في 4 أيار مايو 1996، صار جوزيه ماريّا ازنار لوبيز، قائد "الحزب الشعبي" لوسط - اليمين، رئيساً جديداً لحكومة اسبانيا. فمفتّش الضرائب السابق الذي لم يكن كثيرون خارج حيّه قد سمعوا به، ألحق الهزيمة بالزعيم الاشتراكي والكاريزمي الذي ارتبط باسمه تحول اسبانيا عن الفرانكوية نحو الديموقراطية: فيليبي غونزاليز ماركيز. ومع أن انتصار ازنار في انتخابات 3 آذار مارس من ذاك العام تحقق بفارق ضئيل، إلا أنه كان كافياً لإنهاء قرابة 14 عاماً من حكم اشتراكي متواصل اتصف طوره الأخير بالترهل والفساد. هكذا كُتب لهذا الرجل المغمور، والعديم الكاريزمية الذي يقرأ خطبه المعدّة ببغاوية فلا يخرج عن حرف من حروفها، ان يصير رمز تحول كبير تعيشه أصغر ديموقراطيات أوروبا الغربية سناً. ولد أزنار في 25 شباط فبراير 1953 في مدريد العاصمة. ومع أن جده وأباه عملا في الإدارة الحكومية لعهد فرانكو الممتد من 1939 حتى 1975، إلا أن أزنار الشاب تأثر بآخر السنوات الفرانكوية وتشكّل وعيه ابانها. ذاك ان العهد الديكتاتوري شرع منذ 1960، تحت وطأة عزلته وأزمته الاقتصادية، يلين ويرتخي. هكذا جعل ينفتح على قارّته ويُحلّ البدائل التكنوقراطية حيث حلّت الصرامة الايديولوجية من قبل. وبعد تخرجه من جامعة مدريد، وابان عمله مفتش ضرائب في السبعينات ومطالع الثمانينات، بات جوزيه ماريّا الشاب عضواً ناشطاً في "التحالف الشعبي" اليميني الذي تأسس في تشرين الأول أكتوبر 1976 بنتيجة اندماج مجموعات سبع حول شخص القطب الفرانكوي المعتدل مانويل فراغا إيريبارن. وكان لأزنار تالياً دور محوري في نقل حزبه إلى المركز والوسط تجاوباً مع رياح التغيير التي جعلت تهب على اسبانيا بعيد رحيل الديكتاتور في 1975، فكافأة الحزب بانتخابه وريثاً لقائده المسنّ اريبارن. وما ان حصل التحول هذا، وكان ذاك في 1989، حتى غُيّر اسم الحزب ليصير "الحزب الشعبي"، كما لو ان القائد الجديد ينوي اعادة تأسيس وصولا الى تعديل الرمز والايحاءات الضمنية أيضاً. هذا المسار الحزبي وازاه مسار انتخابي بدأ في 1984 حين انتُخب ازنار نائباً في الكورتيس البرلمان عن أفيلا، ليتم اختياره في 1987 - 89 رئيساً لاقليم كاستيل - ليون، لكنْ قبيل اختياره قائداً لحزبه انتخب ثانية إلى البرلمان كممثل عن مدريد العاصمة هذه المرة. في هذه الغضون مضى في إصلاح الحزب، فتخلّص من شخصيات عُرفت بقربها من فرانكو، مشجعاً على انخراط النساء والشبيبة وممعناً في تقطيع ما تبقى من أواصر تجمع الحزب بتنظيمات الهامش اليميني المتطرف. وفي 1995، وبعد إصابة طفيفة ألمّت به من جراء عملية ارهابية نفذتها منظمة "إيتا" الباسكية، دشّن ازنار الحملة الانتخابية التي نقلته إلى صدارة الحياة السياسية لبلده. أما المادة الخصبة لحملته فاستقاها من الفضائح الكثيرة التي تورّطت بها حكومة غونزاليز، مستخلصاً أنه الاوان كي يرحل الحزب الاشتراكي ويحل محله حزب "نظيف". وكان من مفارقاته آنذاك، والتي ستتكرر لاحقاً، انه استطاع تحويل شخصيته غير الكاريزيمية لمصلحته، فأكّد على "عاديته" وعلى صيته الحسن الذي يثير الاطمئنان بعيداً عن المغامرات غير المحمودة العواقب. لكنه في سعيه إلى رئاسة الحكومة بدا مضطراً، هو الذي لا يملك أكثرية مطلقة، إلى الائتلاف مع الأحزاب المناطقية في الباسك وكاتالونيا. واستطاع، هكذا، ان يحكم تبعاً للمحاور الآتية: 1- الانفتاح على أوروبا واليورو، والعالم الأطلسي والناتو. 2- سياسة الخصخصة والتحرير الاقتصادي. 3- التصلب في مواجهة الارهاب الباسكي. 4- مناوأة التطرف يسارياً كان أم يمينياً، بدليل موقفه من تسلّم بينوشيه، ومعارضته مشاركة حزب يورغ هايدر في حكومة النمسا. فما أن حلّت انتخابات الأحد الماضي حتى حصد ازنار أكثرية ساحقة لم يتوقعها المراقبون ممن ظنوا ان حزبه سيأتي أولاً لكنه لن يأتي أكثرياً. وهذه النتيجة التي لن يحتاج بعدها إلى دعم أحزاب المناطق والأقاليم، قد تسمح له بالذهاب أبعد في الخصخصة وفي مكافحة الارهاب. أما الأسباب التي سمحت ل"الحزب الشعبي" بأن يكون الحزب "اليميني" الوحيد الذي يحكم بلداً كبيراً من بلدان أوروبا الغربية، وبمثل هذه الأكثرية، فأهمها النجاح الاقتصادي الذي تحقق في السنوات الأربع الماضية على اصعدة البطالة والتضخم والعجز، وحسّ الاستقرار والتوطيد لما سبق ان انجزه غونزاليز على جبهة الانتقال إلى الديموقراطية، وعدم صفح الاسبان عن الاشتراكيين وفسادهم. وهذا فضلاً عن ان درجة تحديث أزنار لحزبه، وهو المعجب بتوني بلير البريطاني، ومسافة نزوحه عن الفرانكوية، فاقتا درجة تحديث اليساريين لأحزابهم ومسافة عبورهم عن تقاليدهم القديمة، علماً أنهم عبروا شوطاً لا بأس به. وهكذا لم يسعف الاشتراكيين والشيوعيين التحالف الانتخابي الذي عقدوه في ما بينهم للمرة الأولى منذ الحرب الأهلية، فتراجعت حصة الحزبين معاً في مقاعد الكورتيس. وتبيّن أن الاسبان لا يريدون، بعد كل حساب، ان يتذكروا شيئاً يمكن ان يذكّر بحربهم الأهلية. وهناك من يضيف إلى أسباب النجاح، ان الذين تحملوا 36 سنة من حكم فرانكو ثم 14 سنة من حكم غونزاليز، على رغم الفوارق الضخمة بين المذكورين، يريدون الآن ان يستقروا قليلاً في ظل الزعامة "العادية" والمطمئنة التي تتعاقد معهم يوماً بيوم.