لعل القارئ يتساءل: ماذا يعني كل هذا الكلام التراثي بالنسبة إلى حاضر المغرب اليوم؟ ما علاقة مفهوم "التركيب" كما وظفه ابن رشد وابن خلدون في فهم مجتمعهما ودولتهما بحال المجتمع والدولة الآن؟ وما أهمية التذكير هنا بالنزعة الحتمية الخلدونية والنزعة الاصلاحية الرشدية؟ وبعبارة قصيرة ما العلاقة بين افق ابن خلدون وابن رشد والافق المعاصر، افق القرن الواحد والعشرين؟ أسئلة لا بد من طرحها والوعي بما تطرحه من ضرورة مراعاة الفارق الزمني! وستكون هي مدخلنا إلى الكلام عن الوضع المعاصر. أما أن يكون المجتمع المغربي المعاصر - بل وجميع المجتمعات تقريباً - يحمل في جوفه نوعاً ما من "التركيب"، فهذا ما قد لا يحتاج إلى بيان. ومع ذلك لا بد من التأكيد على أن "المجتمع" هو اسم لأشياء جمعت أو اجتمعت. ليس المجتمع مجموعة أفراد وحسب، بل هو اجتماع مجموعات وفئات، منها ما يكتسي طابعاً اقتصادياً كالطبقات بالمعنى الحديث للكلمة، ومنها ما يكتسي طابعاً اجتماعياً طبيعياً كالقبائل وأهل الحضر وأهل القرى والمدر، ومنها ما له طابع ثقافي كالطوائف الدينية وغيرها، ومنها مؤسسات المجتمع المدني الحديث كالأحزاب والنقابات والجمعيات... الخ. ولكل من هذه الفئات قسط من السلطة يمارسه أو من الجاه يستفيد منه. قد تكون السلطة - أو الجاه - ذات مصدر اقتصادي، وقد تكون ذات مصدر ثقافي أو اجتماعي... الخ. و"التركيب" في المجتمع الحديث - كالمجتمعات الأوروبية - يتكون من أشياء حديثة أساساً، الأحزاب والنقابات والجمعيات والأفراد. و"التركيب" في المجتمع المختلط يضم أشياء من الماضي وأخرى من الحاضر. والمجتمع المغربي مجتمع مختلط، وهذا لا يحتاج إلى كلام، فقد درجنا على التمييز فيه بين القطاع العصري والقطاع التقليدي في كافة الميادين تقريباً، في الاقتصاد والتعليم والسكن والعمل والذهنية... الخ. وكل عنصر من عناصر "التركيب" يحمل معه نوعاً خاصاً من السلطة، منها ما يدخل في مجال "الفضيلة" أو في مجال الدين، ومنها ما يدخل في مجال القهر والقسر كالذي يمارسه بعض الآباء على أبنائهم، وبعض المعلمين على تلامذتهم، وبعض الأساتذة على طلابهم، أو تمارسه الشرطة والجند أحياناً، ومنها ما يدخل في مجال استغلال النفوذ بكافة أشكاله... الخ. وهذه الأشكال من "التركيب" تمارس حضورها وتأثيرها في المجموعات أيضاً، حتى الحديثة منها. فليس هناك حزب ولا نقابة ولا جمعية لا يعاني من هذه الأنواع من "التركيب"، ومهما اتخذت الأحزاب من أسماء "واحدة" و"موحدة" فهي في واقع الأمر مركبة ولا بد. الحزب المغربي اليوم مجموعة من الأعمار الطبيعية والعقلية، ومجموعة من الانتماءات منها الطبيعية القبلية الفئوية ومنها "الإرادية" الاقتصادية والثقافية... الخ. والحزب إذا لم يعكس في جميع هيئاته هذا "التركيب" لا يمثل المجتمع حقاً، وإنما يمثل شريحة واحدة أو بضع شرائح، تعيش "التركيب" هي الأخرى بصورة من الصور! والحزب الناجح "حزب المستقبل" هو الذي يحقق في كيانه ما نعبر عنه ب"الكتلة التاريخية" قبل أن تتحقق في المجتمع ككل، ومن خلال مجموع الأحزاب. والدولة في المغرب كالمجتمع سواء بسواء، هي أيضاً مركبة، وسياستها مركبة، قد تميل إلى "الفضيلة" حيناً وقد تنساق مع غير الفضيلة أحياناً، وهذا في جميع العصور. وإذا نحن أردنا أن نفسر اختلاف رأي ابن رشد عن رأي ابن خلدون في مسألة الاصلاح فلا بد من الأخذ في الاعتبار عاملين اثنين: النموذج العلمي الذي استوحاه كل منهما ثم طبيعة العصر الذي عاش فيه. أما ابن رشد فقد فكر في "التركيب"، في سياسات الدول، مستوحياً نموذجاً رياضياً هندسياً هو فكرة "الوسط". وهو يرى أن التركيب ليس مجرد جمع بين عناصر كيفما اتفق، بل التركيب عنده هو نوع من "الوسط" بين طرفين متناقضين. فحكومة الأخيار في طرف وحكومة الطغيان في الطرف المقابل، والدولة المركبة تقع بينهما، تماماً كما هو الشأن في الألوان التي تقع بين الأبيض والأسود، فهي تندرج من الأبيض عبر ألوان لا حصر لها تزداد فيها نسبة المواد إلى أن تصير إلى الأسود الكامل. وهذا الفهم للتركيب بوصفه مجالاً للحركة من طرف إلى طرف هو ما جعل ابن رشد يؤمن بإمكانية الاصلاح، وبالتالي يتجنب تشاؤم افلاطون بل ويعترض عليه، كما سنرى لاحقاً. أما ابن خلدون فقد فهم "التركيب" في الدولة على غرار نموذج "كيميائي" هو "المزاج". فمزاج الإنسان حسب النظرية الطبية القديمة هو حصيلة الاخلاط الأربعة المرتان الصفراء والسوداء والبلغم والدم. والمزاج يسمى باسم الخلط الغالب. ومزاج الدولة عند ابن خلدون هو مزاج العصبية صاحبة الدولة، ويتغير مزاجها حسب الطور الذي تكون فيه. هو يرى ان "حالات الدولة وأطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار". طور "الظفر بالبغية" أي التأسيس ويكون "صاحب الدولة أسوة قومه... لا ينفرد دونهم بشيء"، وتكون سياسته بمشاركة أهل العصبية وهم العمود الفقري في جماعة "أهل الحل والعقد" آنذاك كما تكون أقرب إلى الفضيلة والشريعة. يأتي بعد ذلك طور "الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك... واصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنائع"، ثم تنتقل الدولة إلى "طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك". يأتي بعده "طور القنوع والمسالمة" وتقليد السابقين، ثم "طور الاسراف والتبذير"، وفيه "تحصل في الدولة طبيعة الهرم"1. فالتركيب هنا متداخل مع "أطوار الدولة" إلى الدرجة التي يمكن القول معها إن لكل طور مزاجه الخاص. وواضح ان هذا النموذج لا يسمح بالتفكير في الإصلاح، فأطوار الدولة كأطوار عمر الإنسان لا تقبل الانعكاس، فالشباب لا يعود... يوماً! أما تأثير العصر ومعطياته في فهم "التركيب" في السياسة لدى مفكرينا العتيدين، ابن رشد وابن خلدون، فيمكن رصده كما يلي: أما فيلسوف قرطبة فقد عاش في عصر الدولة الموحدية التي عرفت فترات من الازدهار، خصوصاً على عهد عبدالمؤمن وابنه يوسف. الأمير الفيلسوف صديق ابن رشد. وإذا كانت هذه الدولة قد شهدت انتكاسة على مستوى التضييق على الفلسفة والفلاسفة وبالتالي على حرية الفكر وازدهاره في أواخر عهد يعقوب المنصور الذي تزامن مع أواخر عمر ابن رشد، فلم يكن ذلك مما لا يمكن تداركه، فعنصر "الفضيلة" - حسب تعبير ابن رشد - لم يكن قد توارى تماماً، لم يكن قد اقترب من "اللون الأسود" بعد، ولذلك نجد فيلسوف قرطبة يقول بإمكانية الاصلاح. وأما ابن خلدون الذي عاش في عصر كان كله تراجعات في الميدان السياسي كما في الميدان الثقافي والازدهار الحضاري، في المغرب والأندلس وفي المشرق كذلك، فلم يكن يرى من سبيل للاصلاح إلا إذا انقلبت الأمور رأساً على عقب، وحينئذ يكون التغيير ليس مجرد إصلاح، بل انشاء شيء جديد تماماً. لقد كان وضع العالم الإسلامي في ذلك الوقت "كأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة". والتغيير في مثل هذه الحال لا يكون ب"الاصلاح" وإنما يكون بحدوث انقلاب كبير في الأوضاع تتبدل به الأحوال جملة: "وإذا تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث"، حسب تعبير ابن خلدون نفسه2. هذا النوع من "الخلق الجديد والنشأة المستأنفة والعالم المحدث" كان مرتبطاً في افق ابن خلدون بسقوط ما يسميه ب"الدولة العامة"، وقيام أخرى مثلها مكانها، كسقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية مكانها، وذلك لا يكون ب"الاصلاح" بل بالثورة العارمة، كالثورة العباسية، أو ثورة المرابطين أو الموحدين وهلم جراً... ففي مثل هذه التغييرات الكبرى التي تأتي بعد ثورات شاملة عميقة يمكن حصول التجديد والاصلاح، أما في غير ذلك فكل ما يمكن ان يحصل هو أن تزيد الدولة عمراً إلى عمرها بالتحالف مع قوى جديدة. كما ذكرنا، ليأتي بعد ذلك الهرم المحتوم. وفي جميع الأحوال تكون سياسة الدولة مركبة "ومجتمعة من أحكام شرعية، وآداب خلقية، وقوانين في الاجتماع طبيعية. وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية"3. قد يتغلب هذا العنصر في وقت وقد يهمين عنصر آخر، ولكن هذه العناصر تبقى حاضرة بشكل أو بآخر ك"المزاج للمتكون" كما شرحنا. *** ما الذي يمكن أن نستفيده من هذا الاستطراد في موضوع "التركيب" في الدولة والسياسة؟ هناك علاقة بين النظرية والواقع الذي تفسره: النظرية تشهد بالوجود للواقع الذي تفسره، والواقع يشهد للنظرية بالصحة، عندما تقدم عنه فهماً مقبولاً في مرحلة من مراحل تطور الفكر البشري. وعندما تحتفظ نظرية من النظريات بشيء من الصحة عندما يُقرأ بها واقع معين، في وقت يقع خارج وقتها، فذلك دليل على أن هذا الواقع ما زال يحتفظ في جوفه بشيء ما من الواقع الذي منه انبثقت تلك النظرية أولاً. وهكذا فإذا كانت الدولة المغربية المعاصرة تقبل أن تقرأ، كلياً أو جزئياً، وفق نظرية ابن خلدون أو ابن رشد، فذلك دليل على أن هذه النظرية ما زالت تحتفظ بشيء ما من الصدق. وبالعكس، إذا كانت نظريتاهما تجدان صدى في تفكيرنا يضفي عليهما نوعاً من الصدق، فذلك دليل على أن في الواقع المغربي المعاصر شيئاً ما من "زمن" ابن خلدون وزمن ابن رشد؟ وسيتبين هذا في الحلقة المقبلة 1- ج1 ص 493 - 494. 2- المقدمة نفس المعطيات السابقة، ج1 ص 406. 3- ابن خلدون، المقدمة، تحقيق علي عبدالواحد وافي، لجنة البيان العربي - القاهرة 1959، ج2 ص 711 - 712.