يصح في الزعامة الشيعية ما لا يصح في سواها. لا تكون كذلك الا عندما تكون في الحكم، ولا تقوى في الضرورة عندما تُمسي في المعارضة. الا انها ليست حال الزعامة الدرزية التي تحتفظ بقوتها حيث تكون شأن كمال جنبلاط ومن بعده وليد جنبلاط في السلطة وخارجها، في الموالاة وفي المعارضة. ولا هي حال الزعامة المارونية التي غالباً ما تمتلك قوتها في المعارضة اكثر منها في الحكم شأن كميل شمعون عندما خاض معركة اسقاط عهد بشارة الخوري وهو في صف المعارضة في 1952، وكميل شمعون وريمون إده عندما عارضا عهد فؤاد شهاب في النصف الاول من الستينات، ثم اجتماعهما مع بيار الجميل في "الحلف الثلاثي" ضد حكم "المكتب الثاني" الشهابي في 1968، وسليمان فرنجية في المرحلة نفسها. الا انها تبدو قريبة من حال الزعامة السنّية اذ تستمد هذه ايضاً قوتها من منصب رئاسة الحكومة وتكاد تفقدها عندما تخرج منها. وهي ليست المقاربة الوحيدة التي تجمع بين الزعامتين الشيعية والسنّية. فكلاهما منقسمة على منطقتين جغرافيتين متباعدتين لغالبية سكانية واحدة هي مصدر الاستقطاب الشعبي لهما: الزعامة الشيعية في البقاع والجنوب، والزعامة السنّية في بيروت وطرابلس، ولا منطقة ثالثة لأي منهما تحمل وزر الدفاع عن تلك الزعامة. فيما تستمد الزعامة المارونية تأثيرها في الحكم وخارجه من جبل لبنان بالذات الذي خرج منه معظم زعماء هذه الطائفة، ومعظم هؤلاء من الجبل اضحوا رؤساء للجمهورية، وليتحول الجبل بدوره مكان نزاعاتهم وانقساماتهم. على ان جانباً اساسياً في مبعث نشوء الزعامة الشيعية في الحكم وفي انكفائها خارجه، يكمن في أن الطائفة الشيعية كانت لسنوات طويلة الاكثر تأثراً بالحرمان السياسي والاجتماعي والانمائي الذي نادراً ما اتيح تعويضه الا من خلال وجود ممثلين اقوياء لها في الحكم، شأن منصب رئاسة مجلس النواب. وهو المنصب الاعلى للطائفة الذي احدث فيه اتفاق الطائف 1989 انتقالاً يكاد يكون انقلاباً، بإخراجه المنصب من موقعه يمين رئيس الجمهورية الى موقع الشريك الفعلي في الحكم، القادر - في الوقت نفسه - على التحول عقبة يصعب تجاوزها او تجاهلها، والممسك بنصاب الغالبية البرلمانية. وهو الانقلاب الذي احال الطائفة الشيعية اكثر المستفيدين من مكاسب تسوية الطائف، إذ كانت اكثر المستبعدين من حقبات الرخاء الاقتصادي والانمائي في اكثر من مرحلة في البلاد. وليس خافياً ان هذا الحرمان - وقد اضحى سلاحاً في يد زعمائها - وجد فيه الزعماء الموارنة ايضاً سبباً لخوض نزاعاتهم السياسية. فقائد الجيش فؤاد شهاب سلّم بمجيء كميل شمعون رئيساً العام 1952 بعدما تبلّغ منه وعداً شفوياً بالعفو عن عشائر "الدنادشة" في جرود الهرمل، وعدم مطاردتهم لتمرّدهم على السلطة. وبسبب نكث كميل شمعون بوعده اختلف فؤاد شهاب معه في منتصف ولايته، ثم ما لبث ان ارتأى بعد انتخابه رئيساً للجمهورية العام 1958 ادخال العدالة الاجتماعية والانماء الى تلك الجرود. وهو السلاح نفسه الذي جعل الإمام موسى الصدر يطلق دعوته في منتصف الستينات ويُصوّب به على زعامة كامل الأسعد، وهو السلاح نفسه الذي اطاح به نبيه بري زعامة كامل الأسعد في الجنوب، اذ ادخل خدمات اجتماعية وانمائية كبيرة. وهو السلاح ايضاً الذي يتسابق فيه نبيه بري و"حزب الله" لاستقطاب الرأي العام الشيعي. ظاهرة موسى الصدر وفي الواقع لم يكتسب موقع رئيس مجلس النواب تأثيره السياسي الا نتيجة تعزيز الصلاحيات الدستورية التي اعطيت لرئيس المجلس في اصلاحات اتفاق الطائف. ولذا ظل هذا الموقع، باستمرار، الاكثر تعبيراً عن الزعامة الشيعية. مع ذلك، حتى في عزّ الحرب الاهلية وصعود قادة الميليشيات، بقي حسين الحسيني، رئيس مجلس النواب، في النصف الثاني من الثمانينات المرجعية التي يجتمع لديها وفي ظلها القياديون الشيعة، ومن هؤلاء نبيه بري. وقبل ذلك ايضاً، من النصف الثاني للسبعينات الى النصف الاول من الثمانينات لم يكن في وسع الياس سركيس ولا أمين الجميل اعلان تأليف حكومة جديدة لا يرضى بها - خصوصاً بالوزراء الشيعة فيها - رئيس مجلس النواب في حينه كامل الأسعد. وهي الآن حال نبيه بري. كان رئيس مجلس النواب، من حيث كونه ممثل طائفته في الحكم، هو الزعيم الفعلي لها وإن لم يكن شعبياً، وغالباً ما تعاقب على المنصب زعماء شعبيون أضحوا في صلب النظام باستمرارهم في مناصبهم، كحال صبري حمادة وكامل الأسعد. على ان الظاهرة الوحيدة التي كسرت هذا الاحتكار هي موسى الصدر، اللبناني الجذور الذي أتى الى لبنان من إيران للمرة الاولى العام 1957 ثم في 1959 ليقيم في صور، ليستقر فيه في منتصف الستينات. وبدأ في حينه الحالة الشعبية الوحيدة، المستقلة عن الموقع الدستوري وغير المنبثقة منه، الآخذة في التنامي تدريجاً ليتفاقم تأثيرها وان محاصرة بين زعامتين شيعيتين شعبيتين قويتين اخريين انبثقتا اولاً من تبوؤهما رئاسة مجلس النواب، هما صبري حمادة وكامل الأسعد النسيبان لزواج الأول شقيقة الثاني. ومع انهما لم يكونا الزعامتين الشيعيتين الوحيدتين في ظل وجود شخصيات شيعية اخرى استقطبت بدورها الشارع الشيعي في الجنوب والبقاع كعادل عسيران ويوسف الزين وكاظم الخليل، على ان الرجلين كادا حتى مجيء موسى الصدر يكونان الزعامتين المتناوبتين على اجتذاب الرأي العام الشيعي. وغالباً ما كان النسيبان في موقعين سياسيين متباعدين: صبري حمادة الدستوري القريب من بشارة الخوري ثم الشهابي القريب من فؤاد شهاب، وكامل الأسعد المستقل لكنه ايضاً في الموقع غير الودي من الشهابية الى الحد الذي دفعه الى الائتلاف مع سليمان فرنجية وصائب سلام في تكتل برلماني ساهم مع "الحلف الثلاثي" في اسقاط الياس سركيس المرشح الشهابي لرئاسة الجمهورية في انتخابات 17 آب أغسطس 1970. الا ان ذلك لم يحل دون ارسال صبري حمادة رجاله الى الجنوب في كل دورة انتخابية لمؤازرة حملة كامل الأسعد. هرم السلطات كان صبري حمادة أول شيعي يُكرّس عرفاً منصب رئاسة مجلس النواب لطائفته، بعدما تعاقب عليه قبل الاستقلال تسعة رؤساء مجالس نيابية بين العامين 1920 و1939. منهم الماروني داود عمون وحبيب باشا السعد ونعوم لبكي وإميل إده وموسى نمور، والأرثوذكسي شارل دباس وبترو طراد، والسنّي المفتي محمد الجسر وخالد شهاب. ولم يكن بين اي منهم شيعي. هذا التكريس كان فاتحة بناء هرم تقاسم المذاهب الثلاثة الرئيسية في البلاد الموارنة والشيعة والسنّة السلطات الدستورية الثلاث. في 21 أيلول سبتمبر 1943 قبل شهرين على استقلال البلاد في تشرين الثاني/ نوفمبر انتخب صبري حمادة رئيساً لمجلس النواب في الجلسة نفسها التي انتخب فيها بشارة الخوري رئيساً للجمهورية، لتتلاحق سبحة طويلة ممن تعاقب على المنصب منذ تلك السنة: صبري حمادة 21 مرة، حبيب أبو شهلا مرة واحدة، أحمد الأسعد مرتين، عادل عسيران 8 مرات، كامل الأسعد 17 مرة، حسين الحسيني 8 مرات، نبيه بري مرتان/ على ان ولايته الدستورية كرئيس للبرلمان اصبحت اربع سنوات بعدما كانت سنة واحدة كأسلافه. ولذا بفعل التصاق صبري حمادة وكامل الأسعد بالعهود الرئاسية، فإن كلاً منهما لبث في رئاسة مجلس النواب اكثر من ولاية واحدة في عهد رئاسي واحد. ولعل المفارقة اللافتة في هذا الامر ان كامل الأسعد حافظ على بقائه في منصبه دونما انقطاع منذ السنة الأولى لانتخاب سليمان فرنجية حتى منتصف عهد أمين الجميل حينما اتخذت دمشق قراراً قاطعاً بإقصائه عن منصبه لتمسكه باتفاق 17 أيار مايو 1983 بين لبنان واسرائيل، دفع لقاءه ثمناً باهظاً بإخراجه فيما بعد من الحياة السياسية اللبنانية بكل مواقعها، ليُمسي مجرد مرشح خاسر في الانتخابات النيابية العامة 1992 و1996 لم يسعه الحصول على اكثر من ثلث الاصوات التي حازها منافسه نبيه بري. وفي اجتماع عقد أخيراً ضم انصاره ومؤيدين في بلدات جنوبية عدة، قال لهم كامل الأسعد انه سيترشح مجدداً للانتخابات النيابية العامة صيف 2000، وهو يعرف سلفاً أنه سيخسر كالدورتين المنصرمتين، بيد ان ترشحه يرمي الى "اثبات وجود"، عازماً ايضاً على بناء تحالفات انتخابية في الجنوب تساعده في المثابرة على مواجهة خصومه. لكنه توقع لهم تطوراً في الاوضاع المحلية ربما ساهم في تعديل موازين القوى. مثله صبري حمادة في موقع آخر لم ينقطع عن النيابة منذ عام 1925 حتى وفاته العام 1976. يقود ذلك الى تأكيد القاعدة الذهبية في تحديد المصدر الأول لنفوذ الزعامة الشيعية، وهو منصب رئاسة مجلس النواب الذي يتيح لشاغله الولوج الى قلب المعادلة السياسية الوطنية واستقطاب الشارع الشيعي اليه. ولذا كان رئيس البرلمان اللبناني في ظل احكام دستور ما قبل اتفاق الطائف أسير ارتباطه برئيس الجمهورية كون ولايته لسنة واحدة قابلة للتمديد، الا انها في الوقت نفسه محاصرة بإرادة رئيس الجمهورية، الممسك وفقاً لأحكام الدستور السابق بالغالبية البرلمانية، فيدفعها الى دعم هذا المرشح او ذاك. وهو ما أدى إلى قيام ظاهرة الرئيس المفضّل لبشارة الخوري في البرلمانات المتعاقبة في عهده حتى العام 1951، وهو صبري حمادة، ليحلّ محله أحمد الأسعد والد كامل الأسعد لسنتين، وقد استبعده كميل شمعون للمجيء بمرشحه المفضّل للمنصب وهو عادل عسيران على امتداد ولاية رئيس الجمهورية. ثم يعيد فؤاد شهاب وشارل حلو صبري حمادة، ويرجّح سليمان فرنجية والياس سركيس كفّة كامل الأسعد. بل أتاح الى حد بعيد التمكن من لعبة المناورة في انتخاب رئيس مجلس النواب بعيد انتخاب المجلس النيابي الجديد في أيار مايو 1964، دعم فؤاد شهاب كامل الأسعد للوصول الى المنصب لنحو خمسة اشهر فقط تشرين الأول/ أكتوبر موعد الانتخاب الدستوري ليُرجع صبري حمادة الى منصبه القديم حتى 1970. ولذا قيل ان رئيس مجلس النواب يظل مديناً لرئيس الجمهورية بوصوله الى موقعه، او يكون على الاقل جزءاً من التيار السياسي الذي يقوده الرئيس. كل ذلك ما لبث ان تداعى بعد تسوية الطائف، خصوصاً بعد انتخاب نبيه بري بترؤسه كتلة برلمانية كبيرة اضحت تحدد اتجاهات القرارات الكبيرة التي قد يقرّرها البرلمان. الا انها اضحت ايضاً عاملاً مؤثراً بالسيطرة على نصاب التئام البرلمان. وقعت زعامتا صبري حمادة وكامل الأسعد في مرحلة لم تقتصر عليهما دون سواهما في الطائفة الشيعية، اذ كانا محاطين ايضاً بزعامات اخرى ذات جذور شعبية لم يكن في الامكان تجاوزها، هي زعامات عادل عسيران في منطقة الزهراني، ويوسف الزين في النبطية، وكاظم الخليل في صور شقيق زوجة عادل عسيران، لم ينجح منهم في بلوغ منصب رئاسة مجلس النواب الا عادل عسيران. أما الآخران، يوسف الزين وكاظم الخليل فاقتصرت زعامتاهما على جغرافية المنطقة الانتخابية، خصوصاً بالنسبة الى يوسف الزين الذي اقتصر دوره على ان يكون عضواً في اللائحة الانتخابية وليس رئيس لائحة، من غير ان يمنع ذلك التأكيد ان يوسف الزين، ومن بعده ابنه عبداللطيف النائب الحالي بعد وفاة الأب في 1960 لم يغادرا مقعد العائلة عن النبطية في الانتخابات النيابية المتعاقبة، حتى الأمس القريب، وقد أضحت زعامة الجنوب لنبيه بري، ظل عبداللطيف الزين عضواً في لائحته الانتخابية انتخابات 1992 و1996 من واقع رغبته في تمثيل هذه العائلة السياسية التاريخية في البرلمان. تماماً على غرار بيت عادل عسيران الذي أبدى بدوره رغبته لنبيه بري في انتخابات 1992 - وقد أحجم عادل عسيران عن الترشح لها نتيجة لتقدمه في السن على أبواب عقده التاسع سنتذاك - في ضمّ ابنه علي الى لائحة رئيس حركة "أمل". ثم في انتخابات 1996. مع ذلك حاول عبداللطيف الزين الذي نادراً ما جمعه في حقبة الستينات ود بكامل الأسعد الترشح عبثاً لرئاسة مجلس النواب، او على الاقل قد ترشح اكثر من مرة، من غير ان يبلغها. على غراره كانت ايضاً ثمة محاولة لكاظم الخليل الذي احال زعامته الشيعية في صور عاملاً داعماً لكميل شمعون الماروني، فكان عضواً في حزبه حزب الوطنيين الاحرار ونائباً للرئيس، من خلاله ناور كميل شمعون في كل مرة يجد نفسه في مشكلة سياسية مع كامل الأسعد يُلوّح باحتمال ترشيح كاظم الخليل لرئاسة المجلس، على رغم معرفته مسبقاً أن المنصب هذا يظل معقوداً لكامل الأسعد. الانتخابات وبريق الزعامة والواضح ان بناء الزعامة الشعبية الشيعية، سواء في البقاع او في الجنوب، وفي ظل المحافظة على دائرة انتخابية واحدة 1943 - 1959 كان يستمد تأثيره، الى استقطاب الناس، من خوض الانتخابات النيابية العامة بمظاهر مغالية في القوة. وهو امر تلاقى عليه الزعماء البقاعيون والجنوبيون في تلك المرحلة عبر خوض تلك الانتخابات غالباً بلوائح واحدة او متكاملة، وفي كل الاحوال قوية من غير معايير دائمة في ارساء التحالفات. ولذا لم يكن من الصعب على عادل عسيران وأحمد الأسعد وكاظم الخليل الائتلاف معاً في انتخابات 1951. اذ كان في وسع الزعماء الشيعة الائتلاف والتفرّق من غير ان يُنتزع من اي منهم سطوة السيطرة على ناخبيه او فقدانه بريق زعامته. ولهذا كان في الامكان حتى العام 1951 القول بوجود اكثر من زعامة شيعية قوية في الجنوب. في البقاع بدا الامر مغايراً لكن من ضمن المعيار نفسه. فصبري حمادة هو الاول القادر على اجتذاب العشائر اليه والعائلات البعلبكية الكبرى، وهو القادر على التحول حلاً لمشكلة بين عشيرتين تسلّمان به تفادياً لانقسامهما على مرشح كل منهما. وهو الحريص دائماً على تمثيل العشائر في لوائحه. الا ان قواعد التناوب على الزعامة هذه، لا تلبث ان تؤكد مسألة اساسية في تحديد معالم الزعامة الشيعية، خصوصاً على امتداد عقد الستينات حتى منتصف السبعينات عند وفاة صبري حمادة 1967، وهي اقتصار مصادرها في ظل تصغير الدوائر الانتخابية على بعلبك - الهرمل والجنوب، تحديداً على صبري حمادة وكامل الأسعد اللذين غالباً ما تواطآ للحؤول دون انتقال هذا المنصب الى غيرهما، من غير ان يحول ذلك دون تأكيد وطأة تنافسهما على المنصب نفسه وان كانا نسيبين، فرئاسة مجلس النواب حكر عليهما، لكنهما لا يفسحان المجال امام انتقالها الى سواهما. بل ذهبا ابعد من ذلك في محاولتهما احتكار الزعامة الشيعية. وهو ما ابرزه الفتور في العلاقة الآخذ في النمو منذ منتصف الستينات الى منتصف السبعينات بين صبري حمادة وموسى الصدر لمجرد ان انفجر الخلاف في الجنوب بين موسى الصدر وكامل الأسعد، ولم يرَ صبري حمادة في حينه بداً من الانحياز الى شقيق زوجته خشية الصعود الكبير لزعامة الإمام في أوساط الطائفة الشيعية بعدما كان مهّد له صبري حمادة تمددها في البقاع. وليس خافياً حجم الدعم الذي قدمه صبري حمادة لموسى الصدر سواء في اقرار قانون العمل على انشاء المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى عام 1967، ثم في انتخاب الإمام بعد سنتين رئيساً له. الا ان الزعامة الشيعية منذ مطلع السبعينات باتت في واقع الامر أسيرة نزاع مرير: كامل الأسعد يسيطر على منصب رئيس مجلس النواب، وموسى الصدر يستقطب الألوف من الشباب الى تأسيس حركة مسلحة رافعة شعار مواجهة الحرمان ومقاومة اسرائيل. هذه الثنائية كانت في الوقت نفسه تُعدّ لنزاع مماثل سيواجهه كامل الأسعد مع صعود نبيه بري العام 1980 وقيادته حركة "أمل" التي أسسها موسى الصدر وخلفه فيها حسين الحسيني. عندها تكررت السابقة لوقت قصير في السنتين الاوليين من الثمانينات: كامل الأسعد رئيساً للبرلمان ونبيه بري يقود الشارع الشيعي قبل ان تنقلب المعايير برمتها بتدخل سوري مباشر اطاح العام 1985 - بُعيد الغاء الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي - الموقع السياسي لكامل الأسعد، فأقصي عن رئاسة مجلس النواب وحلّ فيها بدعم سوري حسين الحسيني حتى انتخابات 1992، لتنفجر هذه المرة ثنائية من نوع جديد: نبيه بري و"حزب الله"، ولتتحول المشكلة من ازمة زعامات الى ازمة قيادات. بل لتطرح السؤال الآتي: هل ثمة زعامة ام قيادة في الطائفة الشيعية اليوم؟ بعد غياب صبري حمادة وخطف الإمام موسى الصدر واقصاء كامل الأسعد وضمور التأثير الذي كان لعائلات الخليل وعسيران والزين، فضلاً عن تراجع تأثير عشائر بعلبك والهرمل كعامل مقرر مستقل في ذاته ومتطلب لتصير جزءاً من اسلحة النزاع السياسي على الزعامة الشيعية، ماذا تبقى لهذه؟ نفوذان سوري وايراني قد يكون من باب المبالغة تجاهل تأثير النفوذين السوري والإيراني على التركيبتين السياسية والاجتماعية في البقاع الشمالي، ومن ثم تمدده فعلياً الى الجنوب. الا ان ذلك لا يكتم حقيقة ان الجنوب محاصر اليوم بالتسابق على النفوذ بين نبيه بري و"حزب الله"، وبعلبك - الهرمل تقع بدورها بين فكّي الكماشة هذه، من غير اغفال وجود حسين الحسيني الذي اضحى في المنطقة، في خضم ذلك التسابق، رمزاً لا يزال يحمل ملامح تلك الصورة القديمة لبعلبك - الهرمل وهو آخر رجال حقبتها، ورمزاً لتسوية الطائف التي اقترنت باسمه عراباً لها. والواقع فإن بعلبك - الهرمل، كما الجنوب، يعيشان منذ العام 1992 هاجس الائتلاف السياسي الذي يضمن وحتى اشعار آخر بكفالة سورية فاعلة تعايشاً سياسياً بين هذين الفريقين، فيما لا تعكس في الضرورة الارض وأنصارهما مثل هذا الواقع المركب. فكلاهما يسابق الآخر في اشهاره مقاومة اسرائيل، وكلاهما يسابق الآخر في اكساب حضوره السياسي بعداً اجتماعياً وانمائياً مهماً يجتذب به الرأي العام الشيعي، وكلاهما يحاول تدارك متطلبات الناس، وفي الوقت نفسه عدم الاطلالة بمظهر المستقل عن الدولة اللبنانية. بل كلاهما لا يقول في الوقت الحاضر بمشروع عقائدي ولا بمشروع سياسي يتجاوز حال الصراع مع اسرائيل الا بمقدار اعتباره اياه دافعاً لبناء الشعبية الشيعية بعدما تهاوت الزعامة الشيعية. في اعتقاد نبيه بري ان ما يجمعه ب"حزب الله" صلة الرحم الذي خرج منه الحزب على نحو ما خرجت من حركة "أمل" ايضاً "المقاومة الاسلامية" و"المقاومة المؤمنة" و"حركة أمل الاسلامية". اما بالنسبة الى "حزب الله" فالخلاف على مشروع عقائدي وعلى الموقف من الدولة اللبنانية في بداية الثمانينات، ثم تقلّص تدريجاً ليمسي مشروع الحزب وبدءاً من العام 1992 دون التخلي تماماً عن المشروع العقائدي الدخول في الدولة اللبنانية. ولذا لم يعد صعباً تبيّن التمييز الذي اخذ يحدثه "حزب الله" بين ان يكون حزباً ايرانياً وحزباً لبنانياً ويصير في المدة الاخيرة اكثر اقتراباً من الخيار الثاني. كانت الفاتحة في انتخابات 1992 وصول 12 مرشحاً منه إلى البرلمان، في بيروت وبعبدا والبقاع والجنوب. ولتفجّر هذه الانتخابات في حينه ازمة كبيرة ابان اجرائها بإعلان حسين الحسيني، رئيس مجلس النواب، انها انتخابات "مزوّرة". الا ان نتيجة الاقتراع لم تتبدل وأظهر "حزب الله" عرضاً قوياً للعضلات بتأكيده انه صاحب القرار السياسي في دائرة بعلبك - الهرمل، فيما كان يقاسم نبيه بري الحصص على المقاعد النيابية في الجنوب عبر تحالف انتخابي رعته دمشق. ثم تكررت التجربة في الانتخابات التالية عام 1996، بتحالف آخر أرغم عليه، نبيه بري والسيد حسن نصر الله، بإصرار سوري في الساعات القليلة التي سبقت الاقتراع في 9 أيلول 1996. أما بالنسبة الى نبيه بري، فالرجل هو الحليف الأول لسورية في لبنان، رئيس للبرلمان اللبناني الى اجل غير مسمى. لا يتردد في اظهار الخلاف بينه والحزب على ملفات عدة الا في موضوع الصراع مع اسرائيل ومع ذلك نادراً ما يبدي نواب حركة "أمل" ونواب "حزب الله" وداً متبادلاً بريئاً. اذ اصبحت الخصومة بينهما صراعاً على السلطة الشعبية وعلى استقطاب الوسط الشعبي الشيعي، على انه احد وجوه النزاع على الزعامة الشيعية في غياب منافس جدي لهما. فكلاهما يملك الامكانات الكبيرة: المال والمؤسسات الحزبية والنفوذ في ادارات الدولة اللبنانية والعناصر. وكلاهما يستمد قوته ايضاً من موقع التحالف مع سورية. في بعلبك - الهرمل حيث قوة "حزب الله"، استمال الناس بإنشاء مستوصفات ومراكز اجتماعية وصحية ومدارس ومساجد وحوزات وأنفق الكثير، بتمويل مصدره الفعلي إيران، على دفع مساعدات للاهالي في مجالات الاقساط المدرسية والمازوت في جرود الهرمل خصوصاً في فصل الشتاء والادوية، وأسدى خدمات اجتماعية وأنشأ مراكز للدفاع المدني، كانت تفضي هذه كلها الى رفده بشباب يتقاضون رواتب مالية عالية، ينخرطون في صفوفه وجلّهم يذهب الى مقاومة اسرائيل في ظل المشروع العقائدي. بدوره نبيه بري يضطلع بمهمات مماثلة لعل ابرزها عبر مجلس الجنوب الذي اعاد احياء البنية التحتية لعشرات البلدات في الجنوب. انه اذاً دفاع عن زعامة شيعية لا تزال ثنائية على ما كانت عليه في الطائفة لسنين طويلة. بيد ان استحقاقها الفعلي ستختبره مرحلة ما بعد التسوية السلمية التي ستؤول حكماً الى نزع سلاح "حزب الله"، المصدر الاساسي لقوته تحت شعار مقاومة اسرائيل، تمهيداً لإشهار لبنانيته الكاملة. وهو في الواقع خطا بذلك لمجرد تسليمه بالانخراط في الدولة اللبنانية. وفي ظل الصراع الجاري الآن على الزعامة، باتت المعادلة التاريخية برسم إعادة نظر جزئية. لم يعد الوجود في الحكم مصدر هذه الزعامة فحسب. ولم تعد العائلات التي تهاوت تدريجاً. بل أكثر من ذلك لم تعد "اللبننة" وحدها المصدر لسطوة السلطة والزعامة وإن في ظل شعبية ما. مغزى ذلك أن الصراع بين حركة "أمل" و"حزب الله" على الزعامة يريد ان يختصره بصراع تنظيمات لا صراع عائلات وبيوت سياسية على غرار المراحل السابقة، اعتقاداً من الفريقين بأن قواعد اللعبة السياسية تغيرت في الجنوب كما في البقاع التي قادت في الوقت نفسه الى اعتقاد اضافي بعدم مقدرة اي منهما على الغاء الآخر حيث يكونان. وهو ما حاول تجاهله في مرحلة ما "حزب الله"، خصوصاً في انتخابات 1992 بإبراز سيطرته على البقاع الشمالي وتأكيد مقاسمته نبيه بري نصف الجنوب بالائتلاف الانتخابي معه. كان ذلك ترجمة سياسية لاحتقان طويل منذ تصادما في معارك عسكرية طاحنة في الجنوب وبيروت والضاحية الجنوبية في 1987 و1988 و1989 من اجل تلك السيطرة وحسب خيارات احد الطرفين، اذ أن ما رمى اليه في حينه كل منهما ان تكون الكلمة الفيصل له في القرار الشيعي، خصوصاً في الجنوب. تنافس لا عداوة على ان المسألة المهمة في استيعاب الحزب والحركة عدم مقدرة اي منهما على الغاء الآخر من دون اغفال العامل السوري المؤثر في تجاوزهما هذا التحدي هي انتقالهما معاً الى التسليم بحتمية التنافس السياسي لا العداوة داخل الطائفة وعليها. ولذا بدا واضحاً وجود تسليم آخر هو اعتراف "حزب الله" أخيراً ونهائياً بعدم استطاعته منافسة نبيه بري على زعامة الطائفة الشيعية او تجاهل هذا الموقع، بل اكثر من ذلك الاقرار بأن لا بديل من الزعامة الشيعية لنبيه بري، سواء في رئاسة مجلس النواب او في قيادة الشارع الشيعي. ومن ذلك، وتحت هذا السقف بالذات، بات ما يعني حركة "أمل" و"حزب الله" في التنافس السياسي ليس الخلاف على موقع نبيه بري، بل كونهما تنظيمين لكل منهما حقه المشروع في امتلاكه عناصر قوته واستقطاب الناس والدفاع عن خطابه السياسي وتعزيز تمثيله وتأثيره في مؤسسات الدولة واداراتها. علماً ان في وسع الحزب ممارسة دور اكبر لهذا التوجه في البقاع الشمالي، فيما يضطلع به نبيه بري في الجنوب. وهذا ما عناه اخيراً اتفاقهما على التحالف الانتخابي لاستحقاق 2000 من دون ان يكونا مرغمين عليه. وقد اكده قبل اكثر من شهرين آخر اجتماع جمع نبيه بري بالأمين العام ل"حزب الله" حسن نصر الله، واتفاقهما على التحالف في انتخابات 2000 "في كل لبنان"، واعداد القاعدة الحزبية لأنصارهما بغية الاستعداد لهذا التعاون وانجاحه وتطبيع العلاقات بين الطرفين على مستوى القاعدة اولاً. مثل هذا التطبيع أخذ يشق طريقه بطيئاً في السنتين الاخيرتين، الا انه اضحى الآن ضرورة ملحة، اقراراً منهما بأن الجنوب، كما البقاع، كما العمل السياسي والتحالف مع سورية - وإن في ظل استمرار الخلاف على المشروع العقائدي بينهما - ساحات عمل مشتركة لهما