لم يكتب ابن رشد في السياسة، وحرص على حصر نشاطه في مهنته طبيب وقاضي شرع إضافة الى المهمة التي كلفه بها أمير الموحدين وهي شرح أفكار ارسطو وتوضيح ملابساتها، وقام بها على أكمل وجه. وعلى رغم ذلك لم يفلت من تهم سياسية أدين بها خلال امتحانه في مجلس الأمير المنصور قبل نكبته. الكتاب السياسي الوحيد الذي اشتغل عليه فيلسوف الأندلس كان "الجمهورية" لأفلاطون، بينما تركزت جهوده الفلسفية الأخرى على شرح أرسطو. والسبب الذي دفعه الى مراجعة أفلاطون هو عدم حصوله على كتاب ارسطو في السياسة لعدم توافر نسخة منه بالعربية فاستعاض عنه بكتاب أفلاطون المعروف جداً في الأوساط الاسلامية خصوصاً في الحلقات الضيقة التي تتعاطئ شؤون الفلسفة. واعتمد ابن رشد على ترجمات مختلفة لكتاب الجمهورية واستند على تعليقات وشروحات الفارابي في كتابيه "المدينة الفاضلة" و"السياسة المدنية" وآراء ابن باجه الاندلسي حول "المدينة الكاملة". وتجنب قاضي قرطبة الخوض في تفاصيل "جمهورية" افلاطون وانتقى بعض المقالات منه وتحاشى الأخرى بذريعة أنها تتعاطى السياسة في جانبيها الخطابي والجدلي، وتركز انتباهه على الجانب البرهاني العقلي من فكر افلاطون. الى اهماله بعض الفصول بذريعة أنها بعيدة عن حقل العلم النظري، حاول الرد بمخالفة آراء افلاطون المتطرفة تاركاً السياسة العامة لأهلها لأنه يرى في السياسة مجرد أفكار تتعلق بالعلم العملي العامة. وهو من المشتغلين في العلم النظري. فالعلوم النظرية بنظره أرقى من العلوم العملية. فالأولى من شؤون الخاصة العلماء والحكماء بينما تستهوي الأخيرة العامة. ولم يشفع تهرب ابن رشد من الخوض في السياسة من دفع ثمن اشتغاله على هذا الكتاب. ويرجح محمد عابد الجابري ان "تلخيص السياسة" المعروف أيضاً بپ"جوامع السياسة" كان من بين العوامل التي أدت الى نكبته. ويرى شروح الجمهورية هي الأخيرة في أعماله وأصدرها في سنة 590 هجرية قبل فترة وجيزة من نكبته. بينما يرجح مترجم الكتاب عن الانكليزية حسن مجيد العبيدي انه اصدره قبل فترة طويلة من نكبته بتكليف من والد الأمير المنصور ولا علاقة لنكبته بموضوع الكتاب. إلا انه يوافق الجابري على خطورة مواضعيه السياسية ويرجح ان تكون لنكبته صلة به لكنها صلة بعيدة وليست قريبة في اعتبار ان الكتاب انتشر في سنة 572 هجرية. يذكر مترجم الكتاب في مقدمته الطويلة ان ابن رشد جعل من افلاطون "غطاء يتخفى تحته في تفسيره لصيرورة وحركة التاريخ الاسلامي سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، ولأسباب تبدل الوضع السياسي وظهور الثورات في هذه المدن الاسلامية" ص 36. اذ جاءت افكاره الفلسفية "في فلسفة التاريخ" تعين ابن خلدون لاحقاً في كتابة مقدمته الذي ورد فيه كلامه "عن الاطوار في تبدل الدول أو قيامها وانهيارها" ص 36 خصوصاً في اشاراته حول دولة المرابطين ومراحل من دولة الموحدين. ماذا يقول ابن رشد عن الكتاب وغايته السياسية؟ يعتبر ان غاية العلم السياسي "هو العمل أو الفعل فحسب، مع ان اقسامه المتفرعة عنه - يختلف احدها عن الآخر بالترتيب وفي درجة مناقشته لهذا الفعل" ص 65. ويشير الى ان "الانسان بطبعه يحتاج الى معونة الآخرين في اكتساب فضائله، ولهذا صح القول: ان الانسان كائن مدني بالطبع". وهذا يشترك فيه "الانسان مع الحيوانات الى حد ما، مثل الحصول على الطعام واللباس والمأوى". وتتم عملية الحصول على الحاجات بطرق مختلفة وانه "لمن المستحيل على الانسان بمفرده ان يوفر كل متطلبات عيشه" ص 68. لذلك لا بد من الاجتماع اذ يعضد كل واحد الآخر من أجل "بلوغ الكمال اقصاه، فيعضد الأكمل منهم الأنقص لبلوغ كماله الخاص به، والأنقص كمالاً يتبع الأكمل كوسيلة لتهيئة كماله". ولهذا ستكون المدينة الدولة فاضلة "بسبب القوة النظرية التأملية التي تتحكم في باقي القوى الاخرى" ص 70. وبرأيه ان افلاطون أكد في جمهوريته على ان "طبقة الفلاسفة هي الطبقة الحاكمة" لأنها بالضبط تمارس العقلية التأملية النظرية. فالعدالة في مدينة ابن رشد تقوم "على خضوع كل جزء من أجزاء النفس للعقل" ص71 فعلى الحكماء كما يشير افلاطون الأخذ على عاتقهم "سياسة المدن وادارتها" ص73. وطرق التعليم في مدينة ابن رشد تقوم على نمطين الأول الاقناع وهو للجمهور من طريق الاقاويل الخطابية والشعرية، والثاني تعلم العلوم النظرية التأملية وهو للخواص ص74. أما الامم التي هي غير فاضلة في دساتيرها فلا توجد طريقة لتعليمها سوى "إكراههم على الأخذ بالفضيلة عن طريق الحرب" ص76. ويظهر هنا مدى تأثر قاضي قرطبة برأي افلاطون في نظرية الخير والشر. فالالهة عند فيلسوف اليونان الخير المطلق وهي لا تقوم بالحروب. وبسبب نظرية الخير المطلق مقابل الشر المطلق حدد افلاطون موقفه من الشعر خصوصاً الياذة هوميروس. ففي جمهوريته يمنع بعض أنواع من الشعر كذلك يحرم تداول النصوص الشعرية التي تتحدث عن "حروب الالهة" التي رواها هوميروس شعراً في الياذته. فالالهة عند أفلاطون لا يصدر عنها سوى الخير. ويحاكي ابن رشد موقف افلاطون من الشعر حين يطالب بمنع بعض أنواع من الشعر العربي الذي يدعو للرذيلة وغيرها. ويقلده أيضاً في قوله بمعادلة الخير والشر. فالشر هو من فعل ابليس أو الشيطان لذلك يحذر من تداول بعض الشعر بسبب تأثيره السلبي على سلوك الصبيان وتربيتهم. ثم يكرر رده على علماء الكلام في نظرتهم الى الشريعة وقولهم "بأن إرادة الله مطلقة غير مقيدة، وأنه كل يوم في شأن، وبالتالي فإن القول عن شيء انه حسن أو قبيح أمر افتراضي، وأكثر من ذلك، انه لا توجد لدى الانسان غاية إلا عن طريق الفرض" ص 149. وعلى هذه القاعدة يطالب ابن رشد في مدينته دولته ان تحذف الاشعار والقصائد "التي تحذو حذو عادات العرب في وصف هذه الأشياء ومحاكاة الأشياء المشابهة لها" ص 92. ويقصد بالأشياء تلك التي وصفها افلاطون في جمهوريته مثل ان يفعل الرجال الاتقياء "أفعال النساء اللواتي يصرخن أثناء الوضع" أو "النساء المنغمسات في العويل والنواح والرثاء". فالرجال الاتقياء يجب أن يكونوا للحكم وحتى يكونوا مؤهلين للقيام بهذه المهمة لا بد لهم من الاتصاف بخصال الشجاعة والابتعاد عن الدناءة والرذائل وعدم السماح لهم "بمحاكاة الخدم أو العبيد، أو محاكاة السكارى والمدمنين". كذلك يجب أن يبتعدوا عن أعمال الصنّاع والحرفيين "مثل الدباغين أو الاسكافيين أو الخزافين أو ما يماثلهم". ويطالب ان لا يسمح للشعراء في مدينته بمحاكاة الأشياء الدنيئة "كما هو شأن القصائد العربية التي وجودها في هذه المدينة غير ضروري" ويسمح لهم "بوصف فضائل النساء وتعففهن" ص 92. ويكرر موقف صاحب الجمهورية من الألحان وصناعة الموسيقى ومنع استخدام بعض الآلات مثل "الدّف" ص 94. كذلك يتبنى معظم أقوال افلاطون في الرياضة والتدريب وصولاً الى تحديد الأطعمة والأشربة وأنواع الأكل لأن الافراط "في الطعام والشراب والموسيقى، وكذلك التفريط فيها، إذا ما حدث في المدينة، فإنه سيولد الحاجة الى القضاء والطب" ص 97 ففي مدينة ابن رشد جمهورية افلاطون لا حاجة "لهاتين الصناعتين، الطب والقضاء، وأنه لا يوجد طبيب أو قاض بأي شكل من الأشكال" لأنه إذا "تم تحديد نوع الطعام وكميته وفق غايات مرسومة" فإن أعضاء المدينة الدولة لن يحتاجوا الى العديد من الأدوية "التي استعملت قديماً وتستعمل في زماننا" ص 98. ويكرر ابن رشد كلام الفيلسوف ابن باجه الذي ذهب الى تبني المثاليات نفسها في مدينته الكاملة استناداً الى كتابات افلاطون وما قاله الفارابي في المدينة الفاضلة. ويفلسف ابن رشد موقفه المذكور بالقول: "والسبب هو أنه إذا ما اختفت الغاية القصوى لأي شيء موجود، فإنه لا يوجد تعارض بين وجوده وعدمه" ص 99. ويتطرف في موقفه الى حد أنه يخير ابن مدينته دولته في حال عجزه على "أداء العمل الذي يتقن" فمن الأحسن له الموت لأن الموت "سيكون أفضل له من أن يعيش" ويعطى مثال سقراط على قوله اذ "فضل الموت على الحياة عندما وجد أنه من المحال أن يعيش حياته المعتادة" ص 99 ويتوقف ابن رشد عند هذه النقطة ويفكر فيها اسلامياً. فالدين يحرّم قتل النفس، لذلك يعيد النظر بالمسألة ولا يتساهل في الأمر. وبعد المراجعة يصل الى قناعة أنه لا بد من وجود طبيب يساعد على معالجة المرضى "لأنه سيوصف العلاجات النافعة ويميز العلل المستديمة من غيرها" ص 100. كذلك يراجع موضوع القضاء من موقع اسلامي. فالقاضي "مطلوب ايضاً ليهتم بتقويم من هو ذو طبع شرير ولا يقبل الانصلاح" وشرطه ان لا يكون القاضي خالط الشر ويقترح ان يكون "كبير السن" ص 101. وهكذا يوافق على وجود الطبيب والقاضي بشروط وضمن مواصفات وخصال وفضائل محددة. فقاضي قرطبة يميز بين الواقع الانساني وقدرات البشر على التحمل لكنه يصرّ على نظرية "الشاب الكامل الخصال" الذي تقوم الدولة بتربيته على حراسة المدينة منذ صغره باشراف الفلاسفة وهم حكام المدينة. ويفترض في الفلاسفة ان تتوافر فيهم "الى جانب الحكمة كل الفضائل الخلقية وغيرها من فضائل" ص 102. يتبنى ابن رشد نظريات افلاطون مع بعض التردد في الجوانب التي تتعارض مع جوهر الشريعة الاسلامية خصوصاً تلك المتعلقة بالتقسيم الاجتماعي للمهن وتوزيع مهمات الطبقات بتراتب هرمي وحصر ابناء مهنة معينة بمنتهم ومنعهم من الانتقال من مهنة الى أخرى. ويطلق ابن رشد على توارث المهن التناسل الطبقي أي "ان كل طبقة تتناسل ضمن طبقتها الخاصة بها" فالحراس يتناسلون ضمن طبقتهم كذلك طبقة الفلاحين "لأنهم معدون لعملهم الخاص بهم بالطبع". ويتحفظ على هذا الرأي ويرى فيه بعض "تناقض في القول" لأنه من أسباب فناء المدينة الدولة وهلاكها "ان يكون شخص ما يقوم بالعمل فيها وهو غير راغب فيه بطبيعته" ص 102. وبالتالي يميل، رغم تأييده نظرية توارث المهن طبقياً، الى عدم اجبار ابن طبقة على مزاولة مهنة لا يريدها. كذلك يعارض افلاطون في مسألة امتيازات حراس الجمهورية المدينة اذ من غير الجائز "ان نضفي على الحراس امتيازات مطلقة تبعدهم عن واجباتهم، لأنهم سيظنون ان المال والثورة فضيلة بطبعهما" ص 107. كذلك يعارضه في مسألة التبادل الشراء والبيع فهو يرى انها نقطة ضرورية لبقاء المدينة وتماسكها وبالتالي لا بد من نقود فضة وذهب وإلا لن يحصل التبادل في حال انتفت الحاجة و"عندها لا بد من وجود شيء ما لاجراء التبادل" ص 108. ويخلط في كلامه رأيه بأفكار افلاطون، فهو يقوم بدور عارض آراء غيره يقول افلاطون ثم ينتقل الى لعب دور الشارح ثم ينتقي في النهاية فكرته من دون توضيح ويكتفي أحياناً بمقابلة الآراء ولا يتوصل الى خلاصة نقدية حاسمة تميز خطوط تفكيره عن مفاهيم غيره. فهو يتحدث، مثلاً، عن فائض الانتاج وكيف يتم تخزينه في مستودعات خاصة بالمدينة "لكي يوزعوها بين الناس كل حسب احتياجه منها ومن أي نوع" ص 109 ثم يتحدث عن التبادل البضاعي والتبادل النقدي. ويفترض قانون التبادل تبادل الحاجات من دون توسط النقود ان يستمر عدد العاملين في مهنة محددة من دون تغير لأن الزيادة تعني زيادة الانتاج وحصول فائض في سلعة معينة على الحاجة فيتعطل توازن السوق. ويحدث أحياناً "ان يكون هناك في زمان واحد قلة من بعض الأشياء، في حين تحدث وفرة في زمان آخر" ص 106. ولا يعالج ابن رشد هذا الخلل وكيفية السيطرة على قوانين السوق ويتركها لينتقل الى مسألة أخرى وكأن وظيفته هي النقل وعرض آراء افلاطون اكثر مما هي قراءة نقدية في أفكار الجمهورية. فقاضي قرطبة لا يتدخل إلا في الحدود المتاحة ويستنجد كثيراً بارسطو لاعادة تقدير موقف او تركيز فكرة يبدو انه غير مقتنع بها خصوصاً عندما يتطرف افلاطون في أفكاره ويتجه الى نوع من "المشاعية" في العلاقات البشرية او التبادل الاقتصادي او استخدام النقد او تصريف الفائض عند وفرة الانتاج او تأمين الناقص، عند انخفاض الموارد او حصول حرب. فافلاطون يستبعد حصول حرب مع المدن المجاورة الدول لكن ابن رشد يعلق على رأي افلاطون ويتهمه بالتردد والشك، خصوصاً عندما بحث المسألة و"أصبح لديه اقتناع بأن الأمر يكون على خلاف ما اعتقده تماماً" ص 110. ويطرح استناداً الى تقسيم افلاطون انواع المدن الى غنية وفقيرة وتضاد مصالح الفئتين وبرأيه ان الجماعات الفقيرة "التي سكنت في الصحراء من أهل الوبر، وملكت الجمال القليلة، انها قادرة على ان تقهر وبسرعة الجماعات والمدن الغنية المسالمة والسلمية، مثلما فعل العرب في مُلكِ فارس" ص 110. ويضع قاضي قرطبة ملاحظة تنبه القارئ الى ان تلك المدينة التي يتم الحديث عنها غير موجودة إذ "لا توجد هناك مدينة واحدة تُدعى مدينة فاضلة سوى تلك المدينة التي نريد القيام بتأسيسها وتنظيمها" ص 111. فالمدينة الفاضلة غير موجودة والآراء حولها مجرد أفكار عامة لنموذج مفترض في المستقبل بينما يضم الحاضر المدن المتعددة والمختلفة حتى لو كانت "المدينة فيها تُدعى مدينة واحدة". فالمدينة المرجوة التي "ننوي انشاءها وتنظيمها مدينة عظيمة جداً بحد ذاتها، وتملك حكومة عظيمة، وإن كان لا يوجد فيها أكثر من ألف مقاتل" لكن هؤلاء المحاربين أقوياء و"يغلبون ألفين" ص 112. ويقترح ابن رشد، بناء على فرضيات افلاطون، ان لا تكون مساحة المدينة كبيرة جداً "فلا نستطيع تلبية حاجاتها من الغذاء وما شابه ذلك" كذلك يجب ان لا تكون مساحتها بالضرورة صغيرة جداً "حتى لا يتم التغلب عليها من قبل المدن المجاورة" ص 112. وتختلف مساحة المدينة وشروط قيامها "بحسب الزمان والمكان ناهيك عن الأمم من المجاورة لنا". ويربط المساحة بالأمن ومن ناحية القدرة "على الحكم السياسي" ويستنتج فرضية تقول "ان الحقائق المستمدة من التجربة تضعف ما لم تكن لها صلة بالواقع" ص 113. فابن رشد متردد بين الكلام المجرد عن مدينة مفترضة وبين واقع مغاير ومختلف في زمانه ومكانه لذلك فهو يشرح أفكار افلاطون ويعارضها بخجل مستخدماً ارسطو في أكثر الحالات وجالينوس في حالات محددة. وأحياناً يعلق على أفكار افلاطون عندما لا يريد مجاراته الى النهاية خوفاً من انقطاع حبل الاتصال بين الشريعة والحكمة. لذلك يعلق النقاش على موضوع مساحة المدينة لأنه "لمن الملائم لكل واحد من هذه الأمم، أي لكل أمة بمفردها، ان تكون لها مساحة محدودة" أخذاً في الاعتبار اختلاف البشر وطبائعهم واختلاف المناخ اذ ان للمناخ اثره في تحديد "الفروق بين طباع البشر وألوانهم"ص113. ويضع ابن رشد الملاحظات الخلافية نفسها على مسائل التشريعات والدساتير والقوانين ويبدو عليه التردد والحذر في أخذ أفكار أفلاطون اذ برأيه ليس "من الصحيح تشريع الدساتير الجزئية في مثل هذه الحالات، كما لا يجب فعل ذلك". واذا وضعت الدساتير العامة بصورة ثابتة فإن الأمر "يعود الى أهل المدينة" لأن الانسان ينجذب الى "ما تمليه عليه تربيته وتهذيبه وميوله الخاصة"ص114. ويجب على من يريد وضع هذه الدساتير الجزئية "ان يستمر معظم حياته الدنيا في تحسين جوهر هؤلاء الناس". ويحبذ لتدارك الخلل ان توضع أولاً "الدساتير العامة" وبعدها يتم استخلاص الدساتير الجزئية. ويحاول عندما يصل الى مفهوم العدل في جمهورية افلاطون شرح موقفه باعادة تذكير القارئ بمجمل المواقف المتعلقة بالفضائل والشجاعة والحكمة والعلوم والدستور والمشورة والصناعات العملية الفلاحة والتجارة ومعرفة الغاية الانسانية. فالمدينة يجب ان تملك العلوم النظرية والعملية معاً والفئة التي تملك الحكمة تكون عادة قليلة العدد وأفرادها هم الفلاسفة وطباعهم مختلفة عن طباع من يمتلك الصناعات العملية. ويخالف افلاطون عندما يتحدث عن العفة والعدالة فبرأيه ان فضيلة العفة غير قاصرة على فئة واحدة من الناس "بل هي عامة للجميع من حكام وجمهور". ويجب ان تكون ممتدة في المدينة الدولة كلها "لأنها تبعث على الوفاق بين أهلها" وتقصي "ما هو مضاد لذلك"ص119. بعدها يدخل الى مسألة العدالة "التي تمنح البقاء والديمومة للمدينة ما دامت قائمة فيها" وتوصف المدينة بالعادلة "عندما يكون فيها أناس عادلون، لأن العدالة موجودة في كل فرد من أفرادها". ويطلق على هذا النوع من العدل "العدالة السياسية"ص119. فالظلم يرتكب في المدن التي تنتفي فيها العدالة. ويخلط القاضي التائه رأيه بأفكار أفلاطون ونجد صعوبة في معرفة ما يريد من خلال تلخيصه لكتاب الجمهورية، فهل هو يوافق ام يعارض أو يعرض آراء. فالمسائل مبهمة وغير واضحة. فأفلاطون مثلاً يرى ان انهيار المدينة يبدأ عندما ينشأ كل واحد من أفرادها "على أكثر من صناعة أو حرفة واحدة، وينتقل من حرفة الى اخرى ومن طبقة الى اخرى".ص120. ولا يظهر القاضي المتردد بين عقيدته ومطالعاته انه يعارض أو يوافق ويكتفي بالتعليق و"هكذا يتضح من هذا القول في ماهية العدالة انها شيء موجود في كل اجزاء المدينة". وينتقل فوراً الى بحث وجود العدالة في الفرد إذ ان المطلوب هو "العدالة والمساواة في نفس الفرد يجب ان تكونا هما نفسهما في المدينة"ص120. ويستعرض نظرياته حول القوى الثلاث الموجودة في النفس الفرد وتتوزع الى عاقلة وناطقة وغاضبة وهي "موجودة في المدينة" وما التوافق والعدالة في نفس الفرد الا "ذاتهما التوافق والعدالة في المدينة"ص122. ويحصل التعدي والظلم عندما تنتفي هذه الصفات في المدينة فتتحول من "فاضلة" الى "جاهلة". ولهذا السبب يرى ان "المدينة الفاضلة" واحدة "بينما المدن الجاهلة عديدة ومتنوعة"ص123. والمدن الفاضلة تقوم على نمطين من الحكم ملكي و"يقوم رجل واحد على رئاستها" وارستقراطي ويقوم عليه "أكثر من رئيس"ص123. ويأتي على توزيع العمل والوظائف بين الرجل والمرأة في المدينة الفاضلة وينفرد ابن رشد برأيه ويتوسع فيه باستقلال عن هيمنة افلاطون ويرى ان النساء "متساويات مع الرجال بالنوع ومختلفات معهم بالدرجة فقط". فالنساء من كل الطبقات "متساويات مع الرجال في ما يعني كل فعل وأمر". ولا نعدم ان نجد بينهن "محاربات وحكيمات وحاكمات وما شابه ذلك".. وسوف يمارسن في مدينته "أعمال الرجال عينها سوى تلك التي لا يقدرون عليها". فالنساء يتشاركن والرجال في المهن "سوى انهن أضعف في ذلك، وان كنَّ في بعض الفنون أكثر كفاءة من الرجال مثل فن النسيج والحياكة وغير ذلك"ص124. وينعطف ابن رشد في بحثه ويخرج على نص أفلاطون ويبدأ بمقارنة وضع المرأة في زمنه وتصور الاسلام عن المرأة ودورها. وينتقد الآراء الشائعة في زمنه عن المرأة التي لا تجد فيها سوى "نباتات" ومخصصة للانجاب والرضاعة والعناية بالولد واحياناً "عالة على الرجال"126. ويعارض فكرة افلاطون عن مشاعية المرأة ويرفض ان تكون النسوة مشاعاً لكل الرجال، انطلاقاً من الشريعة الاسلامية التي تصون حرمة المرأة والرجل وتحدد العلاقات ضمن قوانين واضحة. لأن المشاع في مسألة تعني أيضاً قبول المشاع في موضوع الأطفال وتربية الأولاد وأخيراً الموافقة على تفكيك الأسرة وغيرها من شؤون حياتية. وينبه ابن رشد القارئ الى ان أفلاطون في مقالاته حول التربية والتعليم والانجاب والحرب وكيفية الجمع بين الواحد والآخر لم يضعها لكل أهل المدينة و"انما حصرها فقط بالحراس"ص136. بينما عالج أسلوب التربية للفئات الأخرى بوسائل مختلفة.