اتسم الصراع الطويل بين المحافظين والإصلاحيين في ايران بالكر والفر، فعلى رغم إحراز الإصلاحيين حوالي 80 في المئة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية والبلدية والتشريعية التي جرت خلال السنوات الثلاث الماضية، الا انهم لم يسددوا ضربة قاضية لخصومهم الذين لا يزالوا يمسكون بمقاليد السلطة، وفضلوا سياسة الهدوء والنفس الطويل. وعلى رغم امتلاك المحافظين وسائل القوة الأمنية والعسكرية والقضائية والإعلامية والاقتصادية والدستورية والدينية، فهم لم يستطيعوا حسم المعركة لمصلحتهم، خوفاً من تفجر الغضب الشعبي، وخسارة ما تبقى لهم من سلطات. وكلما حقق طرف انتصاراً كبيراً أحنى الطرف الآخر ظهره انتظاراً لفرصة أخرى يرد فيها لخصمه الصاع صاعين. بعد انتخاب الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، عمل المحافظون على تقليم أظافره بإقالة وزير داخليته الأول عبدالله نوري ووزير اقتصاده محسن نوربخش، وحاولوا إقالة وزير الثقافة والإرشاد عطا الله مهاجراني، كما قاموا باغتيال سلسلة شخصيات ثقافية وليبيرالية، وإشاعة جو من الإرهاب، واتبعوا سياسة متشددة ضد المفكرين والصحافيين الإصلاحيين، فسجنوا الشيخ محسن كديوار، الذي انتقد نظرية ولاية الفقيه، وعبدالله نوري. وأغلقوا عدداً من الصحف، وبدا لبعض الوقت ان المحافظين لن يسمحوا بإجراء الانتخابات النيابية اذا تأكدت لهم سيطرة الإصلاحيين عليها، ولكن تفجر غضب الطلبة الصيف الماضي دفعهم الى توخي الحذر وتجنب استفزاز الشعب. وفي المقابل كان الاصلاحيون يدركون قوتهم الشعبية وضعفهم العسكري، ولذا كانوا يحاولون تجنب استفزاز الآلة العسكرية والبوليسية للنظام، ويعولون على صناديق الاقتراع، ويطلبون بإلحاح من الطلبة والشباب ضبط أعصابهم والمحافظة على الهدوء وعدم تفويت فرصة الانتصار المؤكد في الانتخابات. حاول المحافظون في اللحظات الأخيرة شق صفوف الإصلاحيين بترشيح الرئيس السابق رفسنجاني للانتخابات النيابية التي جرت في شباط فبراير الماضي، لكي يضمنوا رئاسة المجلس البرلمان ويهيمنوا عليه. لكن الانتصار الساحق الذي حققه الاصلاحيون فاز 189 مرشحاً من مرشحيهم ال290 في الانتخابات الأولية، خصوصاً في طهران التي لم يفز فيها أحد من المحافظين، وكاد يسقط فيها حتى الرئيس السابق رفسنجاني الذي جاء في آخر القائمة المكونة من 30 نائباً، دفع الإصلاحيين الى التشدد ورفض المساومة مع المحافظين في شأن رئاسة المجلس، كما دفع المحافظين الى اتباع سلسلة خطوات مضادة، فشككوا في نتائج انتخابات طهران وألغوا أحد عشر مقعداً للإصلاحيين في مدن مختلفة. واعتقلوا عدداً من الصحافيين وأغلقوا عدداً من الصحف. وقاموا بمحاولة اغتيال رئيس تحرير صحيفة "صبح امروز"، مستشار رئيس الجمهورية الإصلاحي سعيد حجاريان قبل أن يغلقوا الصحيفة. واصدر مجلس الشورى المحافظ في أيامه الأخيرة قانوناً جديداً متشدداً للصحافة ليكون سلاحاً بيده يدخره للمستقبل. واستعجل "مجلس تشخيص مصلحة النظام" الذي يرأسه رفسنجاني إصدار قرار يحسم الجدل حول مسألة النظر والاشراف على أعمال المرشد ومراقبته ومحاسبته، وأخرج المهمة من إطار صلاحيات مجلس الشورى خلافاً لرغبة الإصلاحيين بوضع القائد المرشد تحت رقابة نواب الشعب. وشهدت الأسابيع الماضية جواً من الحرب النفسية والاشاعات حول حل البرلمان او عدم اقرار نتائج الانتخابات الماضية من قبل مجلس صيانة الدستور، لحمل الإصلاحيين على التفاوض في شأن رئاسة المجلس الجديد والتأثير على نتائج الانتخابات الفرعية المقبلة. وفي هذا السياق جاء بيان "الحرس الثوري" الذي حوى تهديداً مبطّناً بالانقلاب عسكرياً على القيادة الاصلاحية. الا ان كل تلك الخطوات التكتيكية لم تغير في المعادلة الجديدة شيئاً. ولم تضعف الإصلاحيين او تحول بينهم وبين دخول مجلس الشورى والتقدم بمطالب إصلاحية جديدة. ووجد المحافظون في مؤتمر عقد في برلين لدراسة التطورات السياسية في ايران بعد الانتخابات الأخيرة - حضره عدد من رموز الإصلاحيين كالصحافي أكبر كنجي والشيخ يوسف اشكوري - فرصة للهجوم على الإصلاحيين، اذ استغلوا حادثاً فردياً قام فيه رجل وامرأة من المعارضة الإيرانية في الخارج بالتعري والرقص اثناء المؤتمر، وسرّبوا المشهد للتلفزيون الإيراني الذي يسيطر عليه المحافظون لتأليب مشاعر المواطنين ضد من شارك ومن لم يشارك في المؤتمر من الإصلاحيين. وقام رجال الدين في مختلف "الحوزات العلمية"، في قم ومشهد وأصفهان وشيراز وغيرها، بالإضراب عن الدراسة احتجاجاً على المشاركة في مؤتمر برلين. وصوروا تلك الحادثة باعتبارها فضيحة كبرى. هنا قام المرشد علي خامنئي بإلقاء خطاب ضد الصحف الإصلاحية التي اتهمها بأنها قواعد للأعداء ول"الإصلاح الأميركي" فأعطى بذلك ضوءاً أخضر لقيام السلطة القضائية التي يسيطر عليها المحافظون بتعطيل 14 صحيفة ومجلة، واعتقال الصحافي أكبر كنجي، وإصدار الأوامر لاعتقال الشيخ اشكوري حال عودته من الخارج. وأصدر أحد القضاة تهديداً لصحيفة "مشاركت" التي يديرها محمد رضا خاتمي شقيق الرئيس باتخاذ إجراءات مضادة، احتجاجاً على قيام الصحيفة بتعديل بعض أعمدتها وأبوابها، قبل ان يصدر قاضي الصحافة قراراً بوقف الصحيفة. ولم يكتف المحافظون بالهجوم على الصحافة، بل شنوا حملة سياسية على الرئيس خاتمي ووزير الثقافة والإرشاد، فطالبوا باستئصال جذور الفساد ودعا عدد من النواب مهاجراني الى الاستقالة. وقال النائب المحافظ علي زادسر: "ان المشكلة تكمن في وزير الثقافة نفسه. عليه ان يغادر الساحة ويترك الصحافة وشأنها". وحذّر من ان "قوات التعبئة" يمكن ان تتدخل في اي لحظة اذا فرغ صبر القائد. وعلى رغم نفي وزير الدفاع علي شامخاني، وأمين "مجلس تشخيص مصلحة النظام" اللواء محسن رضائي، وعدد من قادة "الحرس الثوري" النية في القيام بانقلاب عسكري على حكومة خاتمي، فإن الجو العام لا يزال يوحي باحتمال اللجوء للانقلاب كورقة أخيرة في يد المحافظين. وذهب بعض المراقبين الى اعتبار الحملة التي لم يسبق لها مثيل على الصحف الإصلاحية انقلاباً قضائياً ضد القانون وخطوة على طريق الانقلاب العسكري. ما الذي دفع المرشد خامنئي الى مهاجمة الصحافة والحركة الإصلاحية برمتها؟ هل لأنه بدأ يشعر بأن الرئيس خاتمي تحول بطلاً قومياً منافساً له؟ أم لأنه شعر بوجود مؤامرة وخطر حقيقي يهدد الثورة كما قال رئيس السلطة القضائية السيد محمود الهاشمي الشاهرودي الذي وصف المرشد بأنه قائد الثورة وحارس النظام المتيقظ وطالب جميع المسؤولين بطاعته؟ واعرب المرشد خامنئي أثناء لقائه اخيراً قادة التيار الإصلاحي مهدوي كروبي وهادي خامنئي ومجيد أنصاري وبهزاد نبوي ومحمد سلامتي ومحمد علي نجفي ومحمد رضا خاتمي عن مخاوفه حيال مؤتمر برلين الذي قال انه كان مؤامرة لمحاكمة الثورة والنظام، وكان يهدف الى الترويج بأن الإصلاحات الأساسية لا تتسنى الا بحذف الاسلام و"ولاية الفقيه" وتعديل الدستور. وطالب خامنئي قادة الحركة الإصلاحية بالتزام مبادئ الثورة والتأكيد على التمسك بخط الامام الخميني وعدم فصل الدين عن السياسة، والإعلان عن مواقفهم الحازمة تجاه الذين يتعرضون، داخل البلاد وخارجها، للثورة وخط الامام و"ولاية الفقيه" والدستور تحت غطاء الإصلاحات. وقال: "يوجد داخل ايران أشخاص يعادون هذه الأصول كعداء أميركا لها، والمهم اتخاذ مواقف واضحة وشفافة في مواجهة هذه المخالفات". وانتقد بعض الأصدقاء والمجموعات السياسية التي قال ان موقفها في هذا المجال غير ملموس. ولم يكن بعض الإصلاحيين والصحافيين يخفي في الآونة الأخيرة، رغبته في تعديل الدستور وتقليص صلاحيات "الولي الفقيه" المطلقة، أو إعادة النظر في سيطرة رجال الدين على السياسة وفي نظرية "ولاية الفقيه"، ما دامت اجتهاداً بشرياً وليست أصلاً من أصول الدين. وكان الرئيس خاتمي نفسه دعا مراراً الى السماح بوجود أكثر من قراءة مختلفة للدين، وعدم فرض أي طرف رؤيته الخاصة او اجتهاده الخاص على الجميع. كما ان النائب المُقَال للامام الخميني الشيخ حسين منتظري ما فتئ يؤكد امكان إعادة النظر والاجتهاد في تفاصيل نظرية "ولاية الفقيه" والتوصل الى نظريات سياسية جديدة. وقال، في آخر مقابلة له نشرتها "الحياة" في 26 نيسان/ ابريل 2000 : "ان ما يستنبطه الفقيه لا يكون حكماً ثابتاً لا يقبل التغيير على الدوام، وبما ان السلطة تسبب غالباً الطغيان والتعدي على حقوق الآخرين فإن تسليم أمور الدولة لشخص غير معصوم قد يتأثر بالأفراد غير الواعين او المغرضين، ليس من مصلحة الاسلام ولا البلاد ولا من مصلحة ذلك الشخص، ولا يجوز عقلاً وشرعاً أبداً ان يُناط القرار في المسائل المعقدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والعلاقات الدولية لشخص ليس له تخصص إلا في الفقه. ولذلك فإن ولاية الفقيه المطلقة وكون الفقيه فوق القانون وكونه يستطيع التدخل في جميع الأمور دون حساب او كتاب وامتلاكه حق التشريع فيها تعتبر في عرف الشرع والعالم هي الاستبداد بعينه. وان الحكم الاستبدادي في عالمنا المعاصر لا يمكن ان يستمر ويدوم". لكن المرشد خامنئي وعدداً من قادة المحافظين دأبوا على اعتبار أي مساس او نقد او مراجعة لنظرية "ولاية الفقيه" مؤامرة ضد الاسلام والثورة والبلاد. وبررت صحيفة "أبرار" المحافظة الحملة على الصحف الإصلاحية بأنها كانت تهاجم العلماء و"الحوزة"، وتنتقد الدستور بحجة القراءة المتعددة للدين، وأعطت الحق للسلطات القضائية بالتعامل معها خارج نطاق قانون المطبوعات. وأمام الهجمة الأخيرة للمحافظين، التي تعتبر الأخطر من نوعها في تاريخ الصراع، لم يجد الاصلاحيون الا إدانة إغلاق الصحف بالجملة، واتهام القضاء بالانحياز الى المحافظين، والحديث عن وجود "مافيات" في مختلف الأجهزة تهدف الى احتكار السلطة وتفجير الساحة ومنع الجماهير من المشاركة السياسية، ودعوا الطلبة والمؤيدين الى التزام الهدوء والمحافظة على السكينة، لتفويت الفرصة على المتطرفين الذين يحاولون جرّهم للقيام بأعمال عنف وخلق مبرر للتدخل العسكري وتصعيد المواجهة مع الحركة الإصلاحية. غير ان تفجّر المظاهرات الطلابية في مختلف الجامعات الإيرانية، واحتمال تصاعد حدتها، والمطالبة بالرد على المحافظين وإظهار القوة ضدهم، دفع المرشد الى التراجع قليلاً وإعلان دعمه للرئيس خاتمي مع إصراره على مطالبته باحترام الخطوط الحمراء وعدم المسّ بصلاحيات القائد او "ولاية الفقيه"، كما دفع مجلس صيانة الدستور الى التوقيع على نتائج الانتخابات النيابية وتحديد موعد جديد لإجراء الانتخابات الفرعية. واذا كان المحافظون سيسمحون لمجلس الشورى الإصلاحي بالانعقاد في الأسابيع المقبلة، فإنهم مطمئنون الى سيطرتهم على المجلس من خلال مجلس صيانة الدستور الذي يشكل قلعة حصينة وسدّاً أمام طموحات الإصلاحيين. وهذا ما يُبقي المعركة مفتوحة بين المحافظين الذين يشكلون 20 في المئة من الشعب لكنهم يسيطرون على معظم أجهزة الدولة الحيوية، وبين الحركة الإصلاحية التي تمثل 80 في المئة من الشعب وتحاول ان تعيد صياغة النظام وفق قراءة جديدة للفكر السياسي الاسلامي أم الوزارات تشكلت وزارة الاستخبارات في ايران العام 1984 من بقايا منظمة الاستخبارات الشاهنشاهية المعروفة ب"السافاك" اضافة الى الفرع المدني في مديرية الاستخبارات في الحرس الثوري، وأعطيت رئاستها الى "مجتهد" كضامنة دون انحرافها. ولكن ذلك لم يمنع من توسعها وتغلغلها في مختلف الوزارات والمؤسسات الاجتماعية والعلمية والاعلامية، وهيمنتها حتى على الحوزة الدينية في قم من خلال "مكتب ادارة الحوزة" و"المحكمة الخاصة لرجال الدين" التابعة لها، حتى كادت تصبح "أم الوزارات". وكان من الطبيعي ان تصبح وزارة الاستخبارات على رأس قائمة برنامج الرئيس محمد خاتمي الاصلاحي، الذي طلب منها ان تكون "عين النظام" فقط، لا يده، لأن النظام يمتلك أيد كثيرة. ومع ان الوزارة تابعة دستورياً لسلطة الرئيس الا انها كانت منذ تأسيسها خاضعة لقيادة الإمام أو المرشد الأعلى الولي الفقيه، ولذلك لم يكن غريباً ان يقوم بعض عناصرها قبل حوالي سنتين باغتيال عدد من المثقفين والليبراليين، في محاولة لإفشال مخطط خاتمي الاصلاحي واظهاره بمظهر العاجز. الا ان الحركة الاصلاحية التي كانت تلقى تأييداً من كوادر ثورية اخرى داخل الوزارة استطاعت ان تكشف "الشبكة الارهابية" وتجبر الوزارة على الاعتراف بدور بعض عناصرها في اعمال العنف، وهنا استطاع الرئيس خاتمي ان يعين القاضي الذي كلفه بمتابعة ملف الاغتيالات الشيخ علي يونسي، وزيراً للاستخبارات ليحكم قبضته عليها. وهكذا استطاع الرئيس، بفضل العناصر الاصلاحية فيها، ان يكشف المتورطين في محاولة اغتيال سعيد حجاريان نائب وزير الاستخبارات السابق والعنصر الاصلاحي البارز، واعتقالهم رغم انتماء بعضهم الى الحرس الثوري، وكادت تحدث مواجهة بين الطرفين. وكان من المتوقع ان تأخذ التحقيقات مجرى جدياً يصل الى الخيوط الرئيسية التي تقف وراء عملية الاغتيال، لكن المحافظين نجحوا في سحب ملف الاغتيال من الوزارة الى محكمة الثورة، واطلاق سراح بعض المتهمين وتهريبهم الى الخارج وحصر القضية بدوافع فردية. وقام الوزير الجديد علي يونسي بوضع استراتيجية جديدة ترتكز على القيام بمهمة التحليل السياسي واستكشاف الاخطار المقبلة، وقدم تقرير الى قادة النظام حول الاضطرابات التي حدثت أخيراً في سبع مدن ايرانية صغيرة قام خلالها المواطنون بالسيطرة عليها بصورة عفوية، واعتبر التقرير ذلك مؤشراً أمنياً خطيراً ينذر بتكراره في مدن اخرى وأكبر، مما ترك حال من الخوف والترقب تحسباً من تطور الأحداث وخروجها عن السيطرة. وهناك مؤشرات عن فك الوزارة قبضتها عن المواطنين والكف عن ملاحقة كثير من المعارضين في الداخل، واحترامها للقانون، لكن الصراع الذي يحتدم في داخلها بين المحافظين والاصلاحيين، ومحاولة المرشد والرئيس السيطرة عليها لن يضمنا استمرارها في استراتيجيتها الجديدة، ويهدد بانقسامها على نفسها وقيام بعض مراكز القوى فيها بأعمال مضادة لسياسة الرئيس خاتمي أو الانقلاب عليه.