لم تسفر الانتخابات المحلية التي جرت في بلاد الباسك الاحد 25 من تشرين الأول أكتوبر الجاري عن أي جديد في التوازن السياسي بين الاحزاب الاقليمية الباسكية من جانب، والاحزاب الاسبانية القومية من جانب آخر، على رغم توقعات المراقبين الذين أكدوا ان اعلان وقف ممارسة العنف من جانب منظمة "ايتا" قبل ما يقرب من شهرين، يمكن ان يرسم خريطة سياسية جديدة في المنطقة. ومن خلال تلك الخريطة الجديدة يمكن اجبار الحكومة المركزية في اسبانيا على الدخول في محادثات مباشرة مع المنظمة الانفصالية يشبه المحادثات التي جرت في ايرلندا الشمالية، وشارك فيها الجيش الجمهوري عن طريق جناحه السياسي المتمثل في "الشين فين" بزعامة جيري آدمز. أبرز نتائج الانتخابات الباسكية الأخيرة ان خريطة البرلمان المحلي لا تزال تضم 41 مقعدا للأحزاب المحلية المتمثلة في الحزب الوطني الباسكي الذي حصل على 21 مقعدا مكررا فوزه في الانتخابات التي جرت قبل اربع سنوات، و 14 مقعدا حصل عليها الحزب الباسكي اليساري الجديد الذي حل سياسياً محل حزب "ايري باتاسونا" الذي يعتبر الجناح السياسي لمنظمة ايتا، اما الاحزاب المركزية التي تتبع سياسة قومية في كامل اسبانيا، حصلت على 34 مقعدا، مكررة فوزها في الانتخابات السابقة مع تغيير فقط في عدد المقاعد التي حصل عليها كل حزب. طبقاً لهذه النتيجة لا يمكن القول بأن هناك مفاجآت حدثت في هذه الانتخابات كما كان يتوقع البعض، وخصوصاً الدوائر المحيطة بالجانب الراديكالي الذي يطالب بانفصال بلاد الباسك عن اسبانيا وإقامة "وطن قومي باسكي"، يضم ايضاً الاراضي التي تقع جنوبفرنسا ويعتبرونها تاريخياً جزءا من هذا الوطن القومي، لكن تغييراً طفيفاً حدث في داخل كل تكتل، نتج عنه تغيير في التشكيل الداخلي لكل تكتل، من دون ان يسفر ذلك عن تغير في توازن القوى السياسية التي تحتل الفضاء السياسي لبلاد الباسك منذ عودة الديموقراطية الى اسبانيا بعد موت الجنرال فرانكو عام 1975. التشكيل السياسي الجديد زحفت فيه بعض القوى المتشابهة على بعضها بعضاً، وحصل بعضها على مقاعد فقدتها قوى اخرى. هذا حدث بين الحزب الوطني الباسكي وحزب "ايسكو اركارتاسونا" الإقليميين اللذين خسرا 4 مقاعد لصالح الحزب الباسكي اليساري الجديد. اما الجانب الذي يضم الاحزاب المركزية مثل الحزب الاشتراكي الاسباني والحزب الشعبي حصلا على مقاعد جديدة على حساب حزب اليسار المتحد، وحزب "اتحاد الابيس" اليميني المحلي، اذ ذهبت بعض مقاعد حزب اليسار المتحد الى الحزب الاشتراكي، بينما حصل الحزب الشعبي اليميني على ما خسره حزب "اتحاد الابيس"، الذي يعتبره المحللون السياسيون جناحاً يمينياً في بلاد الباسك للحزب الشعبي. لذلك وطبقاً لهذه الخريطة السياسية الجديدة، يبدو ان القناعات السياسية لسكان بلاد الباسك لم تتغير عموماً بتغير موقف منظمة "ايتا" الانفصالية، ولم يكن التغير سوى في نسبة الاقبال على صناديق الاقتراع التي تعدت نسبة 70 في المئة، بزيادة 11 في المئة عن نسبة المشاركة الانتخابية خلال الانتخابات التي جرت قبل اربع سنوات، وربما كانت هذه النسبة العالية من المشاركة في هذه الانتخابات وراء صعود الاحزاب المركزية، التي وجد ناخبوها انفسهم امام امكان التصويت للاحزاب التي يعتنقون افكارها السياسية من دون خوف من رصاص منظمة "ايتا"، الذي راح ضحيته ما يقرب من الف قتيل خلال ال 20 سنة الاخيرة، منهم ستة من الاعضاء السياسيين البارزين في الحزب الشعبي، سقطوا قتلى على ايدي اعضاء المنظمة الانفصالية خلال الاشهر الستة الاخيرة. إزاء هذه النتيجة التي جاءت بعد انتخابات فشل خلالها الحزب الوطني الباسكي في الحصول على غالبية تمكنه من تسيير دفة المحادثات المباشرة بين منظمة "ايتا" والحزب الشعبي الحاكم في مدريد، واصبح من الصعب على هذا الحزب ان يشكل حكومة جديدة لحكم اقليم الباسك طبقا لقوانين الحكم المحلي الاسبانية، ما لم يتراجع عن شعاراته التي رفعها خلال الانتخابات الاخيرة، التي حاول خلالها ان يؤكد انه كان وراء اعلان وقف العنف من جانب المنظمة. والصعوبة تكمن ايضا في ان الحزب اليساري الجديد، الذي اصبح يشكل الآن الجناح السياسي لمنظمة "ايتا" يرفض التحالف مع الحزب الوطني الباسكي لتكوين حكومة محلية ذات طابع وطني باسكي، لخلافات أيديولوجية بين الطرفين. فالحزب الوطني الباسكي يعتبر سياسته اكثر اعتدالاً، بينما لا يزال برنامج الحزب اليساري الجديد يرى ان الهدف النهائي هو الاستقلال الكامل عن اسبانيا، وهو الامر الذي يقلق الاوساط السياسية الاسبانية، لأن اصرار الجناح السياسي لمنظمة "ايتا" على التمسك بالاستقلال الكامل، يعني ان المنظمة يمكن ان تجد نفسها في مأزق جديد، لأن جناحها السياسي غير قادر على تحقيق الهدف النهائي للمنظمة، فتعود الى عمليات الاغتيال من جديد. لكن الاتفاق الواضح في الافكار بين الحزب الوطني الباسكي والحزب الشعبي على مستوى الحكومة الاسبانية التي يرأسها اليميني المحافظ خوسيه ماريا ازنار، الذي يحكم بحكومة اقلية يدعمها الحزب الوطني الباسكي بأصواته المحدودة في برلمان اسبانيا، هذا الاتفاق يمكن ان يكون الطريق نحو تشكيل حكومة باسكية محلية بين الحزبين، وان كان المراقبون السياسيون يرشحون الحزب الاشتراكي ليكون شريكا للحزب الوطني الباسكي، كما كان شريكا له في الحكومات السابقة، وذلك لأن برنامج الحزب الاشتراكي في بلاد الباسك اكثر قربا من برنامج الحزب الوطني الباسكي، والخلاف بينهما في الايديولوجية والحكم الذاتي فقط. اما الحزب الشعبي الحاكم في العاصمة مدريد، فإنه يتوافق حاليا في الافكار مع الحزب الوطني الباسكي على السياسة العامة للدولة لكنه يعتبره منافساً سياسياً في بلاد الباسك، والاتفاق معه على تشكيل حكومة محلية يعني فقدانه لفضائه السياسي في الاقليم. بعيداً عن هذا التركيب المعقد في التشكيل السياسي القائم في بلاد الباسك، فإن جميع الاحزاب محلية وقومية تترقب بقلق الخطوة التالية التي يمكن لمنظمة "ايتا" ان تقبل عليها، لأنه طبقا لما سوف تكون عليه تلك الخطوة، يمكن التنبؤ بالمستقبل السياسي لبلاد الباسك في اطاره الجديد الناتج عن الهدنة التي اعلنتها "ايتا" قبل ما يقرب من شهرين، ورهانها على طريق يشبه الطريق الايرلندي، على رغم عدم قبول القوى السياسية الرئيسية في اسبانيا لهذه المقارنة بين القضيتين. لكن من الواضح ان تلك الهدنة سوف تكون نهائية، وان المباحثات المباشرة بين الحكومة المركزية الاسبانية وممثلي منظمة "ايتا" ربما يتم الاعلان عنها في اية لحظة، الا انها سوف تكون طويلة وصعبة، وليس من السهل التنبؤ بنتائجها النهائية.