} حين ميّز عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته بين تاريخ الأفكار وتاريخ العمران البشر قام بتلخيص الأسس النظرية لتطور المعرفة وحقولها في مقدمته، ثم كتب تاريخ العبر كمجال خبري لتطور البشر. فالمقدمة النظرية ليست مقطوعة عنده عن التاريخ التطبيق العملي بل هي مفصولة كمداخل نظرية وموصولة في المجال الإنساني. ومن يقرأ "تاريخ العبر" يجد تلك الصلة النظرية بين تاريخ الأفكار وتاريخ البشر. فهو دائماً يذكّر بنظرياته في معرض وصفه لصعود الدول دولة معينة وهبوطها معيداً الصلة بين مقدمته وتاريخه من دون ان يقع في التكرار. فابن خلدون على عكس الخطأ الشائع عن تاريخه قام فعلاً بتطبيق نظريته عن علم العمران في سياق عرضه لتاريخ الخبر وتحليليه، إلا ان التطبيق لم يرق أبداً الى مستوى نظريته. الى ذلك هناك خطأ آخر شائع عن ابن خلدون وهو ايمانه بالتاريخ الدائري للبشر وهو غير صحيح، فصاحب المقدمة لا يقول بالتاريخ الدائري بل بالتاريخ التكراري. فالأول الدائري يعني وقوف الزمن وعودته الى نقطة الانطلاق الأولى بينما الثاني التكراري يعني عودة الصراع الى بداياته الأولى من دون ان يبدأ من نقطة الصفر. فالدائرة عنده لا تتكرر وأولها غير موصول بآخرها، والتكرار لا يعني نسخ السابق بالتالي بل التراكم التاريخي بين تجربة دولة سابقة وتجربة دولة لاحقة. وفي هذا المعنى التاريخي - الفلسفي يعتبر ابن خلدون من المؤمنين بتطور الزمن وتقدم البشر بين محطة سابقة ومحطة لاحقة. فهو يتحدث عن آليات وليس عن تكرار صور الأخبار والحوادث. وتشابه قوانين آليات المحطة الأولى التطور الزمني مع المحطة الثانية لا يعني ان الزمن عاد الى نقطة الصفر ليبدأ من جديد بل عاد الى طور أعلى من السابق ليعاود ارتفاعه مجدداً. أدى الخلط بين الدائرية والتكرارية لآليات التطور الى وقوع التباس في فهم المعنى الفلسفي لتاريخ ابن خلدون، وحتى لا يتجدد الالتباس يمكن التذكير بجوهر نظرية التطور عنده. فصاحب المقدمة يعتبر "ان البدو أصل للحضر ومتقدم عليه" المقدمة ص 131. والبداوة عنده ليست عيباً بل هي صفة لواقع اجتماعي، ولا تقتصر على قوم شعب معين بل هي الأصل الأول للبشر كل البشر أصلهم بدوي. والبدو في هذا المعنى الاجتماعي - التاريخي أقرب الى الشجاعة من أهل الحضر. والبداوة عنده على مراحل وخصائص انماط عيش أبرزها عند العرب، مثلاً، انها تتفرع الى فئتين: مراعي الإبل الطور الأول من البداوة ومراعي الخصب الطور الثاني وهي الأكثر استقراراً وصلة بالحضر. الى البداوة هناك العصبية. والعصبية عنده ثلاثة أنواع: الأولى: الطبيعية النسب والرحم، والثانية: الاجتماعية المصاهرة والزواج، والثالثة: السياسية الانتماء العصبي لجماعة محددة أو ما نسميه في عصرنا باللجوء السياسي أو المدني أو طلب الحماية أو الاستقواء بقوة سياسية ضد أخرى. وغاية العصبية عند ابن خلدون هي المُلك الدولة. والمُلك يحصل عادة بالتغلب و"التغلب انما يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة" ص 167. فالعصبية عنده غير كافية لتأسيس الدولة بل لا بد من "اتفاق الأهواء على المطالبة" وهذا يعني انه لا بد من وجود دعوة عقيدة تربط العصبية وتشدها الى هدف معين ومصير مشترك. وهنا بالضبط يأتي دور الدين. فالدعوة الدينية تزيد قوة العصبية باللحُمة السياسية قوة على قوة. ولذلك مال ابن خلدون الى الدولة القوية لأنها في النهاية تُخضع القبيلة في دائرة نفوذها. وبرأيه ان كثرة العصبيات الطوائف أو الأقليات في عصرنا تمنع قيام الدولة بينما قلة العصبيات تسمح بقيامها ص 174 - 175. فالدولة عند صاحب المقدمة هي "صورة العمران" أو ما نسميه في عصرنا البنية الفوقية وهي الدولة أكثر ما تؤثر في "مادة العمران" أو ما نسميه في عصرنا البنية التحتية. وفي مسألة الدولة ميّز ابن خلدون بين أجيال الدولة وأطوارها. فالأجيال ثلاثة في الغالب ومجموع عمرها 120 سنة، والأطوار خمسة تبدأ بالمؤسس وتنتهي بالدعي. وعادة يقوم الغالب بتقليد المغلوب المرحلة الأولى ثم يقوم المغلوب بتقليد الغالب المرحلة الثانية حين يبدأ الجديد بتجاوز القديم. لا شك في ان منهجية ابن خلدون في المقدمة تختلف عن ذلك الصوغ في تاريخه. وأساس الاختلاف يعود الى اختلاف مادة البحث. فالمقدمة هي قراءة في عوامل الخبر وأسبابه وهي محاولة لتأسيس منهجية في التفكير، بينما تاريخه هو بحث في ورود الخبر وتتابعه وهو سرد لحركة الزمن وتداعياته. لا يقلل الاختلاف المنهجي بين مقدمة ابن خلدون وتاريخه من قيمة جهده التركيبي للأخبار. فصاحب المقدمة تميز ايضاً بتاريخه من حيث انه اسس لأسلوب جديد في رواية الخبر. فهو لم يتبع اساليب من سبقه من مؤرخين ومفكرين بل حاول ابتكار منهجه الخاص في تقديم مفكرة تاريخية متميزة. لم يقتفِ ابن خلدون منهج السرد السنوي للحوادث بل درس كل فترة على حدة، ثم قرأ حوادث دول تلك الفترة سنوياً ولاحق تتابعها او تداخلها او تقاطعها او استقلالها عن بعضها. وحاول دراسة تاريخ كل قبيلة متتبعاً حركتها الزمنية وانتقالها المكاني وتفرعها وتوزعها الى بطون وبيوت. ولاحق انقسام البطون والافخاذ وعلاقات الاسر والبيوت والافراد وصولاً الى حصول الاختلاط خلط الانساب. فتاريخ ابن خلدون تاريخ مركب يقرأ صعود الدولة وهبوطها واضمحلالها. ثم يعود ليقرأ صعود الدولة التالية وهبوطها وانقراضها. ويتداخل سرده للاخبار ويتكرر ويتقاطع بمقدار تداخل اخبار الدول مع بعضها وتقاطعها. فالمنهجية الخلدونية في كتابة الخبر منهجية مركبة لا سردية، تصعد ثم تهبط لتعود ثانية للصعود والهبوط. فقراءة التاريخ عنده قراءة تكرارية تبدأ من نقطة ولا تعود الى النقطة نفسها. فالدائرة عنده لا يتصل اولها بآخرها، اذ يعود لقراءة الدائرة الثانية ليبدأ من جديد لا من حيث بدأ سابقاً. وبتراكم الدوائر يحصل التقدم الزمني عنده. فتاريخه ليس دائرياً بمقدار ما هو تكراري. وبين دائرة واخرى يتراكم الزمن ويحصل التطور التاريخي. والزمن عنده طبقات اجيال. فهناك طبقة ترث طبقة وتختلط بها وتؤسس لطبقة ثالثة، والثالثة تؤسس للرابعة. فالتتابع الطبقي هو تتابع زمني لا يتكرر كأخبار بل يتكرر كحالات وآليات. فهناك تشابه في الحالات الصعود والهبوط والاضمحلال واختلاف في سرد الاخبار. يميز ابن خلدون بين المنهج والخبر. فالمنهج عنده ثابت ويتحول ثم يعود للثبات بينما الخبر متحول وغير مستقر، لكن عوامله هي نفسها التي تؤلف القانون الذي يحرك التاريخ. ويطبق صاحب المقدمة منهجه قانونه على العرب والعجم والبربر ومن سبقهم وعاصرهم مستخدماً الرواية الخبرية في سياق مركب ومتماسك لا تغيب عنه المنهجية الا في حالات نادرة. فهناك طبقات اجيال وهناك تتابع. وهناك بداية ونهاية. وهناك صلة بين بداية ونهاية ثم نهاية وبداية جديدة. ولكل خبر مقدمته النظرية. يضع النظرية ثم يطبقها خبرياً. يقرأ مثلاً تاريخ العرب قبل الاسلام ثم تاريخهم لحظة نزول الدعوة ويربط العصبية بالدين ليقرأ من جديد تاريخ العرب بعد نزول الدعوة. فهناك تتابع وتداخل في الآن. فهو يبدأ بمضر وفرسانها وأنصارها من اليمن الى الاستقلال بالدولة الاسلامية، ثم تبعتهم ربيعة ومن وافقها من الاحياء اليمنية ثم غلبتهم على الملل والأمم وانتزاعهم الامصار ثم انقلاب احوالهم من "خشونة البداوة" وسذاجة بساطة الخلافة الى "عز المُلك وترف الحضارة" وحصول تشتتهم الجغرافي حين افترقوا "على الثغور البعيدة" من ممالك الاسلام، بعد تناقل المُلك من عنصر الى عنصر ومن بيت الى بيت. وبلغت مضر وانصارها وربيعة واخوانها أوج قوتهما في دولة بني أمية و"بني العباس من بعدهم بالعراق" ثم "دولة بني أمية" في الاندلس وبلغوا من الترف والبذخ "ما لم تبلغه دولة من دول العرب والعجم من قبلهم". بعدها انقسموا في الدنيا ونبتت أجيالهم في ماء النعيم" واستطابوا "خفض العيش" وطال نومهم "في ظل الترف والسلم" فألفوا الحضارة و"نسوا عهد البادية" وانفلتت من ايديهم القوة التي نالوا بها المُلك وخفت عندهم "خشونة الدين، وبداوة الاخلاق، ومضاء المضرب". المجلد السادس، صفحة 3. وبذلك انتقل المُلك من العرب الى غيرهم. اخبار المقدمة بعد ان ينتهي ابن خلدون من وضع مقدمته النظرية الفكرية يأخذ بتفصيل اخبارها فيقرأ كل فترة في سياق تعاقب السنوات وتداخلها وتتابع الحوادث وتقاطعها. فيعود مجدداً الى قبائل العرب قبل الاسلام ثم نزول الدعوة. فالقبائل العربية "موفورة العدد"، فهي نصرت الايمان ووطدت اكتاف الخلافة وفتحت الاقاليم وغلبت الامم والدول. ثم يشرح ماذا يعني بقوله موفورة العدد فيأخذ بتفصيلها. فهناك مضر ومن مضر كانت قريش وكنانة وخُزاعة وبنو أسد وهذيل وتميم وغطفان وسليم وهَوَازن. وبطونها من ثقيف وسعد بن بكر وعامر بن صعصعة ومن مال اليهم من افخاذ وعشائر وموالٍ. بعد مضر هناك ربيعة ومنها بنو تغلب بن وائل وبنو بكر بن وائل الى "شعوبهم" من بني شكر وبني حنيفة وبني عجل وبني ذهل وبني شيبان وتيم، ثم بنو النمر ثم عبدالقيس ومواليهم. وجاء من اليمنية ثم من كهلان بن سبأ الخزْرَج والاوْسُ أبناء قيلة من شعوب غسان وسائر قبائل الازد. ثم همدان وخثعم وبجيلة ومذحج وبطونها من عبس ومراد وزبيد والنخع والاشعريين وبني الحرث بن كعب، ثم لحى وبطونها ولخم وبطونها ثم كِندة وملوكها. وجاء من حِمْيَرَ بن سبأ قضاعة وبطونها ومواليها من افخاذ وعشائر واحلاف. بعد ان يسرد كل هذه التفاصيل عن قبائل العرب وأصولها وفروعها وبطونها يأتي الى بيت قصيده وهو ان "هؤلاء كلهم انفقتهم الدولة الاسلامية العربية" فذهبوا الى الثغور القصية و"أكلتهم الاقطار المتباعدة" وتوزعوا "في أنساب أعقاب متفرقين في الامصار" ص 4. الى ان انتقل الاسلام الى غيرهم و"صار المُلك والأمر في أيدي سواهم"، فغلبهم اعاجم المشرق من الديلم والسلجوقية والأكراد والغُزّ والترك ولم "يزل مناقلة فيهم الى هذا العهد". وغلبهم أعاجم المغرب من زناتة والبربر ولم "تزل الدول تتناقل فيهم ... الى هذا العهد". وهكذا انقرض المُلك العربي الاسلامي. وبرأي ابن خلدون هذا شأن كل الدول التي يطرقها الهرم. لكن التلاشي عند ابن خلدون لا يعني الانقراض بل الاضمحلال واختلاط الانساب ونشوء طبقة مولدة جديدة لا هي عربية صافية ولا هي اعجمية صافية بربرية او تركية او فارسية او كردية وانما ما يشبه المزيج بين عناصر مختلفة. فهناك اعاجم مستعربة وهناك عرب مستعجمة. وأساس الاختلاط هو التوزع الجغرافي الفتوحات والامتداد الزمني تعاقب السنوات. ولا يكتفي بقراءة المسألة تاريخياً بل يحاول تفصيلها قبيلة قبيلة فيلاحق مصير كل قبيلة وتحولها المكاني والزماني ثم تفرعها الى بطون وأفخاذ وبيوت. فيتابع مصير كل فرع من الفروع ودوره في قيام الدول وهبوطها. الى ذلك يقرأ من المنهجية نفسها الاختلاف في المأكل والملبس واللغة واللسان حتى ان "اللسان المضري الذي وقع به الاعجاز ونزل به القرآن" ثوى فيهم يقصد القبائل العربية المضرية و"تبدّل اعرابه فمالوا الى العجمة". فالعجمة عند صاحب المقدمة لا تعني قوماً بعينه بل لحنة لسانية لغة. وان "كانت الاوضاع في أصلها صحيحة واستحقوا ان يوصفوا بالعجمة من أجل الاعراب فلذلك قلنا فيهم العرب المستعجمة" ص5. وبعد ان ينتهي من وضع الاسس الفكرية العامة لنظرية الخبر يبدأ من جديد بتفصيل التفاصيل فيتعقب تاريخ كل قبيلة فيأتي على ذكر بني هلال وبني سليم وتأثيرهما في تاريخ المغرب القرن الخامس الهجري وما بعده فيلاحق اخبارهما من الجزيرة العربية الى ترحيلهما الى مصر، ثم استخدام الدولة الفاطمية لهما في اثارة القلاقل في بلاد المغرب عقاباً على انحياز بعض دولها الى الخلافة العباسية. بعدها ينتقل الى تاريخ القبائل الهلالية في المغرب وتشرذمها وتفرعها وتوزعها المكاني ثم انهيارها على يد دولة الموحدين. ويشير الى القبائل الهلالية ثم قبائل بني سليم بصفتها من "الطبقة الرابعة من العرب المستعجمة" في بلاد المغرب وتزاوجها هناك من "افاريق الاعراب" ويقصد بهم افارقة العرب الذين استقروا في شمال افريقيا في عصر الفتوحات الاسلامية الكبرى التي تمت في القرن الهجري الاول وما اعقبه من حملات استقرت اخيراً في مختلف شمال القارة. يستخدم ابن خلدون كتب النسابة ومن نقل عنهم من ابن الكلبي وابن حزم والاصفهاني وابن سعيد والجرجاني والتجاني وصولاً الى ابن الاثير. ويتعقب النسب وتوزعه وانحلاله واندماجه ويربط النسب بالخبر ليتشكل عنده التاريخ المركب من عناصر مختلفة ومتداخلة. ويستحدث ابن خلدون مصطلحات خاصة به ومفردات لغوية عرب مستعجمة او افاريق العرب للدلالة على منهجه الخاص في قراءة الوقائع والحوادث، وأداته في تحليل الخبر وتركيبه مفهومه الاجتماعي - السياسي للعصبية من خلال دراسة تعاقب الرئاسات وتراتبها طبقة جيل بعد طبقه "لأن الرئاسة على الأحياء والشعوب انما تتصل في أهل العصبية والنسب" ص10. يؤدي التعاقب الزمني عند صاحب المقدمة الى نوع من ترتيب رئاسات والرئاسة تعني شوكة لا تتوافر الا لصاحب العصبية. لذلك يرى ان العرب ظهروا "على سائر الأمم بظهور الدين" وعانوا في المغرب "من حروب البربر شدة". وينقل عن ابن ابي زيد ان البربر "ارتدوا اثنتي عشرة مرة" حتى رسخ الاسلام فيهم وعم المغرب وانتشر من هناك. لكن استقرار العرب في المغرب ادى الى تغيير في طبيعتهم و"استحالت طبيعتهم الى البربر واندرجوا في عدادهم، وذهب مُلك العرب منهم". ويستنتج صاحب المقدمة من ذلك "ان العرب لم يوطنوا بلاد المغرب" الى "منتصف المائة الخامسة" حين جاءت القبائل الهلالية وبنو سليم. وعندما يصل الى هذه الفكرة يعود الى الوراء ليبرهنها تاريخياً ويبدأ من جديد بتفصيل النظرية في ضوء المعلومات الاخبار التطبيقية فيباشر بدراسة تاريخ القبائل الهلالية على حدة وبطونها وأفخاذها ثم ينتقل الى تاريخ قبائل بني سليم وبطونها وأفخاذها كفئات من الطبقة الرابعة. وينطلق من أصلهم القبلي ومساكنهم في الجزيرة العربية حين "كانت بطون هلال وسُليم من مُضَر" وحين كانوا "ناجعة بمجالاتهم من قفر الحجاز بنجد" وحين كانت سُليم "مما يلي المدينة" المنورة، وهلال "في جبل غُزوان عند الطائف" ص16. ويلاحق اخبار هلال وسُليم من الجزيرة الى المغرب وحروبها مع صنهاجة وزناتة وصولاً الى نجاح العرب في اقتسام "بلاد افريقية" واضطراب امرها وتخريب عمرانها ص19 ثم هزيمتها على يد زعيم الموحدين عبدالمؤمن، بعدها تبدأ فترة تلاشيها واندماجها. يختلف تاريخ هلال عن سليم لكنه يبدأ من وحدة قبلية مضر وأصل جغرافي الصحراء ثم يتوزع جغرافياً في الجزيرة المدينةوالطائف ثم يتفرع ويتلاقى ثم يتشتت ويتلاشى. وعلى رغم اضمحلال عصبية القبائل العربية هلال وسليم وانكسار شوكتها وزوال ملكها لاحظ ابن خلدون استمرار عنجهيتهم عندما احتك ببعض افرادها اذ "لهم عنجهية منذ رياستهم القديمة لم يفارقوها، وهم على ذلك لهذا العهد" ص30. لا يقرأ صاحب المقدمة التاريخ كسنوات تتعاقب بل يدمجها في فترات ويقرأ كل فترة ودولها ويستنتج العبرة من الزمن. فالزمن عنده تراكمات دائرية لا تتكرر كأخبار بل تتطور وفق قانون هادف. لذلك تميز تاريخه بملاحقة الاخبار كسنوات لكنها سنوات لا تمر مرور الكرام بل تتراكم. وبين دورة واخرى هناك دولة واخرى. وبين سنة وسنة يحصل التراكم الزمني. ويتكفل الزمن بتقرير مصير الدول. فتعاقب السنوات عنده هو تعاقب الحياة والموت ثم الحياة والموت. فهناك دائماً شيء يولد في لحظة موت شيء آخر. وموت الاجيال ليس زوالها بل اندماجها واضمحلالها ونشوء شيء ثالث ورابع. ويستنبط ابن خلدون مصطلحات دقيقة للتعبير عن منهجيته. فهو ينحتها لتناسب أسلوب تفكيره مستخدماً الآيات القرآنية والأحاديث النبوية للدلالة على صحة إدراكه وتفقهه لعلوم الدين. ودائماً يلعب الزمن عنده دوره في النهوض والانهيار وفي القوة والضعف وفي تماسك الشوكة وضعفها بسبب تخليط النسب. دورات الزمن الى مفرداته هناك تعابيره عن الزمن ودولته على الشعوب والأقوام والقبائل. ونجده يستخدم فقرات خاصة للدلالة على نهاية وبداية مثل "ثم ضربت الأيام ضرباتها وأخلقت جدّتهم وفشلوا وذهبت ريحهم، ونسوا عهد البداوة والناجعة وصاروا في عداد القبائل الغارمة للجباية والعسكرة مع السلطان" ص 33. فالزمن عنده صيرورة وتحولات ينقل الاجتماع من وضع إلى آخر ومن بداوة الى حضارة من خشونة الى دعة، إذ بعد اتصال الرئاسات يأتي أمر الخلط وبيعة الخلط ثم تأتي فترة انقطاع الرئاسة وتصير الرئاسة تنتقل الى شوكة ناهضة ويتدهور العز الى أرذل العمر و"قتل من قتل منهم" و"ذهبوا مثلاً في الأيام وخصدت شوكتهم والله قادر على ما يشاء" ص 35. ونجد عنده تعابير مختلفة للدلالة على دولة الزمن يكرر صوغها بمفردات متعددة مثل "فأكلتهم السنون وذهب بهم الترف، والله غالب على أمره" ص 37. أو مثل قوله "ثم دثروا وتلاشوا شأن كل أمة والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين" ص 44. يستمر التاريخ عند ابن خلدون ولا يتوقف لحظة واحدة. فتاريخه لا يعرف الانقطاع ولا يرى في تراكم السنوات سوى تحولات زمنية تنتج الموت والولادة حين تتعاقب الرئاسات وتختلط وتنقطع طبقة بعد طبقة. لذلك أقدم على تنظيم أفكاره وفق تصورات منهجية اعتمدت أيضاً على رسوم بيانية تحدد بالأسماء ما يريد قوله كأخبار عن التاريخ وتحليل لدوراته التطورية، فألحق بكل قبيلة وبطن وفخذ مخططات ترسم التعاقب البياني اسماً بعد اسم من البداية الى لحظة الانقطاع ثم يلاحق الفروع واتصالها ثم انقطاعها ثم اتصالها مجدداً بفرع آخر من طريق المصاهرة حتى يتصل التاريخ بزمنه. وأحياناً يربط حلقات الزمن بتجربته واتصالاته. وكثيراً ما يعتمد في تاريخه على النقل المباشر والشخصي فيقول "أخبرني" و"ذكر لي" و"سمعت من مشايخهم" و"حدثني الثقة" ليؤكد التتابع الزمني الذي لا ينقطع حتى لو انقطع النسب أو العصب، فالأنساب سائرة كلها نحو الانحلال، بينما الزمن يستمر بالانتقال من شوكة مغلوبة الى شوكة غالبة. والزمن أيضاً يتكفل بتحويل الكثرة الى قلة والقلة الى كثرة. فالعدد عنده هو قوة لأنه يلعب كوزن له ثقله في الممانعة والمدافعة، وهذا ما يشير إليه في خبره عن "المعقل من بطون الطبقة الرابعة". دخل هذا القبيل قبيلة ويرجح أن أصلهم من عرب اليمن المغرب مع الهلاليين "في عدد قليل، يقال إنهم لم يبلغوا المائتين" وجاوروا زناتة في القفار ولما ملكت زناتة بلاد المغرب ودخلوا الى الامصار والمدن "قام هولاء المعقل في القفار وتفرّدوا في البيداء فنموا نموّاً لا كفاء له، وملكوا قصور الصحراء التي اختطها زناتة بالقفر..." ص 69. ويسرد ابن خلدون تاريخهم الخاص في سياق تقلب الدول في المغرب وانقلاب الزمن عليهم وصولاً الى "هذا العصر" إذ إن شيخهم "كثير التقلّب في القفار والغزو للقاصية ولأهل الرمال والملثمين" ص73. وعلى المنهج المذكور يقرأ ابن خلدون مصير القبائل الهلالية وبني سليم في ضوء تاريخ القبائل والبطون والأفخاذ والفروع والمواطن لهدف محدد يخدم تعاقب حلقات الزمن وترابطها. فصاحب المقدمة لا يستطرد في تاريخه، والاستطراد عنده محدد الوظيفة، فهو يريد أن يربط السياقات الزمنية في موضعها المكاني فيتجه الى قراءة تاريخ كل قبيل ومصيره وما آل إليه حتى يصل أخيراً الى بني ذياب بن سليم و"هذه آخر الطبقة الرابعة من العرب" في المغرب ص 103. بعدها يعود الى قراءة أحوال البربر وأخبارهم أو ما يسميه "الأمة الثانية من أهل المغرب". فابن خلدون يقيم الصلة بين طبقات العرب وطبقات البربر من خلال الاتصال الزمني وتعاقب الحلقات وتواصل التاريخ. فحديثه عن القبائل الهلالية وبني سُليم وانتقالها الى المغرب وملاحقته أخبارها له علاقة بمنهجه التاريخي الذي يربط المكان بالزمان وتعاقب حلقات الزمان وتواصلها الى عهده. النظرية والتطبيق كيف ربط ابن خلدون النظرية المقدمة بالتطبيق التاريخ؟ هناك مئات الأمثلة التي تدل على وعي ابن خلدون لنظريته التاريخية وربطه لها بتاريخ الدول الإسلامية تحديداً. ويكفي هنا تقديم مثال واحد لتأكيد خطأ القول إن ابن خلدون لم يطبق نظريته المقدمة على تاريخه تاريخ العبر. في المقدمة يتحدث صاحبها عن الإمامة والاختلاف عليها في فصل مستقل ويسرد اتجاهات واجتهادات الشيعة الإمامية عن المسألة واختلاف فرقهم على تفسيرها وتأويلها فيعطي فكرة عن "تاريخ الأفكار" في هذا الموضوع. وفي تاريخه يتحدث صاحب المقدمة عن الموضوع في فصل عن دولة بني العباس المجلد الثالث من تاريخ العبر، ص 211 - 270 فيربط النظرية من خلال تلخيص مجموع الآراء من دون تفصيل، حتى لا يقع في التكرار، بالأحداث والوقائع والأخبار تاريخ البشر. فيقول عن دولة بني العباس إنها من الشيعة من فرقة تعرف بالكيسانية و"يسمون أيضاً الحرماقية نسبة الى أبي مسلم الخراساني لأنه كان يلقب بحرماق". ولبني العباس شيعة يسمون الراوندية من أهل خراسان يزعمون ان أحق الناس بالإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو العباس. وهؤلاء الراوندية أتباع أبي مسلم يقولون بالتناسخ والحلول وانتقال الأرواح ولم يستقم الأمر للسفاح نهوض دولته الا بعد ان أوقع بهم وقعة الراوندية وتصفيتهم. وبرأي ابن خلدون ان أصل الدولة العباسية اضافة الى العصبية أهل خراسان وبيت العباس هو مزيج مركب من فرق ثلاث منشقة عن الشيعة الإمامية وهي: الكيسانية، الحرماقية والراوندية. ص 211 - 227. وحين يتحدث عن الخليفة المنصور أبو جعفر والأسباب التي دفعته الى بناء عاصمة دولته بغداد ابتداء من سنة 146 هجرية يربط الأمر بثورة "الراوندية عليه بالهاشمية" وكراهيته لأهل الكوفة وخوفه منهم، اي انه يعقد صلة وصل بين الفكرة الصراع العباسي الهاشمي على الإمامة والعصبية الدعوية الراوندية، وأهل الكوفة بالواقعة بناء بغداد وأخيراً بالمكان جغرافية العاصمة. ويرى ان المنصور اختار موقع بغداد لأنها "بين أنهار كالخنادق لا تعبر الا على القناطر والجسور" وتتوسط "البصرة والكوفة وواسط والموصل" ص 240. وحين توفي المنصور سنة 158 هجرية وخلفه المهدي الخليفة العباسي الثالث ظهر في أيامه حركة سياسية تشبه الراوندية قادها رجل من أهل مرو لبس القناع وعرف بالمقنَّع. وكان المقنّع "يسمى حكيماً وهاشمياً، وكان يقول بالتناسخ وان الله خلق آدم فتحول في صورته ثم في صورة نوح، ثم الى أبي مسلم، ثم الى هاشم وهو المقنع". ولاحقه جيش الخليفة حتى تم محاصرته الى ان "أحرق نفسه بالنار" ص 254. فابن خلدون يربط حلقات الخبر ويعيد تركيبها ولا يكتفي بالسرد السنوي للتاريخ بل يحقب محطات الزمن دولة بعد دولة ومن طور أدنى الى أعلى محاولاً ربط الأفكار بالحوادث. فالتكرار عنده لا يعني عودة دائرية للتاريخ، بل عودة للآليات التي تراكم تباعاً طبقات الزمن في وقت تكون حركة التاريخ في حال تصاعد من حقبة الى أخرى. وعدم تكرار نظريته التي شرحها مفصلة في مقدمته، حين كتب تاريخه، لا يبرر القول بحصول ما يشبه الانقطاع بين الفكرة وتطبيقها لأن جوهر المقدمة أساسها النظري استمر كمنهج تحليلي وتركيبي نظام فكر في تاريخ الخبر. فصاحب المقدمة وصل النظرية بالحوادث من خلال عرض الآليات وأعاد استخدامها، ملخصة ومن دون تفاصيل، لفهم معنى العمران وتأصيله كقانون عملي ومرن. فالمقدمة نجدها حاضرة دائماً في تاريخه، كدليل عمل لقراءة حوادث الزمن وأخباره، من دون أن يرقى الى سويتها. * كاتب من أسرة "الحياة".