سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
بهرته صورة "المثقف الفقير" ووجد ذاته في سيرة أبي حيان التوحيدي . ما زال في السراج "بقية زيت" ولا جفوة بينه وبين الشعر إحسان عباس : المشكلة في الشعر الحديث أنني لا أستطيع حفظه !
نشأ إحسان عبّاس في وطن كان مقدراً عليه الضياع، فإذا بإلفة حميمة، طاغية، تربطه بالمكان. وحال الاخلاص للبحث العلمي دون تطلّعه إلى المناصب، ف "لا احد يستطيع ان يجمع بين الاخلاص للبحث العلمي، والاخلاص للمنصب". وها هو الشاب الثمانيني الذي كرّمته القاهرة وعمّان وبيروت، يواصل اليوم نشاطه العلمي والأدبي والأكاديمي، معتبراً أن صلب المشكلة التي يعاني منها العرب اليوم هي "عقدتهم النفسية تجاه الحضارة والتقدم والتطوير" ! وفي هذا الحوار، يكشف صاحب "غربة الراعي" أنّه بقي غريباً عن عالم المرأة، وأغلق بابه مبكّراً بوجه الحب، كما يستعيد اقامته في بيروت، ويوضح أسباب ابتعاده عن الحزبية. ويذكّر أن العرب "لم يتصوروا النقد موضوعاً رئيسياً، اذ كانت همتهم منصرفة الى تقرير الاصول البلاغية". ويعلن الراعي أن "قصيدة النثر" خطوة "تكاد تكون حتمية في تطور الشعر العربي الحديث"، قبل أن يستدرك أن تعمد الشاعر الحديث اغتصاب اللغة والصور، واختباءه في بناء قصيدته، يؤدّي إلى الابهام في العلاقات بين الصور، وفي قدرة التراكيب على الايحاء. ينتمي احسان عباس الى اولئك العلماء الموسوعيين الذين أغنوا التراث المعرفي الانساني، فقد انجز ووضع اكثر من تسعين كتابا في شتى مجالات المعرفة، وما يزال، على الرغم من سنواته الثمانين، يقرأ ويكتب ويشرف على أطروحات الدكتوراه في الجامعة الأردنية. كرمته مؤسسة "شومان" أخيراً، إذ عقدت ندوة حول مسيرته وأصدرت كتاباً جمع شهادات ودراسات ومحطات بيوغرافيّة، وأطلقت جامعة فيلادلفيا اسمه على احدى قاعاتها. حاز جوائز عدة، فضلاً عن عضويته في معظم المجامع والمؤسسات الثقافية في العالم. وكانت القاهرة كرّمته قبل فترة في اطار ندوة الرواية العربيّة التي نظّمها "المجلس الأعلى للثقافة" في مصر. وجرى أيضاً تكريمه في بيروت اواخر العام الماضي حيث منح وسام الأرز برتبة فارس، في مناسبة صدور كتابه الموسوعي "الذخيرة في محاسن اهل الجزيرة". وقد صدر له اخيرا في عمان كتاب "أزاهير برية" الذي يتضمن قصائد الصبا، وقد تردد صاحب "غربة الراعي" كثيراً قبل دفعها الى المطبعة. "الوسط" التقته، على الرغم من زهده الحوارات، وأجرت معه الحديث التالي: نلتَ جوائز كثيرة، وحزت العديد من الأوسمة، ترى ما أبلغ تكريم لإنسان نذر حياته للعلم والثقافة والمعرفة؟ - أعدّ نفسي محظوظاً بكل ألوان التكريم التي نلتها على المستوى الشعبي والرسمي. وليس من قبيل التواضع ان اقول إنها كانت أكبر من كل جهودي، وكان في تقديمها حثّ لمزيد من العطاء، لولا ضعف الشيخوخة، ولكل تكريم منها أثر عميق في نفسي، وتقدير وشكر للذين قاموا به. وليست المفاضلة بينها منقصة من روعة كل منها، ولكن الصراحة تقتضي ان اقول ان ابلغها أثرا في نفسي هو منحي الدكتوراة الفخرية من جامعة تشيكاغو، فذلك هو قمة الاعتراف بدوري الثقافي، مع أني لم اكتب باللغة الانجليزية الا بضع دراسات. ويتصل بهذا من حيث المغزى السامي، الكتب التكريمية التي خصني بها طلابي واصدقائي من عرب وأجانب، وخصوصاً كتاب "دراسات عربية واسلامية" الذي قامت بتحريره الدكتورة وداد القاضي، وتبرع لطبعه عدد من الاصدقاء في العالم العربي. على الرغم من شغفك الذي لا يُحدّ بالعلم وتحصيله، الا انك كنت تصدّ، على الدوام، اغراءات المنصب والسلطة التي يضعف أمامها عدد كبير من المثقفين العرب. أهو الزهد أم ماذا؟ - كانت لذتي كامنة في البحث العلمي منذ وقت مبكر، وظلت هي مصدر الرضى في حياتي. إن الاخلاص للبحث العلمي يتطلب من المرء الا يتطلّع إلى المناصب، فلا احد يستطيع ان يجمع بين الاخلاص للبحث العلمي، والاخلاص للمنصب. ونشأت، فضلاً عن ذلك، في وطن كان مقدرا عليه الضياع، فمن قصر النظر أن افكر في المناصب، لانه لا مناصب لمن كان في سني، فقد فارقت الوطن لاستكمال الدراسة وأنا في الخامسة والعشرين، واصبح البحث عن ملجأ أجد فيه مجالا للعيش هو الهدف الاكبر. لم أرد ان اخدع نفسي بالطموح الى المناصب، والمنصب الاهم - منصب الاستاذ الجامعي - يساوي، في نظري، كل المناصب مجتمعة. أهميّة النقد وانحسار البلاغة رصدت كتابك الموسوعي "تاريخ النقد عند العرب" للبحث عن الميراث النقدي العربي على مدى سبعة قرون. هل نستطيع الان ان نتحدث عن نظرية نقدية عربية، وما هي ملامحها ومنطلقاتها؟ - "تاريخ النقد عند العرب" كتاب موسوعي، كما تقول، وفيه عرض، على مدى زمني طويل، للحركة النقدية عند العرب. كتبته سنة 1971، واستغرق تفكيري في كيفية انجازه سنوات طويلة. شيء واحد يجب ان نتذكره قبل الاجابة عن سؤالك، وهو ان العرب لم يتصوروا النقد موضوعاً رئيسياً، اذ كانت همتهم منصرفة الى تقرير الاصول البلاغية. وفي هذه الاصول نجد لمحات نقدية... لكني قصدت أن ابرز الناحية النقدية عند العرب لأهمية النقد في العصر الحديث، وانحسار شأن البلاغة كعلم مستقل. وكان توقيت اصدار الكتاب مع اشتداد حركة "النقد الجديد" في الغرب، ثم مع اوائل ظهور البنيوية، وكنت احب ان يعرف الناس ان لدينا تراثا نقدياً من دون ان احكم له بالجودة او بعدمها قبل ان تدهم النقاد، كما دهمتني، مركبة النقد الغربي الحديث. ليست لدينا هناك نظرية محددة المعالم في ما كان لدينا من نقد، وانما هناك اتجاه جمالي عام، واستبعاد للموقف الاخلاقي، جملة، في الفن خصوصاً الشعر الا عند فئة قليلة من النقاد. أمضيت في بيروت حوالي ربع قرن من حياتك. ماذا اضافت لك هذه الفترة، وما الأثر الذي خلّفته في ذاكرتك؟ - عملت في الجامعة الاميركية في بيروت منذ العام 1960 وحتى العام 1986، بدأتها صامتاً وغير مهتم بالاعلام، فوجدت ان العمل بصمت يأتي بنتيجته، حيث دُعيت في الفترة البيروتية للتدريس في جامعة برنستون، وفي جامعة الكويت، وفي الجامعة الاميركية في القاهرة كأستاذ متميز. وفي الفترة البيروتية صار الناس يقرأون لي في المجلات، فصرت أحضر المؤتمرات الأوروبية، وألتقي المستشرقين في اوروبا. ولأن بيروت مركزية، فقد قابلت هذه المركزية بنشاط. فالعاصمة اللبنانيّة في قلب الوطن العربي، وكانت في عز مجدها، وكانت أهم مدينة في العالم العربي. كانت مصيفا للعالم، وتفوّقت بأهميتها على القاهرة. شخصية المكان مسيطرة عليّ، المكان يتملكني، ويسيطر عليّ الى درجة الألفة الحميمة الطاغية، واصعب شيء عليّ ان افارق المكان.. هكذا أحسست بالألم عندما غادرت بيروت، وكنتُ قد احسست قبلها الاحساس ذاته مع الخرطوم، حيث كنت أدرّس في جامعتها، وكانت الفترة السودانية افضل المحطات التي مررت بها في حياتي. تخصصت في نقد الشعر، ولم تقرب الرواية، على الرغم من أن كثيرون يعتبرون أنّها باتت ديوان العرب في الأزمنة الحديثة... - السبب انني لما نشأت اكتب في النقد لم تكن الرواية كاسحة كما هي الآن، ولو انني تأخرت في الزمن قليلا لكتبتُ في نقد الرواية، لأنها ارحب صدرا، وتتناول كل المشكلات الموجودة في الشعر. اما الآن فليس بمقدوري استدراك ذلك، لأن هناك فيضاً غزيرا من الروايات يصعب عليّ، في هذه المرحلة من العمر، متابعته. سيرة من دون "توابل" ! وضعت سير شخصيات عدّة كالحسن البصري وأبي حيان التوحيدي والشريف الرضي والسياب. لماذا هذه الشخصيات بالذات، وما الرابط الروحي الذي يؤالف بينك وبين تلك النفوس؟ - كتب أخي بكر عباس مقالة ذهب فيها الى انني كتبت هذه السير، لأنني كنت ابحث عن البطل الذي اعده نموذجا. ان هذه الفكرة، على الرغم من جاذبيتها، لا يمكن ان تشمل كل السير التي كتبتها، لاختلاف في طبيعة كل شخصية. ان السيرة الوحيدة التي كتبتها عن محبة هي سيرة ابي حيان التوحيدي "المثقف الفقير" لأني وجدت، في بعض مراحلها ذاتي. فأبو حيان من اوسع الناس ثقافة في عصره، وعلى الرغم من ذلك، فقد حمله اليأس على ان يحرق كتبه، وكنت اجد ذلك، يوم كتبت سيرته، نوعاً من الانتحار الذي ينقذ من يُقدم عليه من تعاسة الحياة. أما الحسن البصري فقد اعجبني بقدرته على الزهد، ولكني كتبت سيرته للتمرن على كتابة رسالة جامعية قبل للدكتوراه. وكتبت سيرة الشريف الرضي للكشف عن قضايا تهم الباحث مثل: ما دوره في نهج البلاغة؟ ما دوره السياسي حين وقّع، بأمر من الخليفة العباسي، على عدم صدق نسب الفاطميين؟ الى غير ذلك من امور... من هذا ترى ان كل سيرة كان حافزها مختلفاً. انني مغرم بالسير الذاتية والغيرية، سواء كتبتها أنا، أو كتبها غيري، لأني اجد فيها صورة الانسان في نموه وكفاحه. هذا يقودنا للحديث عن سيرتك الذاتية "غربة الراعي" التي لوحظ فيها الابتعاد عن ذكر أسرار الحياة الشخصية، وهواجس الحب والمرأة والسياسة وسواها. بمعنى آخر بدت سيرتك رسمية ومتحفظة الى حد بعيد. لِمَ لمْ تنطلق في البوح؟ لم لمْ تهتك حُجب الأسرار؟ - لا أوافق على اعتبارها سيرة رسمية، بل انّها سيرة من دون "توابل". هي سيرة انسان ريفي نشأ فقيراً، ذهب وعمره عشر سنوات الى أول مدينة تعرّف اليها، وكتب سيرته - وقد تجاوز السبعين من عمره - وكان أهم شيء في نظره، ان يؤرخ لطفولته في قرية هدمها الغاصبون، واعترف الذين يتسلمون زمام الامور من الفلسطينيين انها لم تعد عربية، لا هي ولا مناطق كثيرة مثلها. أنا انسان كتب سيرته عندما أحس باكتمال الضياع. هذا الفتى في نشأته لم يعرف المرأة. ظلت سراً مغلقا دونه، وتزوج حسب رغبة أبيه وهو في الثالثة والعشرين من عمره زواجاً تقليدياً، فأغلق دونه باب الحب الى الأبد ! ما قيمة الهواجس والأحلام التي قُصفت في شبابها الباكر؟ مهلا يا صديقي، لقد عاهدت نفسي على ان لا اقول في السيرة الا الواقع. لم اتخيل شيئا. لم اسمح لنفسي ان اكتب رواية، وكان باستطاعتي ان افعل ذلك. لم اسمح لنفسي ان اعلق على الأحداث التي جرت في الطفولة، لأن التعليق نتاج فكر رجل، ولم يكن التعليق لينقل طبيعة الطفل او التلميذ، او حتى المدرس في مدرسة ثانوية. اما السياسة فأمرها مختلف. لقد كانت في ايامنا تعني الانتماء الى حزب، وكم حاول اليساريون ان يضموني الى الشيوعية، فكنت اقول لهم: اشرحوا لي اهم مبادئها، فلا اجد من المنتمين فيهم من يعرف شيئا. ولم تكن الكتب التي توضح لي هذه الناحية في متناولي، فابتعدت بنفسي عن الحزبية، لا عن السياسة بمعناها العام. كان مبدأي ألا ادخل حزبا الا اذا عرفت مبادئه واقتنعت بها. قلت في حوار سابق "ان النثر مستقبل الشعر العربي" ماذا تقصد بهذا الرأي الذي صدم كثيرين، واستفزّ غيرهم؟ - قلت، على وجه الدقة، إن ما يسمونه "قصيدة النثر" او "الشعر المنثور"، خطوة تكاد تكون حتمية في تطور الشعر العربي الحديث. اذ ما دمنا قد قبلنا في الشعر استمرار التحول، فليس هناك ما يوقف عجلة التحول، سواء أكان ذلك استجابة لالحاح الحداثة، او خضوعاً للسأم من الالتزام بمرحلة شعرية معينة، او التوقف الطويل عندها. وهذا لا يعد كلاما تنبؤياً، كما انه ليس كلاماً صادماً، لأن هناك شعراء الآن - او منذ زمن - يزاولون هذا اللون من الشعر، أذكر منهم ادونيس وسركون بولص وشوقي عبدالامير وكثيرين غيرهم، مع تفاوت بينهم - قد يكون كبيراً - في منسوب العناصر الشعرية في ما يكتبون. غير اني لا اعلم مدى تأثيرهم في المتلقين او مدى استجابة المتلقين لهذا اللون من الشعر، كما لا استطيع تحديد اهم العناصر الشعرية في ما يكتبونه. هل ما تزال القصيدة العربية المعاصرة قادرة على بعث شرارة القبول والانجذاب في نفسك ؟ ام ان هناك جفوة بينك وبين الشعر؟ - كان الشعر دائماً لديّ صديقاً أثيراً، ولكن تعودي على الايقاع المنظم في الشعر ذي الشطرين كان يساعدني على الحفظ، ومن ثم التغني بالشعر. لكن المشكلة لديّ في الشعر الحديث اني لا استطيع حفظه، وانما هو مجال للقراءة ولا استطيع استذكاره. ولهذا فان متعتي به محدودة بزمن القراءة. وفي الشعر الحديث لمحات جذابة، ولكن تعمد الشاعر اغتصاب اللغة والصور - وهو شيء يحسه القارىء - يدمغه بالكد والاجهاد والاختباء في بناء قصيدته، ويؤدّي إلى الابهام في العلاقات بين الصور، وفي قدرة التراكيب على الايحاء. لا لم تتم جفوة بيني وبين الشعر، وان كان وقتي اضيق من ان يتسع لدراسته، ان العبء الذي حملته في الشباب بالتعرف الى حقول متعددة اصبحت انوء به بعد تقدم السن، وتراجع قدرة الذاكرة. تعرض كتابك "اتجاهات الشعر العربي المعاصر" لهجوم واسع، شارك فيه الشعراء والنقاد على حد سواء. ما السبب في ذلك؟ - كان الكتاب صدمة لما ألفه الناس من مفهوم "اتجاهات" كانوا يتوقعون ان اتحدث عن الاتجاه الماركسي، الاتجاه القومي، الاتجاه التراثي... اي ربط الشعر بالاتجاهات السياسية الغالبة حينئذ، فوجدوا دارسا يتحدث عن الشعر والحب. الشعر والمدينة. الشعر الحديث وعلاقته بالتراث. ونسوا انني اعالج شعرا حديثا يتطلب نظرة جديدة في الاتجاهات التي يمثلها، اي الموضوعات الغالبة عليه وعلى اصحابه. وكان الذين تصدوا للكتاب جماعة من صغار كتاب الصحف في الغالب، فكان موقفهم من الكتابة موقف الذي وجد فرصة في نيل قسط من الشهرة. لكنني لا أبرّئ نفسي، فالموضوعات التي تصديت لها يتطلب كل منها كتابا مستقلاً. ثم انني قصرت النماذج المختارة على الشعراء الرواد، لأن من شاء ان يؤسس منهجا فانه لا يستطيع ان ينتزع امثلته من كل الشعراء الموجودين على الساحة الشعرية. ولعل هذا الخيار اساء الى كثير ممن كانوا يؤملون وجود اسمائهم ونماذج من اشعارهم في الكتاب، وهو بحجمه المقدر حسب طلب المشرفين على سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية لا يتسع لكل ذلك. لكل هذه الاسباب، وربما لأسباب اخرى لا اعرفها كانت الهجمة شرسة واسعة النطاق، حتى شككتني في صلاحية قلمي لمعالجة الشعر الحديث ! هناك قصائد لا موسيقى خارجية فيها، كقصائد سان جون بيرس مثلاً، لكنك تشعر بمتعة استثنائية لدى قراءتها. هل الايقاع المتمثل في الوزن والقافية من شروط القصيدة الناجحة ؟ - ليس الايقاع المنظم ضرورياً للقصيدة، ولكنه ان وجد فيها واستوفت القصيدة شروطها الاخرى فهو لون من الشعر لا يحق لنا انكاره وطلب استبعاده. لقد جعلت سان جون بيرس مثلاً بارزاً، وحسناً فعلت، فأنا أزعم اني قرأت ما وصلت إليه يدي من شعر سان جون بيرس مترجماً الى اللغة الانكليزية، ووجدت عالما من الشعر غريباً آسراً في الوقت نفسه... انه عالم هائل يأخذك في حلم جميل بين الغابات والمحيطات. لهذا ارى يا صديقي ان الشعر فنّ لا تحده القواعد : إنّّه عالم متفرد، قائم على خصوصية العلاقة بين الانسان والكون، والتميز فيه يمثل فرداً او بضعة افراد، لا جيل السبعينات والثمانينات، إلخ. اننا في تاريخ الادب قد نتحدث عن جيل لتسهيل الدراسة، ولكن مع ذلك يجب ان ندرك أن العبقرية ليست صفة شائعة يتقاسمها فئات من الشعراء. واسمح لي ان اسألك: كم سان جون بيرس هناك في العالم؟ لازمانيّة الحداثة ؟ ثمة من يرى في شعر المتنبي ملامح من الحداثة، وهذا الرأي ينطوي على تحطيم لبنية الزمن، هل نستطيع القول بلا زمانية الحداثة؟ - من خلال اطلاعي على ما كتب عن الحداثة وما بعدها. هناك فريق يرى انه يمكن القول بحداثة المتنبي في زمنه، وهذا الفريق لا يرى الحداثة مرحلة حضارية في الفكر الغربي، فاذا قلت إن الحداثة في الفكر الغربي بدأ بديكارت، حكمت ان ما بعد ديكارت من مدارس فلسفية كانت تنويعات حداثية في ذلك الفكر. ويحلو لبعضهم ان يعد ما بعد ثورة التكنولوجيا بداية عصر ما بعد الحداثة. والذين يعتبرون البنيوية بداية الحداثة في النقد الادبي، يعتبرون التفكيكية اعلاناً لمرحلة ما بعد الحداثة. لكن هذا المفهوم لا ينطبق على وضعنا الحضاري، ولهذا نتعلل بالتحدث عن الحداثة في حقل الشعر والرواية وبعض المحاولات الادبية الاخرى. وحين نخفق في تمييز الحداثة، نتجاوز المرحلة الحضارية الراهنة ونعود الى التراث فنقول ابو نواس يمثل حداثة في عصره، وكذلك ابو تمام والمتنبي... وهذا لا يمثل مفهوم الحداثة عند من يملكونها. لو كانت المسألة تحطيما للزمن - كما تقول - لهان الامر، فان الروائي الحديث يلعب بالزمن كما يريد، ويظل حداثيا. المسألة هي "عقدتنا النفسية" تجاه الحضارة والتقدم والتطوير. لا تزال، وأنت في الثمانين - أطال الله في عمرك وأمدّك بالصحّة والعافية - تقرأ وتكتب وتدرّس... هل انت بذلك تتحدى الشيخوخة؟ ام انك لا تستطيع ان تغيّر طريقة حياتك؟ - طول العمر يعني تدهور الصحة، وأرجو ان يصحح دعاؤك في شقه الثاني. فاما طول العمر فاني لا اجد فيه الا طول المعاناة، وهذا النشاط الذي تتحدث عنه يمثل "بقية زيت في السراج" فقط، ولكني اقول كما قال احد الشعراء: "أليس من الخُسرانِ أن ليالياً تمرُّ بلا شيء وتحسب من عمري؟" نعم يا صاحبي انا لا اتحدى الشيخوخة بل انني استسلمت لأوامرها الجائرة. وما اقوم به من قراءة وكتابة وتدريس، انما هو استجابة لرغبة اصدقاء مثلك. الا تذكر اني طلبت اليك أن أجيب عن اسئلتك كتابة لأن الكتابة تمنحني فرصة التفكير والترتيب. ولكنني اعجز عن ان اكون طرفاً في حوار شفوي