هل تستعد الجزائر لفتح صفحة جديدة في علاقتها مع فرنسا؟ هل ترغب الحكومة الجديدة بطي صفحة حرب الاستقلال وآثارها المستمرة في علاقات البلدين؟ وإذا صح ذلك فلماذا يتم الآن؟ وهل يرتبط بالانتصار الذي حققته الدولة في الحرب مع الاسلاميين المسلحين؟ هذه الأسئلة تحتل حيزاً واسعاً من اهتمام خبراء شؤون العلاقات الفرنسية - الجزائرية. والاهتمام ناتج عن تدافع مؤشرات قوية في اتجاه وضع حد للتوتر الذي ساد علاقات البلدين خلال عهد الرئيس السابق اليمين زروال الذي بدأ حكمه بالغاء موعد اجتماع في الأممالمتحدة 1995 محدد سلفاً مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك، واعتبر ذلك إهانة لمقام الرئاسة الفرنسية ولم يتم منذ ذلك الحين أي لقاء رسمي على مستوى القمة بين البلدين، ما خلا دردشة ومصافحة عابرة بين زروال وشيراك خلال مأتم الملك حسين في عمان مطلع العام الماضي. ومن المؤشرات القوية على التحسن المقبل في العلاقات الفرنسية - الجزائرية، لقاء القمة المرتقب منتصف العام الحالي بين شيراك والرئيس عبدالعزيز بوتفليقة في باريس والزيارات المتبادلة لوزيري خارجية البلدين ولوزراء آخرين بعد الانتخابات الرئاسية الجزائرية، والدعوة التي وجهها رئيس المجلس النيابي الفرنسي لوران فابيوس الى الرئيس الجزائري لمخاطبة مجلس النواب الفرنسي، علماً ان عدداً محدوداً من زعماء العالم تمكن من التحدث الى هذه المؤسسة البرلمانية المعمرة، منهم الرئيس بيل كلينتون والملك الراحل الحسن الثاني. ولعل الحساسيات المغربية - الجزائرية جعلت من المتعذر ان يزور بوتفليقة فرنسا رسمياً من دون ان يخاطب البرلمان الفرنسي جرياً على المعاملة المغربية. وإذا كانت الزيارات الرسمية المتبادل والمرتقبة أمراً عادياً في علاقات الدول، فإن ما يخرج على المعتاد، مبادرة الرئيس بوتفليقة لدعوة المغني الفرنسي انريكو ماسياس اليهودي الأصل الجزائري المولد وأحد أبرز وجوه "الأقدام السود" أي المستوطنين الفرنسيين في الجزائر الكولونيالية، الى القيام بجولة غنائية في الجزائر هي الأولى من نوعها منذ الاستقلال. وستتم الجولة في منتصف آذار مارس المقبل. وقد وضع ماسياس شرطاً واحداً لهذه الزيارة: أن يكون ضيفاً على عائلة جزائرية في مدينة قسنطينة التي ولد في منزل في أحد أحيائها الشعبية. وسيصطحب معه عائلته ومقربين اليه تطلعوا طويلاً الى زيارة مسقط رأسهم بعد أن حملوا حقائبهم على جناح السرعة وغادروا المكان غداة الاستقلال في 1962 وتبعهم 40 ألف يهودي كانوا يعيشون في قسنطينة من أصل 130 ألف يهودي من "الأقدام السود". ومعروف أن "الأقدام السود" البالغ عددهم مليون فرنسي مستوطن، ظلوا على الدوام يعتبرون الجزائر بلادهم ويتأثرون بما يدور فيها ويتطلعون الى زيارتها، غير أن السلطات الجزائرية المتعاقبة بعد الاستقلال كانت ترفض تطبيع العلاقات مع "الأقدام السود" و"الحركيين" الجزائريين الذين قاتلوا الى جانب الجيش الاستعماري الفرنسي في ذلك الحين. ويراهن "الأقدام السود" على فتح صفحة جديدة مع الحكم الجزائري بعد زيارة ماسياس، لأن المغني المذكور حمل لواء الجالية اليهودية الجزائرية واتخذ مواقف عدائية من حكومات "جبهة التحرير الوطني" وحصل على الجنسية الاسرائيلية، ولعل استقباله في مسقط رأسه يعد خطوة كبيرة في الرهان المذكور. وثمة من يعتقد أن تطبيع العلاقات الجزائرية مع "الأقدام السود" قد يمهد لتطبيع مماثل مع "الحركيين" في المستقبل. علماً بأن مستوطني الجزائر السابقين يتمتعون بنفوذ كبير في فرنسا يمكن للحكم الجزائري أن يفيد منه إذا ما تحطم حاجز العداء المذكور، وهناك من يعتقد بأن الحكومة الجزائرية أخذت هذا الجانب بعين الاعتبار عندما وجهت الدعوة الى المغني الفرنسي، وذهبت على لسان الرئيس بوتفليقة الى القول خلال الصيف الماضي ان اليهود ساهموا في إغناء ثقافة قسنطينة. الا ان زيارة ماسياس أثارت جدلاً في الأوساط الإعلامية والسياسية الجزائرية. فقد اعتبرها عبدالعزيز بلخادم رئيس المجلس النيابي السابق محاولة للتطبيع مع اسرائيل، ويرأس بلخادم جمعية مناهضة للتطبيع الجزائري مع الدولة العبرية. والمؤشر الثاني المهم في هذا المجال يكمن في مبادرة فرنسا الى استئناف العمل في المركز الثقافي الفرنسي في الجزائر فيما كانت الحكومة الجزائرية تتطلع الى استئناف الرحلات الجوية الفرنسية. والراجح ان باريس أرادت بهذه الخطوة أن تختبر حسن نيات الحكومة الجزائرية تجاه الثقافة الفرنسية والتعاون الثقافي بين البلدين، خصوصاً أن وجهاً بارزاً من وجوه الحرب الأهلية تمثل باغتيال المثقفين الفرنكوفونيين وبالحملات المتواصلة التي شنها الاسلاميون ضد الثقافة الفرنسية والمتعاطفين معها. الى جانب ان الاسلاميين كانوا يطالبون باعتماد الثقافة الانكليزية في اطار حربهم ضد الثقافة الفرنسية، فضلاً عن تبني سياسة التعريب بوصفها تستهدف فرنسا أكثر من كونها تستهدف استعادة الجزائر لثقافتها الأصلية.كما تعتقد باريس. وحظيت هذه الخطوة بتغطية اعلامية فرنسية بارزة، خصوصاً في القنوات الرسمية الفرنسية التي تشاهد في الجزائر على نطاق واسع. وقد تبين من ردود الفعل الأولى على افتتاح المركز الثقافي الفرنسي ان نخبة من الجزائريين أقبلت على نشاطات المركز، ويقول المسؤولون عنه ان الأيام الأولى من افتتاحه شهدت تسجيل مئات المشتركين، في اشارة الى ان للمركز جمهوره الفرنكوفوني وهو أمر ثابت في الجزائر خصوصاً وسط التيار الثقافي البربري. وفي هذا المجال علمت "الوسط" من مصادر مطلعة ان عتاباً مفتوحاً حول الجانب الثقافي تم في جلسة خارج الأضواء، بين شخصية فرنسية رفيعة المستوى وشخصية جزائرية كبيرة. وعندما تطرق الحديث الى مسائل التعريب ووضع اللغة الفرنسية في الجزائر، قال الطرف الجزائري معاتباً: "تتحمل فرنسا مسؤولية كبيرة في هذا المجال. لقد طلبنا منكم غداة الاستقلال ان تزوّدنا 40 ألف كادر ومعلم نحتاجهم في الادارة والتربية وغيرها. كنتم حينذاك ترغبون في الضغط علينا واكتفيتم بارسال 3 آلاف كادر. كان علينا أن نعالج الموقف وأن نجابه هذا الضغط. فكان التعريب الشامل والاستناد الى الكادرات المشرقية وسيلتنا الوحيدة. لقد بدأتم انتم الحاق الأذى بالثقافة الفرنسية، نحن كنا نرد فقط على موقفكم السلبي". وتضيف المصادر ان الطرف الجزائري عبّر خلال اللقاء عن حسن نيات لا مثيل لها تجاه فرنسا وبرهن على استعداد للتعامل الايجابي معها من خلال قوله: "نحن ننتهج سياسة انفتاحية وأنتم ترغبون في افتتاح مراكز ثقافية وهذا من حقكم طالما ان الجزائر ترعى هي أيضاً مراكز ثقافية في فرنسا. حددوا عدد المراكز الثقافية التي ترغبون في افتتاحها وحددوا المدن التي تريدون أن تنشأ فيها هذه المراكز ونحن نضمن الحماية التامة لها". وترى مصادر مؤيدة للانفتاح الجزائري ان هذا التوجه الايجابي نحو فرنسا في المجال الثقافي يبدو محكوماً ليس فقط بتراجع نفوذ معارضي الثقافة الفرنسية، وانما أيضاً بفهم جزائري جديد للواقع الثقافي في البلاد، فالتعريب صار ثابتاً والأجيال الجزائرية الجديدة باتت معربة ولا يخشى من استلابها الثقافي. ومن جهة ثانية صار التعريب في الادارة الزامياً ولا يخشى من العودة الى التعامل الصرف باللغة الفرنسية في اجهزة الدولة. ناهيك عن أن الأمية منتشرة على نطاق واسع في الجزائر والبلاد تحتاج الى جهود لمواجهتها ولعل السؤال الذي يطرح في هذا المجال يتصل بمدى استعداد فرنسا لبذل استثمارات في الثقافة والتربية في الجزائر تفوق الاستثمارات المرصودة، خصوصاً ان باريس لا تعمد الى خيارات من هذا النوع انطلاقاً من حسابات عاطفية وانما وفقاً لتقديرات سياسية واقتصادية. ويتضح هذا التردد الفرنسي من خلال تصريح شهير أدلى به فرانسوا دافيد رئيس الشركة الضامنة للاستثمارات التجارية الخارجية الفرنسية دعا فيه المستثمرين الفرنسيين الراغبين في العمل في الجزائر الى "الحيطة والترقب" قبل استئناف أعمالهم في هذا البلد. وقد جاء هذا التصريح عشية زيارة وفد من مجلس رجال الأعمال الفرنسيين الى الجزائر في 4 شباط فبراير الجاري وغداة زيارة وزير الخارجية الجزائري يوسف اليوسفي لباريس والاعلان عن زيارة بوتفليقة الرسمية للعاصمة الفرنسية قبل تموز يوليو المقبل. وأثار التصريح حفيظة وسائل الإعلام الجزائرية، خصوصاً صحيفة "المجاهد" الرسمية التي اعتبرت "محاولة لوقف الدينامية الجديدة في التعاون الفرنسي الجزائري". وقالت انه يتناقض مع الموقف الرسمي في هذا المجال. ويفصح التردد الفرنسي عن وجود تيارين في باريس تجاه التعاطي مع الجزائر، تماماً كما يوجد في الجزائر نفسها تياران متناقضان تجاه التعاطي مع فرنسا. التيار الفرنسي الأول يغلب دعم حكومة بوتفليقة على الاعتبارات الأخرى. والتيار الثاني يتحدث انطلاقاً من حسابات اقتصادية باردة، الأمر الذي يفسّر تردد رئيس هيئة ضمان الاستثمارات الخارجية. و"شركة الخطوط الجوية الفرنسية". فيما يريد تيار جزائري مواصلة الحرب على فرنسا بعد الاستقلال ويدفع باتجاه قطيعة معها ويريد تيار رسمي ممثلاً برئيس الجمهورية ان تنجح الحكومة الجديدة بمساعيها السلمية والاقتصادية بالتعاون مع فرنسا وليس عبر مقاطعتها. أغلب الظن بنظر المصادر الجزائرية المشار اليها ان التيار الذي يعبّر عنه الرئيس الجزائري لن يجد صعوبة في فرض تصوره للعلاقات مع فرنسا لكن هذا التيار قد يتعثر في مهمته إذا أصرّ بعض الفرنسيين على النظر الى جزائر العام 2000 وكأنها ما زالت تعيش ظروف العام 1994 عندما خطف مسلحون جزائريون طائرة فرنسية وهددوا بتفجيرها في اجواء باريس أو مارسيليا. يبقى القول ان سياسة الانفتاح الرسمي الجزائري على فرنسا تحتفظ بوقع ايجابي في أوساط الجالية الجزائرية المهاجرة في هذا البلد حوالي مليون جزائري. والراجح ان المهاجرين يمكن أن يلعبوا دوراً مهماً في دعم اقتصاد بلادهم وتثبيت استقرارها. وعندما يكثر بوتفليقة من الحديث الى وسائل الاعلام الفرنسية فإنه يأخذ بعين الاعتبار ثقل وأهمية مواطنيه المهاجرين والعاملين في أراضيها. يتضح مما سبق أن العلاقات الفرنسية - الجزائرية تتجه نحو مرحلة من التطبيع والتعاون ومعالجة الآثار التي نجمت عن الحرب الأخيرة وربما عن حرب الاستقلال، وهذا الاتجاه يمكن أن يتوج بفتح صفحة جديدة يرى الحكم الجزائري انها مفيدة لنجاح مشروعه الداخلي. وترى الحكومة الفرنسية انها ضرورية لتحقيق الاستقرار في الجزائر وللتخلص من أوجاع الرأس التي سببتها الحرب الأخيرة للفرنسيين في الجزائر وفي بلادهم نتيجة الخوف من امتداد الاضطراب الجزائري الى صفوف الجالية المهاجرة في فرنسا. ولعل لسان حال بعض الفرنسيين يقول إذا كان الرهان على مشروع بوتفليقة ينطوي على مخاطر، فهي أقل أهمية مقارنة بالاضطراب وامتداداته المحتملة الى شمال افريقيا وضواحي المدن الفرنسية. أما توقيت الانفراج في علاقات البلدين فهو مرتبط بموازين القوى الجديدة في الجزائر وبالتراجع المطرد للمسلحين المتمردين في الجبال الجزائرية