مدريد وديعة وهانئة، والى حد ما عادية. ليس فيها مبانٍ "قروسطية" مهمة كما في باقي مدن أوروبا، وكنائسها صغيرة أهمها تلك التي بنيت في العصر الباروكي. وهي ليست كبرشلونة التي تغادرها فتترك فيك صوراً وأسماء: من ساحة الرامبلاس المركزية الى جدران المعماري غاودي وكاتدرائيته، ومن ذكريات صمودها كآخر قلاع الحرب الاهلية الى الآثار التي خلّفها ابناؤها او الذين عاشوا فيها من كبار فناني اسبانيا. وما يُكتب عن تاريخ مدريد لا يثير شهقة القارىء: فيقال انها كانت جميلة في القرن الثامن عشر في ظل البوربون، ثم احتلها الفرنسيون ابان معظم سنوات الحرب النابوليونية في شبه القارة 1808 - 1824، مع ان انتفاضة تمكنت في 1808 من طردهم لفترة وجيزة، وهو الحدث الذي صوّرته بتفاصيله رسوم فرانشيسكو دو غويا. وفي القرن العشرين بقيت عاصمة اسبانيا موالية، بلا حماسة، للجمهوريين الى ان دخلتها قوات فرانكو في 28 آذار مارس 1939، فأذعنت لها بلا حماسة أيضاً. والشيء نفسه يصح في الانتخابات التي جرت في سنة الذكرى ال25 لوفاة فرانكو، اذ بدت في استعداداتها اقرب الى العادية المطلقة، الا انها في نتائجها لم تكن ابدا كذلك: فقد جاءت الغالبية الساحقة التي حصل عليها "الحزب الشعبي" تخطئة لاستقصاءات الرأي العام، بعدما كانت الاستقصاءات نفسها قد اخطأت في 1996 حين اكدت ان الاشتراكيين بزعامة فيلبي غونزاليس سوف يحرزون نجاحاً آخر. لكن الحديث عن مقدمات الانتخابات يجر الى تناول تلك العادية وأسبابها. فاسبانيا اليوم، التي يسوسها ابناء الحرب الاهلية واحفادها، لم تعد تحمل الكثير مما يذكّر بعهد فرانكو، ولا بالسجالات الصاخبة لعقود خلت. فقد انقضى اكثر من 20 سنة على الديموقراطية المفتوحة في هذا البلد، وعلى الاوروبية الحاسمة. ولهذا يبدي الاسبان حساسية بالغة حيال الارهاب الذي تمارسه منظمة "ايتا" الباسكية لأنه تذكير لهم بماض يحبون نسيانه. فمنذ الانضمام الى الاتحاد الاوروبي في 1986، بقيادة رئيس الحكومة الاشتراكي السابق فيليبي غونزاليس، والذي صدّق عليه رئيس الحكومة الحالي والمحافظ جوزيه ماريا ازنار، غدت الاوروبية بنداً مشتركا واجماعيا بين الاسبان. ولئن كان بعضهم يتحفظ عن وجهها السياسي المتصل بالسيادة، الا ان احدا لا يتحفظ عن جوانبها الثقافية والاقتصادية. وبالمعنى نفسه غدا اقتصاد السوق والاندماج في العالم مشتركاً بينهم، وكذلك الصلة باميركا اللاتينية التي تقوّي حضور اسبانيا في قارتها وتسبغ عليه لوناً مميزا. لهذا فالمشهد السياسي للبلاد، منذ تدشين الديموقراطية في 1977، ينمّ عن بساطة لافتة. فالأساسيات موضع اجماع، والخلاف قائم على التفاصيل والأداء مع حضور متضائل للمسائل الايديولوجية. والى ذاك فالسياسات الوطنية محكومة بعدد محدد من الاحزاب التي يعترف بها الدستور بصفتها "الأدوات الأساسية في المساهمة السياسية"، فيما يقضي قانون الاحزاب للعام 1978 بمنحها تمويلا رسميا على قاعدة عدد المقاعد التي تحرزها في البرلمان وعدد الاصوات التي تنالها. حلقات الوصل ولبلوغ المحطة الحالية تتالت حلقات تصل يومنا هذا ببدايات العهد الديموقراطي. فقد حكم اسبانيا بين 1977 و1982 "اتحاد الوسط الديموقراطي"، وهو محاولة مسيحية ديموقراطية رعاها التكنوقراطي المخضرم ادولفو سواريز، فيما كان حزب المعارضة الأساسي "حزب العمل الاشتراكي الاسباني". وكان الحزبان الوطنيان الآخران اللذان يحظيان بقدر من الاهمية "التحالف الشعبي" الذي ضم الشبان الفرانكويين الأقل تشدداً ممن ترعرعوا في الطور التكنوقراطي من الفرانكوية 1960 - 1975، و"الحزب الشيوعي الاسباني". لكن منذ 1982 انتقل الحكم الى عهدة الاشتراكيين، فيما انشق اتحاد الوسط الى عدد من احزاب اصغر ليحل محله، بوصفه الطرف المعارض الأساسي، التحالف الشعبي بزعامة أزنار، والذي سمّى نفسه، منذ 1989، "الحزب الشعبي". أما الشيوعيون فحصدوا نتائج بائسة جدا في انتخابات 1982، لينتقلوا في 1986 الى تزعم ائتلاف عُرف ب"اليسار الموحّد". وجاء انشاء "اليسار الموحد" هذا، الذي ضم بعض الخضر وبعض اقصى اليسار، ليقرّبهم جميعاً من نسبة 10 في المئة من الاصوات. لكن انشاءه اتى، بدوره، ضربة ماهرة من امينه العام الحالي فرانشيسكو فروتّوس الذي "خبّأ" الشيوعية واسمها وراء "اليسار الموحد"، فيما راح اقطاب هذا التحالف يؤكدون على نيّتهم كسب الطبقات الوسطى المدينية. بيد ان بساطة المشهد السياسي لاسبانيا ليست مطلقة. فهناك قدر من التعقيد يضفيه وجود احزاب على نطاق جهوي فقط، اذ ثمة حزب واحد على الاقل في كل من اقاليم الحكم الذاتي ال17، والأهم بينها "التلاقي والوحدة" الكاتالوني و"الحزب القومي الباسكي". وفي ظل قيادة جوردي بوجول إي سولاي، صار "التلاقي والوحدة" يتبوأ السلطة في كاتالونيا منذ انشاء الاقليم في 1979، كما يحصد نتائج جيدة في الانتخابات الوطنية. اما "القومي الباسكي" فيقود حكومة الباسك منذ انشائها في 1980 ويحصد عددا من مقاعد الاقليم في مجلسي الشيوخ والنواب. أزنار وألمونيا حين ترشح ازنار 47 عاماً للمرة الاولى في 1996 لعب خصومه ورقة ماضيه كشاب فرانكوي، كما اكدوا على افتقاره للكاريزما في مواجهة زعامة كاريزمية كتلك التي يمثّلها غونزاليس الذي قاد التحول الديموقراطي لبلاده. لكن ازنار في ترشيحه الثاني بعد اربع سنوات في الحكم، يبدو وقد نجح في الامتحان نجاح حزبه في الانتقال الى موقع ديموقراطي وسطي. وقد جاء انتصاره الكاسح قبل ايام يؤكد ذلك. والحال ان ازنار بذل جهودا كبيرة لفصل حزبه عن ماضيه. وهو الآن لا يكف عن تسجيل اعجابه بتوني بلير الذي غدا الاعجاب به عادةً شائعة، وبمحاولة بلير التخفيف من غلواء "الادلجة". ولاعادة انتخابه راهن رئيس الحكومة الحالي، وهو مفتش ضرائب سابق، على النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي اللذين شهدهما عهده. لكن استقصاءات الرأي العام التي سبقت الانتخابات رجّحت ألا يتفوق "الحزب الشعبي" على خصومه الا بفارق ضئيل، سيما بعدما ائتلف الاشتراكيون و"اليسار الموحد"، واضعين معظم خلافاتهم جانباً. وهكذا لجأ اليمين الى استحضار اشباح الماضي. فقد ركز "الشعبيون" في دعايتهم على التحالف الاشتراكي مع الشيوعيين، وهو ما تم للمرة الاولى منذ الحرب الاهلية في الثلاثينات. فرأى ازنار ان التحالف هذا "يُرجعنا الى ماض لا يريده أحد"، وذهب بعض وزرائه خطوات ابعد معتبرين ان ادارة اشتراكية - شيوعية تعني خرابا اقتصاديا وانهاء لعضوية اسبانيا في منطقة اليورو واخراجا لها من الناتو. وكانت هذه مبالغات بطبيعة الحال، خصوصا ان الاشتراكيين هم من ادخلوا البلد في ما يُتهمون بالعمل للخروج منه. لكن اذا صح ان الحزب الشعبي لعب اوراقه في الحدود التي تجيزها المنافسة الانتخابية، بقي لافتاً ان المزايدة تدور حول الراوابط الاوروبية والغربية بصفتها القضايا الاكثر شعبية. ولم يتردد المحامي جواكين المونيا 51 عاماً، القائد الاشتراكي الذي رشحه حزبه لرئاسة الحكومة، في اتهام ازنار باحياء تآمرية اليمين القديمة عن "الخطر الأحمر"، واعتبار ان تكتيكات التخويف تدل على خوف المحافظين من النتائج. ولم يتردد القائد الاشتراكي في التعويل على ان مانيفستو الحملة المشتركة التي تضم محازبيه الى الشيوعيين، شديد التناغم مع خطهم المعتدل. والمونيا الذي تبوأ قيادة حزبه في 1997، مع استقالة غونزاليس بسبب هزيمة 1996 الانتخابية، كان عمل مرتين وزيرا في ظله. وقد تبنّاه غونزاليس لمشاطرته اياه الرغبة في تحديث الحزب ودفعه الى الاعتدال، رغم خسارته في الانتخابات الحزبية امام جوزيف بورّيل "اليساري". الا ان فضيحة اتصلت باثنين من مساعدي بورّيل في كاتالونيا، انهت حياته السياسية، من دون ان تحرر المونيا من صورته ك "صنيعة غونزاليس" ومن تهمة الافتقار الى الشرعية الحزبية. الجبهة الاشتراكية - الشيوعية على ان التحالف الانتخابي مع الشيوعيين و"اليسار الموحد"، هو ما بدا في لحظته انجاز المونيا الأهم، اذ منذ رحيل فرانكو وحزبا اليسار الأساسيان في منافسة محمومة على اصوات الطبقة العاملة. فالاتفاق التاريخي المستوحى من الائتلاف الحاكم في فرنسا، كان من الطبيعي ان يخيف ازنار وحزبه. ذاك ان الاشتراكيين والمجموعات اليسارية حصلت في انتخابات 1996 على ما مجموعه 48 في المئة من الاصوات. وقد استنتج المونيا ان اليسار بطرفيه، اي ما يزيد ب 5،2 مليون صوت عما ناله الحزب الشعبي، يمكن ان يزيح الاكثرية الحاكمة شرط ان لا يتبادل الاشتراكيون والشيوعيون التشطيب كما فعلوا في 1996. فقد انتصر ازنار آنذاك ب39 في المئة من الاصوات، اي بما يزيد ب 1 في المئة فقط عما ناله الاشتراكيون وحدهم، ليشكل حكومته بالائتلاف مع احزاب المناطق. لكن الزعيم الشيوعي فروتوس كانت له الحصة الكبيرة الاخرى في التوصل الى هذا الاتفاق. وهذا، بدوره، ما يتصل تاريخه بتاريخ الشيوعية الاسبانية: فبعد القائد التاريخي للحزب سانتياغو كاريّو، الذي دمج بين دعوته "المرنة" الى "الشيوعية الاوروبية" وبين الحديدية التي حكم بها حزبه وحياته الداخلية، جاء خوليو إنغيتا، النظري وداعية الصفاء الايديولوجي بحيث سمي "آية الله" الشيوعي. واتبع انغيتا، بلا هوادة، سياسة التصدي لغونزاليس وبدايات سيره في الخصخصة والنيوليبرالية وما يترتب من فساد. وبسياسته هذه ادى خدمات جلى لليمين، قبل ان يتقاعد على اثر ذبحة قلبية المّت به العام الماضي. وهكذا حل محله "الشاطر" والزعيم النقابي لعمال النسيج فرانشيسكو فروتّوس 61 عاما الذي كان من النزلاء الدائمين لسجون فرانكو، مستفيداً من عِبَر نهج التطرف السابق ومراهنا على التحالف مع الاشتراكيين. عقاب الاشتراكيين المستمر لقد جاءت نتيجة الانتخابات الأخيرة لتدل على ان الميل الى معاقبة الاشتراكيين لا يزال قائماً. فهم، بعدما حكموا من دون انقطاع، من 1982 حتى 1996، راكموا فضائح يصعب ان لا تتراكم في زمن طويل كهذا. وقد رأى كثيرون ممن صوتوا لأزنار في 1996 انهم "ضجروا" من صورة غونزاليس ووزرائه على الشاشة! ولئن خسروا في تلك الانتخابات حوالي مليون صوت، فان محاولة تعويضهم في الانتخابات الأخيرة، لم تعط الا نتائج معاكسة. ويبدو، بقراءة النتائج، ان الفساد لا يزال يلعب ورقته ضدهم، مع انهم اتهموا ازنار بان المديرين التنفيذيين الذين عيّنهم لمشاريع الدولة التي خُصخصت لاحقاً هم من شلّته، او انهم الاوليغاركيا التي نمت بذريعة نشر "الرأسمالية الشعبية" على الغرار الثاتشري. اما فضيحة الفساد التي طاولت الشعبيين فارتبطت باسم وزير العمل بيمنتِل الذي تداخلت الاموال العامة بأموال زوجته، فاستقال فوراً على رغم مبررات كثيرة لبقائه وبراءته. كذلك ركز الاشتراكيون حملتهم على خوان فيلالونغا، وهو زميل دراسة لازنار عيّنه مديرا لشركة تيليفونيكا قبل خصخصتها، وانتهى ثرياً. لكن يبدو ان الحملة فشلت في تحويل الفساد سلاحاً ضد ازنار، لا سيما ان صورته ارتبطت بتشدد في مكافحته غير معهود في الاشتراكيين. وهكذا تمكن الشعبيون من خوض الانتخابات مؤكدين على سجّلهم الاقتصادي أساساً: ادخال اصلاحات على النظام الضريبي وسوق العمل وتقليص البطالة من 23 الى 15 في المئة، وهذا كله مصحوبا بدعوات متشددة في تأييد الخصخصة، ورفض سياسات التدخل الحكومي. ولئن عزا بعضهم هذا التشدد البالغ الى ان الشعبيين هم الحزب اليميني الوحيد الذي لا يزال يحكم بلداً اوروبيا كبيراً، الا ان الاشتراكيين لم ينجحوا في الاستفادة من نقدهم المتقطّع والفاتر لهم الا بالقدر الذي نجحوا في تنظيف صورتهم هم انفسهم. فقد دارت حجج المونيا على ان مصالح "البيزنس"، بمن فيهم دائرة ازنار، هم الذين قطفوا معظم عائدات النمو الاقتصادي، فطغت عليها مسحة اخلاقية اضعفها عدم تماسكها مع الرصيد الاشتراكي السابق، فضلاً عن ضعف كاريزمية المونيا نفسه. ويبقى اهم نتائج الأحد الماضي ان الشعبيين رفعوا حصتهم في البرلمان من 156 نائباً الى اكثرية مطلقة عدادها 183 مقعداً من اصل ما مجموعه 350. وهذا يعني انهم لن يكونوا بحاجة الى التحالف مع الاحزاب الصغرى للمناطق كي يحكموا. بيد ان نتائج اخرى تترتب على هذا الواقع المستجد: فمن جهة يمكن ان يذهب ازنار، بالاكثرية التي يملكها، الى مزيد من الخصخصة والتحرير الاقتصادي، ومن جهة اخرى يرجّح ان يعتمد مزيداً من الصرامة مع مطاليب مناطق الحكم الذاتي، وهو ما كان يردعه عنه التحالف مع احزاب هذه المناطق. اما الاشتراكيون فانخفضت حصتهم من 141 مقعداً الى 125، فيما انخفضت مقاعد "اليسار الموحد" انخفاضاً كارثياً: من 21 الى 8. والنتيجتان معاً تحملان على افتراض سقوط الجيل القيادي الحالي للاشتراكيين والشيوعيين ممن تبين ان الائتلاف لم يسعفهم. والمطروح الآن على جبهة اليسار، خصوصاً بعد استقالة المونيا من قيادة حزبه بعيد ظهور النتائج، هو: كيف سيتم احلال جيل جديد محل الجيل الحالي بحيث تُحدث اسبانيا نقلة اخرى في اتجاه القطع مع أدوات الماضي، بعد ان احدثت نقلتها في القطع مع الماضي. وهذا ما اوجزه معلّق في "الموندو" بقوله: "صحيح ان غونزاليس والمونيا وفروتوس اخذوا احزابهم بعيداً، الا ان المسافة التي قطعوها عن مصادرهم لا تزال اقصر من تلك التي قطعها ازنار عن مصدره الفرانكوي"