ان الملاحظات التي سجلناها في المقال السابق ضرورية، في ما نعتقد، لفهم واقع المجتمع العربي ونوعية التطور الذي يفرز فيه ما يمكن ان نسميه "المجتمع المدني"، سواء كمفهوم او كواقع معيش. ولا يملك المرء الا ان يعبر عن الأسف من كون الدراسات التي تناولت المجتمع المدني والتطور الديموقراطي في الاقطار العربية، خلال العقود الاخيرة، لم تكن تستحضر بما فيه الكفاية تلك المعطيات، موضوع الملاحظات السابقة: انها لم تبذل ما يلزم من الجهد لبناء تعريف ل"المجتمع المدني" مستمد من واقع البلدان، موضوع الدراسة، ولا قامت بتحليل المجتمع في هذه البلدان كما هو. وهي لم تطرح النتائج المحتملة لكل عملية ديموقراطية تنطلق من انتخابات نزيهة، ولم تطرح مسألة اساسية في هذا الصدد، وهي مسألة التعايش الضروري في المرحلة الراهنة بين مختلف النخب والقوى الفاعلة في المجتمع. وأخيراً لم تطرح هذه الدراسات موقف الغرب من القوى الوطنية العصرية وغيرها في العالم العربي والموقف الذي ينبغي ان تتخذه منه هذه القوى. ذلك لأن ترتيب العلاقات مع الغرب مسألة ضرورية وأساسية في كل عملية تستهدف بناء المجتمع المدني وتحقيق التحول الديموقراطي في الوطن العربي. وفي الفقرات التالية مزيد بيان. * * * اذا كان من الجائز، او حتى من الطبيعي او الضروري، ان يختلف الباحثون حول تعريف "المجتمع المدني"، فإن هناك واقعة اساسية وبديهية لا يمكن ان تكون موضوع خلاف، وهي ان المجتمع المدني هو، اولاً وقبل كل شيء، مجتمع المدن، وان مؤسساته هي تلك التي ينشئها الناس بينهم لتنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. فهي اذاً مؤسسات ارادية او شبه ارادية يقيمها الناس وينخرطون فيها او يحلونها او ينسحبون منها، وذلك على النقيض تماماً من مؤسسات المجتمع البدوي القروي التي تتميز بكونها مؤسسات "طبيعية"، يولد الفرد منتمياً اليها مندمجاً فيها، لا يستطيع الانسحاب منها، مثل القبيلة والطائفة. وإذاً فالبحث في حضور او غياب مؤسسات المجتمع المدني، في قطر من الاقطار، لا بد ان ينطلق من النظر في وضعية المدن في ذلك القطر: هل هي التي تهيمن على المجتمع باقتصادها وثقافتها وسلوكياتها ومؤسساتها ام ان المجتمع البدوي القروي هو السائد: تقاليده وسلوكياته وقيمه وفكره؟ اعتقد انه في ما يخص العالم العربي، كان الأمر ولا يزال واضحاً لا يحتاج الى بيان. كانت البادية والأرياف ولا تزال هي المهيمنة بمؤسساتها وسلوكياتها وتقاليدها وعقلياتها، فضلاً عن هيمنتها الديموغرافية. ليس في الجبال والسهول والصحارى والقرى والأرياف وحسب، بل ايضاً في المدن نفسها التي تتكون الغالبية الساحقة من سكانها من الوافدين عليها ضمن موجات متواصلة في اطار تلك الظاهرة المعروفة، ظاهرة الهجرة من البادية الى المدينة. فكيف تتجلى هذه الهيمنة وما هو تأثيرها في تكوين المجتمع المدني، اعني في افراز النخب الحضرية اساساً، لأن المجتمع المدني انما يتكون، بداية، من النخب، والنخب الحضرية بالتحديد؟ سنغض الطرف هنا عن تاريخ العلاقة بين المدينة والبادية الأرياف: العالم القروي في الوطن العربي، وهي العلاقة التي تشكل محور تحليلات ابن خلدون كما هو معروف، وسنقصر اهتمامنا هنا على العالم العربي الحديث الذي بدأ في التشكل مع بداية مرحلة الاستعمار، المرحلة التي برزت فيها المدينة العربية الحديثة، إما حول المدن القديمة وإما خارجها. وسنركز على نشوء النخب وتطورها. ذلك لأن مؤسسات المجتمع المدني ليست في حقيقة الامر الا الأطر الاجتماعية التي تنظم فعاليات النخب الحديثة السياسية والاقتصادية والثقافية. لقد غرس الاستعمار في الاقطار التي احتلها بنيات الدولة الأوروبية الحديثة، اعني مؤسساتها الاقتصادية والاجتماعية والادارية والثقافية، فعمل بذلك على فسح المجال لقيام نخب حديثة انبثق الجيل الأول منها من الارستقراطية المدنية التقليدية خاصة، اذ كانت اكثر اتصالاً واحتكاكاً بالمستعمر ومؤسساته. ومع النمو النسبي السريع الذي عرفته هذه النخبة، ومع تطور وعيها الوطني الاجتماعي والاقتصادي بالارتباط بحركة التحرر من الاستعمار في العالم، برزت هذه النخبة لتشكل النقيض الذي افرزه "التحديث الاستعماري" من جوفه وجوف المجتمع التقليدي والذي سيقود النضال الوطني من اجل الاستقلال. ومع ان مضمون "الاستقلال" كان ينصرف، اولاً وقبل كل شيء، الى استرجاع السيادة الوطنية، فإنه لا بد من الأخذ في الاعتبار الفرق بين مشروع هذه النخبة الجديدة ورد الفعل الشعبي الذي قادته النخبة التقليدية البدوية - اساساً - التي وقفت في وجه الغزو الاستعماري لدى بدايته. لقد تحركت هذه النخبة التقليدية بدافع واحد هو رد الغازي الاجنبي والحفاظ على الوضع القائم كما هو: وضع المجتمع التقليدي، غير "المدني"، مجتمع القبيلة، والطائفة ودولتهما. اما النخبة الحديثة التي افرزها التحديث الاستعماري، والتي قامت تطالب بالاستقلال، فقد كانت تحمل مشروعاً تحديثياً قوامه اضفاء الطابع الوطني على المؤسسات والبنيات الحديثة التي حملها معه الاستعمار، ثم تنميتها وتأميمها لتشمل وتؤطر فعاليات المجتمع بأسره، وبكلمة واحدة كانت تحمل مشروع تأسيس دولة حديثة وإرساء مؤسسات المجتمع المدني. ومن دون الدخول في تفاصيل، لا حاجة الى التذكير بها هنا، نركز فقط على واقعة اساسية تنظم عملية التطور الاجتماعي الذي عرفته الاقطار العربية منذ النضال من اجل الاستقلال الى اليوم، هذه الواقعة هي تعاقب النخب بوتائر سريعة على شكل النقيض الذي يخرج من جوف الشيء، هذا التعاقب الذي يمكن ان نرسم له الصورة التخطيطية العامة التالية: هناك اولاً النخبة التي قادت الحركة الوطنية من اجل الاستقلال والتي خرجت، كما قلنا، من جوف الارستقراطية المدنية التقليدية بفعل "صدمة الحداثة" الناجمة عن الاحتكاك بالغرب الغرب المستعمر والغرب النموذج والمثال في آن. هذه النخبة التي عملت على تجنيد "الشعب" وتوعيته وساهمت في نشر التعليم الحديث في صفوفه، سرعان ما ستجد نفسها امام نقيض يخرج من جوفها، اعني من داخل الحركة الوطنية التي تتولى قيادتها، نقيض تقوده عناصر لا تنتمي الى دائرة ارستقراطية المدن، بل هي في الغالب من الفئات التي سكنت المدن في اطار الهجرة الحديثة من البادية الى المدينة التي عرفت منطلقها مع بداية المرحلة الاستعمارية. يتعلق الأمر اساساً بنخبة جديدة تقف في الصف الثاني وراء النخبة القيادية لتطالب بالانتقال بالنضال الوطني من مجرد العمل السياسي السلمي "المدني" الحزبي، الى المواجهة والصدام تظاهرات، اضرابات، مقاومة مسلحة تحت ضغط عناد المستعمر وأنانيته، فتكتسب بذلك مكانة وشرعية تمكنانها من مزاحمة النخب القديمة على قيادة الحركة الوطنية ومشروعها التحريري مزاحمة جدية. ومع نيل الاستقلال تدخل العلاقة بين النخبتين في تناقض صريح اساسه، هذه المرة، ليس الاختلاف حول طريقة مواجهة المستعمر، بل اختلاف الموقع والمنزلة على صعيد السلم الاجتماعي وما يرتبط بذلك من مصالح ومكاسب توفرها دولة الاستقلال. لقد تسلمت النخبة المتحدرة من الارستقراطية المدنية التقليدية مقاليد الأمور في دولة الاستقلال، وكان ذلك امراً طبيعياً لأنها وحدها كانت المؤهلة لذلك بحكم خبرتها السياسية وموقعها الاجتماعي ومستواها الثقافي، وأيضاً بحكم علاقتها "السلمية" او التي اصبحت كذلك مع الدولة المانحة للاستقلال على مائدة المفاوضات. وهكذا ستنهمك هذه النخبة التي حكمت غداة الاستقلال في عمليتين متناقضتين: 1 - تعزيز مواقعها الاقتصادية والسياسية والثقافية، مما سيعمق الهوة ويذكي التناقض بينها وبين النخبة الناشئة، النخبة "النقيض" من جهة. 2 - العمل من جهة اخرى على تلبية بعض المطالب الشعبية الملحة، وبكيفية خاصة على مستوى التعليم والتشغيل، الشيء الذي سيمد النخبة "النقيض" تلك بروافد جديدة تتطلع هي الاخرى الى مواقع افضل ومنازل اعلى. وإذا أضفنا الى هذا وذاك ضغوط الاستعمار الجديد، الذي كان يقيم العراقيل تلو العراقيل أمام دولة الاستقلال ويحول دونها ودون تحقيق مشروعها الوطني، ادركنا كيف ان الاختلاف حول طريقة مواجهة الاستعمار سيقفز إلى السطح مرة اخرى ليقدم للصراع حول المواقع والمنازل غطاء ايديولوجياً مستمداً من "الفكر الوطني" الذي اصبح الآن يتغذى اكثر من اي وقت مضى من ايديولوجيا حركة التحرر الوطني العالمية ذات الميول الثورية والاتجاه الاشتراكي. وهكذا تأتي الخطوة العملية مبررة، اذ سيقوم "الضباط الاحرار" في الجيش، او "العناصر الراديكالية" في الحزب بالاستيلاء على السلطة، في الدولة او الحزب او فيهما معاً، ناطقين باسم النخبة الجديدة القروية البدوية في الأصل التي ينتمون اليها والتي اصبحت "وحدها" تمثل الشعب، متخذين منها وسيلتهم "المدينية" لبسط الهيمنة على جسم المجتمع كله. وتدور عملية التطور دورة اخرى مماثلة تذكرنا بالدورة الخلدونية. تنهمك النخبة الحاكمة بعسكرييها ومدنييها في مزاحمة النخبة القديمة على مواقعها الاقتصادية والسياسية والثقافية وانتزاعها منها، كلا او بعضاً، وخلق مواقع ومنازل جديدة لأعضائها من جهة، وفي الوقت نفسه تنصرف، من جهة اخرى، الى "البناء والتشييد"، الى انشاء بنيات جديدة صناعية وفلاحية وثقافية في جو من الصخب الاعلامي، توظف فيه شعارات الايديولوجيات الثورية، فتكون النتيجة تعميم الوعي الاجتماعي بالفوارق الطبقية واحتكار المواقع. وتضيق منجزات هذه النخبة التي اصبحت تحتكر الدولة والقطاع العام، تضيق عن استيعاب الافواج الجديدة من الباحثين عن الشغل وفي مقدمهم خريجو الجامعات والمعاهد العليا، فيبدأ "النقيض" الجديد في التشكيل على صورة نخب جديدة، تقفز الى السطح وكأنها على موعد تاريخي مع فشل النخبة الحاكمة صاحبة "دولة الثورة" في تحقيق شعاراتها والتزاماتها، وبالتالي دخولها في ازمات اقتصادية وسياسية تزيدها المديونية الخارجية الثقيلة المتورمة باستمرار استفحالاً واستشراء، فلا تجد النخبة الحاكمة ما تواجه به المطالب الشعبية الا الامعان في القمع الذي لم تعد تبرره الشعارات الثورية كما كان الشأن في الماضي. فترتفع اصوات تطالب بالديموقراطية وهي في الغالب منبعثة من صفوف النخب القديمة المزاحة عن السلطة، او من فروعها وامتداداتها التي لم تنل بعد نصيباً منها، الى جانب اصوات اخرى اوسع مدى وأقوى دوياً، في الوقت الراهن، وفي مقدمها جماعات ترفع شعار "الاسلام هو الحل". انها اصوات "النقيض" الجديد، اعني النخب الجديدة التي افرزتها مرة اخرى عملية التطور التي ابرزنا سماتها: الانتقال من البادية الى المدينة، ومن الهوامش الى المركز عبر انتشار التعليم والوعي بالحاجة الى الارتقاء على سلم الموقع والمنازل. ثلاثة اجيال من النخب المتعاقبة على مسرح التاريخ العربي المعاصر - وبخاصة في الاقطار العربية الاكثر تطوراً والأقرب الى ظهور المجتمع المدني فيها - يعرف ابناء كل قطر عربي زعماءها وقادتها، فلا حاجة الى ذكر اسمائهم. ولذلك سننصرف الى التركيز على ما يجمع بينها، وهو "الخوف" من نتائج الديموقراطية