"لقد حان الوقت كي تقرأ الروايات التي تكتبها نساء كنصوص روائية بدلاً من قراءتها كبيلو غرافيا، وحان الوقت كي تقرأ هذه الروايات كأدب وليس كسجلات اجتماعية". بهذه النبرة العالية، تفتتح بثينة شعبان كتابها "مئة سنة من الرواية النسائية العربية" الصادر أخيراً عن "دار الآداب" البيروتيّة، مسددة اصبع الاتهام إلى سجل حافل من المحاولات النقديّة التي طالما نظرت الى الرواية النسوية بعين أقل اهتماماً وجدية، وتعاملت معها بوصفها، في معظمها، "محاولات ثرثرة نسائية، تسجل قصصاً ذاتية ومواضيع غرام فاشل". ولعلّ الباحثة والأديبة والمترجمة السوريّة تشير هنا، على وجه الخصوص، إلى كتابات جورج طرابيشي الذي يرى ان "الرجل في الرواية يعيد بناء العالم، أما بالنسبة إلى المرأة، فإن الرواية هي تركيز للمشاعر". والأمر اللافت في دراسة شعبان عنوان الكتاب الذي يتجاهل على نحو مقصود، ما تؤكد عليه الأدبيات النقدية العربية، في أن أول رواية عربية منشورة، هي رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل العام 1914. إذ تسجّل المؤلفة هنا، ان أول رواية عربية كتبتها امرأة، هي اللبنانية زينب فوّاز، بعنوان "حُسن العواقب"، وصدرت في القاهرة عن المطبعة الهندية العام 1899. وتحصي المؤلفة 13 رواية نسائية، ظهرت قبل رواية "زينب" أبرزها "قلب الرجل" للبيبة هاشم، و"حسناء سالونيك" للبيبة ميخائيل صوايا، و"بديعة وفؤاد" لعفيفة كرم. وتستغرب الباحثة، ان كل الدراسات التي خاضت في نشوء الرواية العربية تجاهلت تلك الروايات. كما تطالب بتصحيح السجلات الأدبية، لأن أي تأريخ لا يضع في الحسبان هذه الأعمال الرائدة، يبقى تأريخاً ناقصاً ومشوهاً، يهدف في جوهره الى "تهميش الكتابات النسائية" والتشكيك بقيمتها الفنية والتخييلية. العسف حيال النص الروائي الانثوي، قاد شعبان الى التنقيب في تاريخ الرواية النسائية في محاولة لاستعادة "الحق الضائع"، ابتداء من كتابات زينب فواز التي كانت تسمى "درة عصرها"، وانتهاء بأحلام مستغانمي وروايتها السجالية "ذاكرة الجسد". في سبرها لروايات مطلع القرن، تكشف المؤلفة ان رواية "بديعة وفؤاد" لعفيفة كرم، سبقت رواية "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم بنحو ثلاثين عاماً، في معالجة علاقة الشرق بالغرب. تجري أحداث الرواية المذكورة بين لبنان والولايات المتحدة، وتروي خلال رحلة على ظهر باخرة هموم النساء العربيات ومشكلات الهوية والحداثة، وقد نشرت هذه الرواية في حلقات مسلسلة على صفحات جريدة "الهدى" في نيويورك. وترى شعبان ان "انبثاق المرأة الجديدة"، جاء مع أعمال ظهرت في خمسينات القرن العشرين، على يد أمينة السعيد "الجامحة"، وكوليت خوري "أيام معه"، وليلى بعلبكي "أنا أحيا"... ففي هذه الروايات وغيرها، محاولة لتلمس انعطافة جديدة في كتابات المرأة، حين بدأت تطرح ذاتها علانية وتطالب بالمساواة بين الجنسين في اعترافات حميمة وجريئة. وفي الستينات، أخذت كتابات النساء تخرج من نطاق الذات الى القضايا العامة على نحو أشمل، في ما يشبه "صحوة الوعي" باستحضار رؤى جديدة، تدعو الى اعتاق الرجال والنساء في آن معاً للدخول في صميم مشكلات المجتمع... وأبرزها تحرير المرأة الذي أصبح ضرورة وطنية وسياسية، خصوصاً بعد حرب 1967، التي أطلقت وعياً جديداً. وتلاحظ الباحثة ان أول فارق بين كتابات الرجال وكتابات النساء حول حرب 1967، ان الروائيين، سموا نتيجة الحرب "نكسة" فيما اطلقت الروائيات اسم "هزيمة" وهذا ما جسدته أعمال لطيفة الزيات وليلى اليافي وكوليت خوري... وتبين الرواية النسوية عن الحرب، انهماك المرأة في مصير بلادها من جهة، وانهماكها في المعارك الأساسية ضد القمع والتمييز، وإذا كانت الرواية الذكورية في هذا الصدد تركز على ساحة المعركة، فإن الرواية النسوية تنسج شبكة واسعة من تأثيرات الحرب في العلاقات الانسانية المتشابكة. وتبرز هنا روايات لافتة، تناولت الحرب الأهلية اللبنانية بعين أخرى أكثر تركيزاً على الخراب الحاصل في النفس البشرية، أبرزها "ليلة المليار" لغادة السمان، و"حكاية زهرة" لحنان الشيخ، و"حجر الضحك" لهدى بركات. وإذا كانت المؤلفة تستثني أعمال غادة السمان ونوال السعداوي، من مرافعتها في الظلم الذي طاول النص الانثوي تاريخياً، فلأنهما استطاعتا خلق حساسية مختلفة في المنظار الانساني. وهذه الحساسيّة جعلت النقاد يعترفون بمنجزهما في دراسات مختلفة، من هنا تحاول التأكيد على تجليات نصوص أخرى، خضعت للتهميش النقدي من دون مبرر معرفي أو جمالي، ذلك أن نصوص حميدة نعنع "الوطن في العينين"، وحنان الشيخ "حكاية زهرة"، وهدى بركات "حجر الضحك"، تقارب مناخات روائية جديدة في موضوعاتها وسرديتها، تتجاوز المألوف نحو ما هو نافر في المشهد الروائي عموماً. وتعتقد المؤلفة ان هذه الروايات وغيرها ما كان لها أن تتجاوز حدودها اللغوية، لو لم ترصد بعمق مشكلات مجتمعاتها، ففي العام 1995 وحده، ظهرت أكثر من خمس روايات لكاتبات عربية مترجمة الى اللغة الانكليزية، أثارت انتباه القراء، نظراً لثراء حقولها التخييلية ونضجها المعرفي واختلافها في التقنية، في مزجها الشخصي بالعام وتعريتها للظواهر الاجتماعية من دون مواربة. وتعترف المؤلفة انها وقعت في مأزق امام الكم الهائل من الروايات التي تتجاوز الألف عنوان، لتكتشف اتساع الخريطة الروائية في الأعوام الأخيرة. فثمة تجارب لافتة من المغرب العربي والعراق والخليج العربي، تشير الى انشغالات أكثر بوحاً في حوارها مع الذات والآخر، ونبش التفاصيل السرية بكل ظلالها وأبعادها. فلم تعد السيرة الروائية تحكي بصيغة ضمير الغائب، بل انتقلت الى صيغة ضمير المتكلم، بجسارة وتوق الى المكاشفة في حدودها القصوى، لتكتمل وظيفة الراوي التي بدأت قبل قرون على يد "شهرزاد"!