من خصائص الدولة التي تحدث عنها ابن رشد وسماها "دولة مركبة"، وهي دولة المغرب في عهده والدول العربية والإسلامية قبله وبعده، ان أموالها أموال بيوتات، وانها تعتمد في تحصيل هذه الأموال على التسلط على أموال العامة. هذا ما أبرزه ابن رشد. أما ابن خلدون فيضيف إلى التسلط مصدراً آخر هو "الخدمة: خدمة العامة للسادة. وهذا ما بينه صاحب المقدمة بوضوح في فصل عقده بعنوان "فصل في أن الجاه مفيد للمال"، أي يعطيه. يشرح ابن خلدون سبب ذلك وما يترتب عنه فيقول: "والسبب في ذلك ان صاحب الجاه مخدوم بالأعمال يتقرب بها إليه في سبيل التزلف والحاجة إلى جاهه. فالناس معينون له بأعمالهم في جميع حاجاته من ضروري أو حاجي أو كمالي. فتحصل قيم تلك الأعمال كلها من كسبه. وجميع ما شأنه أن تبذل فيه الأعواض من العمل يستعمل فيها الناس من غير عوض، فتتوفر قيم تلك الأعمال عليه، فهو بين قيم للأعمال يكسبها وقيم أخرى تدعوه الضرورة إلى اخراجها فتتوفر عليه. والأعمال لصاحب الجاه كثيرة فتفيد الغنى لأقرب وقت ويزداد يساراً وثروة". والجاه بهذا المعنى يسري في جسم المجتمع من أعلى إلى أسفل ليس على مستوى الأفراد وحسب، بل وعلى مستوى الطبقات كذلك. وهذا ما يشرحه ابن خلدون قائلاً: "ثم ان كل طبقة من طباق = طبقات أهل العمران من مدينة أو اقليم لها قدرة على من دونها من الطباق، وكل واحد من الطبقة السفلى يستمد بذي الجاه من أهل الطبقة التي فوقه، ويزداد كسبه تصرفاً في من تحت يده على قدر ما يستفيد منه. والجاه على ذلك داخل على الناس في جميع أبواب المعاش، ويتسع ويضيق بحسب الطبقة والطور الذي فيه صاحبه: فإن كان متسعاً كان الكسب الناشئ عنه كذلك، وإن كان ضيقاً قليلاً فمثله. وفاقد الجاه وإن كان له مال فلا يكون يساره إلا بمقدار عمله أو ماله ونسبة سعيه ذاهباً وآيباً في تنميته. فأكثر التجار وأهل الفلاحة في الغالب وأهل الصنائع كذلك إذا فقدوا الجاه واقتصروا على فوائد صنائعهم فإنهم يصيرون إلى الفقر والخصاصة في الأكثر، ولا تسرع إليهم ثروة، وإنما يرمقون العيش ترميقاً ويدافعون ضرورة الفقر مدافعة"1. معنى ذلك ان السلطة والمال في المجتمع المخزني يسيران جنباً إلى جنب وبشكل متداخل، من أعلى إلى أسفل، على صورة هرم مقلوب ملابس لهرم السكان: قاعدة هرم الجاه والمال، حيث يوجد أكبر قدر منهما، ملابسة لقمة هرم السكان، ثم تأخذ تلك القاعدة في الضيق نزولاً إلى قاعدة هرم السكان، حيث تلتصق الأغلبية الساحقة بالأرض حيث لا جاه ولا مال. الجاه هو مصدر الثروة في دولة المخزن، فكيف يتم الحصول عليه؟ يجيب ابن خلدون: بالخضوع والتملق لذوي السلطان. ذلك ان الجاه يبذله من هو فوق لمن هو تحت: "فيكون بذله بيد عالية وعزة، فيحتاج طالبه ومبتغيه إلى خضوع وتملق"2. ويلاحظ ابن خلدون ان هذا الخلق، خلق التملق، يحدث في الدول اضطراباً في المراتب: ذلك أن "كثيراً من السوقة يسعى في التقرب من السلطان بجِدّه ونصحه، ويتزلف إليه بوجوه خدمته، ويستعين على ذلك بعظيم من الخضوع والتملق له ولحاشيته وأهل نسبه، حتى يرسخ قدمه معهم وينظمه السلطان في جملته، فيحصل له بذلك حظ عظيم من السعادة وينتظم في عدد أهل الدولة". ومن هؤلاء يتكون من يسميهم ابن خلدون ب"المصطنعين الذين لا يعتدّون بقديم ولا يذهبون إلى دالة ولا ترَفع، وإنما دابُهم الخضوع له والتملق والاعتمال في غرضه متى ذهب إليه، فيتسع جاههم وتعلو منازلهم وتنصرف إليهم الوجوه والخواطر بما يحصل لهم من قبل السلطان والمكانة عنده"3. خلاصة ما تقدم ان دولة المخزن دولة مركبة "من فضيلة وكرامة وحرية وتغلب" بتعبير ابن رشد، أو من تيموقراطية وأوليغارشية وديموقراطية واستبداد حسب المصطلح اليوناني. أما جوهر العلاقات في مجتمعها فيقوم على مبدأين متلازمين: "الجاه مفيد للمال" بالتسلط أو بالخدمة، و"التملق مفيد للجاه" الذي يولد طبقة المصطنعين، حسب تعبير ابن خلدون. هل يمكن إصلاح هذه الدولة؟ هل يمكن الدفع بالأمور فيها إلى أن تصير "الفضيلة" فيها مهيمنة؟ لنطلب الجواب مرة أخرى من ابن خلدون وابن رشد! أما ابن خلدون فقد استقى جوابه من استقراء تاريخ الأقطار الإسلامية إلى عهده، وبالخصوص منها أقطار المغرب العربي، مفضلاً التقيد بما تعطيه "الأخبار عن الواقعات" المتسقة مع "طبائع العمران"، متجنباً الخوض في ما ينبغي أن يكون، سواء كان ذلك مما يتصوره الفلاسفة "على جهة الفرض والتقدير"، أو مما يسعى إليه صاحب الدعوة الدينية. هو يقرر ان القوة المحركة للتاريخ هي العصبية. وأنه على الرغم من "ان الدولة العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق"، فإن "الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم"، و"ان من طبيعة الملك الانفراد بالمجد" والجنوح إلى "الترف والدعة والسكون". وأنه "إذا استحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم"، و"ان الدولة لها أعمار طبيعية كالأشخاص"4، و"ان الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع"5. ومع هذا التسلسل الحتمي الذي ينتهي بالدولة إلى الهرم والسقوط والذي لا يترك مجالاً للتفكير في أي اصلاح، فإن صاحب المقدمة لا يستبعد ان "تستجد الدولة عمراً آخر سالماً من الهرم"، وذلك ب"ان يتخير صاحب الدولة أنصاراً أو شيعة" من غير أهله وقبيلته "ممن تعوّد الخشونة"، أي من غير أولئك الذين حصل بهم الانفراد بالمجد والترف والدعة والذين جروا الدولة نحو الهرم. ويستشهد ابن خلدون لإمكانية حصول هذا التجدد في الدولة، رغم بلوغها مرحلة الهرم، بالسياسة التي كانت تسلكها "دولة الموحدين بافريقية، فإن صاحبها كثيراً ما يتخذ أجناده من زناتة والعرب ويستكثر منهم ويترك أهل الدولة المتعودين للترف، فتستجد الدولة بذلك عمراً آخر سالماً من الهرم"6. هل يتعلق الأمر بممارسة مبكرة ل"التناوب"؟ ومع ذلك، فإن هذا العمر الذي تضيفه الدولة إلى عمرها الأصلي لا يحول دون وقوع الدولة، في نهاية المطاف، في "المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص منه ولا يكون لها منه برء إلى ان تنقرض"7. إن افق تفكير ابن خلدون تحكمه حتمية الهرم، لأن هرم "الدولة" في نظره طبيعة من "طبائع العمران"، وبالتالي ف"التناوب" الذي ذكره ابن خلدون قد يضيف إلى الدولة عمراً آخر، ولكنه لا يقيها من الهرم المحتوم. هل يوافق ابن رشد على هذا الرأي؟ هل يقول بحتمية الهرم؟ لا، ان فيلسوف قرطبة يرى ان الاصلاح ممكن والمدينة الفاضلة ممكنة، ولكن بشروط! وفي ما يلي موجز لوجهة نظره. عندما انتهى ابن رشد من عرض آراء أفلاطون في تحول أنظمة الحكم على التعاقب، من الارستقراطية حكومة الأخيار إلى التيموقراطية إلى الاوليغارشية إلى الديموقراطية إلى الطغيان، نبه إلى أن هذا التعاقب ليس ضرورياً ولا حتمياً، لأن الأمر يتعلق بالشؤون الإنسانية، وهي كما يقول: "إرادية كلياً"، أي أعمال يأتيها البشر بإرادتهم وتتدخل فيها السنن القائمة كالتربية والسياسة والتشريعات. ومن هنا كان "تحول الإنسان من خلق إلى خلق" لا يحصل ضرورة وبالحتم، كما تحدث التحولات في الطبيعة، و"إنما يكون تابعاً لتحول السنن ومرتباً على ترتيبها"8. ويرد ابن رشد على الاعتراض القائل إن قيام المدينة الفاضلة كما تصورها أفلاطون، يتطلب ان يكون الحكام فلاسفة، وهؤلاء يندر وجودهم. وإذا وجدوا، كما كان الحال زمن أفلاطون نفسه، فالناس في الغالب لا يأتمرون بأمرهم ولا يتخذونهم قدوة، ثم ان متعاطي الفلسفة انفسهم كثيراً ما يفتقدون الصفات التي تؤهلهم لقيادة المدينة الفاضلة، والنتيجة من كل ذلك استحالة قيام هذه المدينة! يرد ابن رشد على هذا الاعتراض بالقول: "والجواب هو أنه يمكن أن نربي أناساً بهذه الصفات الطبيعية التي وصفناهم بها، ومع ذلك ينشأون وقد اختاروا الناموس العام المشترك الذي لا مناص لأمة من هذه الأمم من اختياره، وتكون مع ذلك شريعتهم الخاصة بهم غير مخالفة للشرائع الإنسانية، وتكون الفلسفة قد بلغت على عهدهم غايتها. وذلك كما هو الحال في زماننا هذا وفي ملتنا هذه، فإذا اتفق لمثل هؤلاء ان يكونوا أصحاب حكومة حكم، وذلك في زمان لا ينقطع، صار ممكناً أن توجد هذه المدينة" الفاضلة9. على أن الطريق إلى المدينة الفاضلة ليست واحدة في نظر ابن رشد: هو يرى أنها "قد تنشأ على غير هذا الوجه" الذي رسمه أفلاطون. ويضيف فيلسوف قرطبة: "غير أن ذلك يكون في زمن طويل: وذلك بأن يتعاقب على هذه المدن وفي أزمان طويلة ملوك فضلاء، فلا يزالون يرعون هذه المدن ويؤثرون فيها قليلاً قليلاً إلى أن تبلغ في نهاية الأمر ان تصير على أفضل تدبير". ويضيف ابن رشد قائلاً: "وتحول هذه المدن غير الفاضلة نحو ان تصير فاضلة، يكون بشيئين اثنين، أعني بالفعال والآراء، ويزيد هذا، قليلاً أو كثيراً، تبعاً لما تجري به النواميس القائمة في وقت ما وتبعاً لقربها من هذه المدينة الفاضلة أو بعدها عنها". ثم يضيف قائلاً: "وبالجملة فتحولها إلى مدينة فاضلة أقرب إلى أن يكون في هذا الزمان بالأعمال الصالحة منه بالآراء الحسنة، وأنت تلمس ذلك في مدننا"10. خلاصات أربع نخرج بها من ملاحظات فيلسوفنا: 1- إن بقاء دولة المخزن على ما هي عليه من الاستبداد أو دخولها في مرحلة الهرم ليس أمراً حتمياً. فالاصلاح ممكن لأن الشؤون الإنسانية "إرادية كلياً". وبعبارة معاصرة: الاصلاح مسألة إرادة، وبالتالي فهو لا يحتاج إلا إلى قرار سياسي. 2- لا بد لكي ينجح الاصلاح من اختيارات محددة لا تتناقض مع "الناموس العام" الذي اختارته الأمة، وفي الوقت نفسه لا تكون "مخالفة للشرائع الإنسانية". ولا بد من "أن تكون الفلسفة قد بلغت غايتها"، وبلغة عصرنا لا بد من دستور غير مخالف ل"الشريعة الإنسانية"، والشرائع الإنسانية اليوم تتلخص في كلمة واحدة هي "الديموقراطية"، ولا بد من "فلسفة" أي من فكر مستنير يحل محل العقلية المخزنية والسلوك المخزني. 3- إن الآراء الحسنة والتصريحات المنعشة وحدها لا تكفي في الإصلاح، بل لا بد أن تقرن بالأعمال الصالحة. 4- لا بد من تعاقب "حكومات أخيار" يرعون الاصلاح ويواصلونه إلى أن يصير الأمر على "أفضل تدبير". هل ينبغي لي إضافة شيء آخر؟ سأقتصر على تقرير ما يلي: الانتقال إلى الديموقراطية في المغرب يعني مواجهة الحتمية الخلدونية بالمشروع الرشدي. ولكن كيف؟ إنه السؤال الثالث من أسئلتنا الرئيسية 1- ابن خلدون. المقدمة. المعطيات السابقة نفسها. ج3، ص 907-910. 2- ابن خلدون. نفسه ج3 ص 911. 3- نفسه ص 913. 4- المقدمة ص 461-488. 5- نفسه ج3 ص 692. 6- نفسه ج2 ص 485. 7- نفسه 496. 8- ابن رشد. نفسه ص 203-204. 9- نفسه ص 139. 10- نفسه ص 164.