لقد اهتم ابن خلدون بالفلسفة السياسية ولكنه لم يجد فيها بغيته كمؤرخ يبحث عن "معيار صحيح" ترجع إليه الأخبار عن الواقعات للتمييز فيها بين الصادق والكاذب، بين ما تقبله "طبائع العمران" وما لا تقبله، ولذلك قرر أن ينشئ هذا "المعيار" فابتكره ابتكاراً وسماه "علم العمران"، وموضوعه دراسة "العمران البشري"، كما هو في الواقع وليس كما ينبغي أن يكون. لم يكن ابن خلدون من دعاة الاصلاح وإنما كان يرى أن للعمران طبائع في أحواله، بمعنى ان التغيير إذا حدث في المجتمع والسياسة فهو يحدث بفعل "قوانين" ونمط من التطور لا فكاك منه. وهذا يعني ان التاريخ في نظره لا يسير وفق رغبات الناس وإنما يسير وفق مسلسل من الأحداث تتحكم فيها عوامل موضوعية مستقلة عن إرادة البشر. وفي مقدمة هذه العوامل: "العصبية"، أي القوة القبلية، فهي صانعة الأحداث والمحركة للتاريخ. وحركة التاريخ الذي تحركه العصبية - تتم في نظره على الشكل التالي: العصبية "تجري نحو غاية هي الملك"، والملك ينتهي إلى الترف والانفراد بالمجد، وهذان ينتهيان به إلى الهرم ولا بد، فتسقط الدولة تحت ضربات عصبية جديدة مطالبة تبدأ دورة جديدة وتلاقي هي الأخرى المصير نفسه، وهكذا... لقد أعرض ابن خلدون، إذاً، عن فكرة "المدينة الفاضلة" التي قال بها الفلاسفة، وأفلاطون بالذات، لكونها كما يقول "نادرة أو بعيدة الوقوع وإنما يتكلمون عليها على جهة الفرض والتقدير". إن "المدن" أو الدول - والمعنى واحد - إنما تنشأ بالعصبية كما قلنا. أما "السياسات" التي تتبعها الدول فهي عنده أساليب في الحكم والتسيير وليست وسيلة للحصول على الحكم أو لإنشاء ممالك ودول. والسياسات التي عرفها التاريخ الواقعي، والتي يسوس الحكام الناس بمقتضاها، هي في نظره صنفان: صنف يستند "إلى شرع من الله يوجب انقيادهم إليه ايمانهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلغه"، وصنف يستند إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم". وهذه، يعني السياسة العقلية، "تكون على وجهين: أحدهما يُراعى فيها المصالح على العموم ومصالح السلطان في استقامة ملكه على الخصوص، وهذه كانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة... الوجه الثاني أن يُراعى فيها مصلحة السلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة وتكون المصالح العامة في هذه تبعاً". ويضيف ابن خلدون قائلاً: "وهذه السياسة العقلية التي يحمل عليها أهل الاجتماع هي لسائر الملوك في العالم من مسلم وكافر. إلا أن ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم، فقوانينها إذاً مجتمعة من أحكام شرعية، وآداب خلقية، وقوانين في الاجتماع طبيعية، وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية"1. هكذا يلتقي ابن خلدون مع ابن رشد في وصف طبيعة نظام الحكم في المغرب، بل في الأقطار الإسلامية كلها بعد الخلافة الراشدة، بكونه نظاماً مركباً: ابن رشد يقرر بلغته واصطلاحه كفيلسوف ان السياسة في المغرب - يعني نظام الحكم - "إذا تؤملت توجد مركبة من فضيلة وكرامة وحرية وتغلب". أما ابن خلدون فيقول عنها بلغة علم العمران الذي شيده إن "قوانينها مجتمعة من أحكام شرعية وآداب خلقية وقوانين في الاجتماع طبيعية وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية". هل من اسم يجمع هذه الأوصاف الرشدية - الخلدونية في كلمة واحدة؟ بعبارة أخرى: كيف نسمي هذا النوع من الحكم المركب المختلط؟ لنسمه بالاسم الذي تسمى به الدولة في المغرب، تاريخياً - على الأقل منذ زمن ابن رشد - أعني: "المخزن"! وإذا كان هذا اللفظ قد استعمل في البداية كاسم مكان للمحل الذي تخزن فيه أمتعة الدولة من مؤن وغيرها، فإنه سرعان ما صار منذ زمن عبدالمؤمن، مؤسس الدولة الموحدية، علَما على صاحب ذلك المخزن، أعني الدولة نفسها. وقد تكرس هذا الاستعمال زمن ابن خلدون، على عهد المرينيين، إذ صار المخزن يعني الدولة ليس فقط كجامعة للثروة وجابية للضرائب، بل أيضاً كصاحبة السلطة القهرية، سلطة "المخازني"، أعني الشرطي الذي يجمع بين الحال المدنية والحال العسكرية، والذي ما زال كثير منا يستحضر صورته ودوره في القرية المغربية خاصة! ومعلوم ان المناطق التي لم تكن تمارس فيها سلطة هذا "المخازني"، وبالتالي لا تجبى منها الضرائب، كانت تسمى - على الأقل في القرن الماضي وإلى أوائل هذا القرن - "بلاد السيبة"، في مقابل بلاد المخزن. "السيبة" من التسيب هي وضعية اللادولة، حيث السلطة لشيوخ القبائل، وهي أشبه ب"المدينة الجماعية" أو "مدينة الحرية" التي ترجمت بها "الديموقراطية" بالمفهوم اليوناني في الأدبيات السياسية القديمة. هل "السيبة" حاضرة في هذه القائمة؟ نعم، هي حاضرة في قائمة ابن رشد من خلال عنصر "الحرية"، إذ المقصود منها "المدينة الجماعية" التي لا تخضع لسلطة المخزن وقوانينه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يمكن ان نجد للسيبة مكاناً في عبارة ابن خلدون "أشياء من مراعاة الشوكة والعصبية". ولكن هل ينطبق ذلك على مغرب اليوم؟ أعني هل ما زالت "السيبة" عنصراً من مكوناته؟ قد يتحفظ المرء عن إضافة هذا العنصر إلى مغرب اليوم، باعتبار ان جميع مناطق المغرب تقع تحت سلطة الدولة/ المخزن. ولكن إذا فهمنا من "السيبة" مضمونها الذي يعني الاستطالة على القانون والتهرب من دفع الضرائب وما أشبه، فإنه يصح القول إن دولة المخزن اليوم تتركب أيضاً من شيء من فوضى "السيبة"، على الأقل على صعيد تطبيق القانون وأداء الضرائب. دولة المخزن دولة مركبة، كما يقول ابن رشد، من "فضيلة، وكرامة، وحرية، وتغلب"، أو هي تجمع بين "أحكام شرعية وآداب خلقية وقوانين في الاجتماع طبيعية وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية" كما يقول ابن خلدون. المضمون واحد رغم اختلاف زاوية النظر، ولا حاجة إلى مزيد تعليق! لنضف فقط ملاحظتين: أولاهما ان دولة المخزن إذ تختلف في تركيبها عن الدولة عند اليونان وعن الدولة في أوروبا في القرون الوسطى تبقى مع ذلك أحد أنماط دولة القرون الوسطى. أما الملاحظة الثانية فتخص التركيب الذي يميز هذه الدولة، فكونها مركبة يعني أنها ليست فاضلة بإطلاق ولا استبدادية بإطلاق، كما يعني أيضاً أنها يمكن أن تتحول وتنتقل من وضع إلى آخر. ولكن دولة المخزن، كغيرها من الدول، ليست مجرد عناصر منها تتركب، بل هي أيضاً نسيج من العلاقات. والعلاقات هي التي تعطي للعناصر مضمونها، وهي التي تربط أو تفصل بين "من أين؟" وبين "إلى أين؟". وبعبارة أخرى ان الانتقال من وضع إلى وضع لا يكون على مستوى عمق الفرق الذي بين دولة القرون الوسطى والدولة الحديثة إلا إذا دشن قطيعة على مستوى العلاقات. فما هي طبيعة العلاقات التي تنسج جسم دولة المخزن؟ ليست الدولة ولا السياسة مجرد عناصر منها تتركب، بل هي أيضاً نمط من العلاقات، وأهمها علاقة السلطة بالمال. لقد استفدنا من شهادة كل من ابن رشد وابن خلدون ان الدولة في المغرب - الدولة التي عاشا في كنفها - دولة مركبة، ليست فاضلة بإطلاق ولا ضالة بإطلاق. وهذا يخص نوع ممارستها للسلطة. يبقى بعد ذلك أن نطلب شهادتهما في مصدر السلطة نفسها ونظام العلاقات فيها. دولة المخزن، التي تحدث عنها ابن رشد وابن خلدون تنتمي إلى القرون الوسطى، وإذاً فالعلاقات فيها ليست من نوع العلاقات التي يتميز بها المجتمع الحديث والتي ينسجها السلوك العقلاني، واحترام حقوق الإنسان والمواطن، والمساواة بين الناس... الخ. العلاقات في مجتمع دولة المخزن لم تكن من هذا القبيل، كما أنها لم تكن من النوع الذي عرفته أوروبا والذي يحكمه قانون المال مفيد للسلطة، أي يعطيها علاقات السيد بالعبد، علاقات القن بالاقطاعي، علاقات العامل برب العمل. العلاقة بين السلطة والمال في دولة المخزن علاقة معكوسة. فليس المال فيها هو الطريق إلى السلطة، بل السلطة هي الطريق إلى المال. وهذا ما يشهد كل من ابن رشد وابن خلدون، فلنستمع إلى شهادتهما. يلاحظ ابن رشد ان الناس في كثير من الممالك الإسلامية صنفان: "صنف يعرف بالعامة وآخر يعرف بالسادة، كما كان الحال عليه عند أهل فارس وكما عليه الحال في كثير من مدننا". ويضيف ابن رشد: "وفي هذه الحال يسلب سادتهم عامتهم، ويمعن السادة في الاستيلاء على أموال العامة إلى ان يؤدي بهم الأمر أحياناً إلى التسلط، كما يعرض هذا في زماننا هذا وفي مدننا هذه". ثم يضيف: "وإذا اتفق مع هذا ان كان هؤلاء الرؤساء لا يقسمون فيهم بالعدل هذه الأموال المأخوذة منهم، وكانوا يتسلطون عليهم، كان ذلك أشد الأمور قسوة على العامة... والأموال المكتنزة أصلاً في هذه المدينة هي اليوم في حقيقة أمرها بيوتات، أعني أنها من أجل بيوتات السادة، ولذلك فالجزء الإمامي منها الخليفة هو اليوم جزء التسلط بإطلاق"2. والجدير بالتنبيه ان لفظ "السادة" في عبارة ابن رشد قد ورد كمقابل ل"العامة"، وليس كمقابل ل"العبيد"، وهو يحيل لا إلى "الخاصة" عموماً بل إلى فئة منها هي التي كانت تشكل قوام "المخزن" الموحدي. ذلك ان لفظ "السيد" كان يطلق بالتخصيص على رجال الموحدين الذين كانوا العمود الفقري للمخزن. فانقسام المجتمع آنذاك إلى "سادة" و"عامة" يوازيه ذلك التصنيف الذي كان جارياً في مغرب ما قبل الحماية الفرنسية: المخزن والرعية، والذي ما زالت آثاره وبقاياه ماثلة إلى اليوم. والمخزن بهذا المعنى الاجتماعي يشمل جميع أولئك الذين يتمتعون بقسط من "الجاه"، من الوزراء وكبار الموظفين، إلى القضاة والعلماء والأعيان والعدول والقواد والاقطاعيين إلى من دونهم من "المخازنية" ومن في معناهم. جميع هؤلاء كانوا في موقع "السادة" يمعنون "في الاستيلاء على أموال العامة إلى أن يؤدي بهم الأمر أحياناً إلى التسلط"، حسب عبارة فيلسوف قرطبة 1 - ابن خلدون، المقدمة، تحقيق علي عبدالواحد وافي، لجنة البيان العربي، القاهرة 1959، ج2، ص 711-712. 2 - المرجع نفسه، ص 175-176.