنه ينطلق من ان علاقة الانسان الصحيحة قائمة بالارض والاجواء الصحيحة، ومن يتعلق الرفق والاحساس بطبيعة البيئة يستطيع ان يتعلم كيف يطور انسانيته". وهكذا تبقى جعيتا قبلة اللبنانيين والسياح، تغزل في نفوسهم يقظة الطبيعة عبر الزمن، مسجلة أجمل اتحاد بين أعظم ضدين نعومة الماء وطراوتها وقساوة الصخر وثباته