كثرت الأوصاف التي أُطلقت هذا الأسبوع على الحركة "الطفيلية" في البقاع بعدما سرقت احداثها الدموية مشهد التظاهرات العمالية والطلابية في بيروت. بعضهم قال انها محاولة تجديد تنادي بالغاء "تفاهم نيسان" وعدم التخلي عن مبدأ تحرير القدس وفلسطين. كما تنادي بضرورة انفصال "حزب الله" عن النظام اللبناني الذي طوّع مسيرة 1992 وأدخلها في اللعبة النيابية السياسية بحيث باتت شريكة ومتورطة. البعض الآخر يعتبرها نسخة ثانية عن "ثورة المحرومين"، خصوصاً ان قائد "ثورة الجياع" الشيخ صبحي الطفيلي كان تلميذاً معجباً بدعوة التغيير التي أطلقها الامام موسى الصدر. ولقد انضم الى حركة "أمل" في المرحلة الأولى من تأسيسها، ثم التحق بصفوف "حزب الله" لقناعته بأنه سيحقق طموحاته، ويؤسس لارساء نظام لبناني شبيه بنظام الجمهورية الاسلامية في ايران. زعماء الشيعة في لبنان يفسرون خلاف الأمين العام السابق لپ"حزب الله" مع خلفه حسن نصرالله، بأنه خلاف على المنطقة لا خلاف على المنطق. وهذه ظاهرة ثابتة عرفها تاريخ المنافسات والمنازعات داخل الطائفة الواحدة، بدءاً برئيس مجلس النواب صبري حمادي بعلبك ومنافسه الدائم على المركز أحمد الأسعد أو عادل عسيران الجنوب… وانتهاء بعملية المزاحمة بين حسين الحسيني البقاع ونبيه بري الجنوب وفي ضوء هذا النزاع القديم على أحقية تمثيل الطائفة الشيعية، هاجم الشيخ الطفيلي قرار فصله من "حزب الله"، مذكراً باحتمال تجدد الصدامات الدموية في جنوبلبنان اذا لم تتراجع القيادة عن بيان الفصل. وكان بهذا التلميح يحذر من عواقب التدبير المتسرع، ويعيد الى الذاكرة صورة القتال الدامي الذي نشب في الجنوب بين حركة "أمل" وبين "حزب الله". ولقد اتهمت قيادة "أمل" في حينه الطفيلي بأنه يحاول مصادرة دورها في المنطقة، وذلك عن طريق تعزيز نشاطه السياسي والاجتماعي، والاستيلاء على القواعد الحزبية في قرى الجنوب. وكان من نتيجة تلك المعارك الشرسة التي استعملت فيها الأسلحة الثقيلة، ان ايد شيعة الجنوب الحياديون ابن بلدة تبنين نبيه بري… وساعدوا على طرد نفوذ ابن بلدة "بريتال"، القادم من البقاع تحت غطاء الحزب وشعارات التحرير. ويبدو ان الأمين العام السابق الذي اغتالته اسرائيل عباس الموسوي حاول هو الآخر مدّ نفوذ مرجعيته من الهرمل الى الجنوب، ولكن قصر المدة التي خدم خلالها لم يسمح له بتنفيذ ما أقدم عليه الطفيلي ابن منطقته. ومن هذه الزاوية يرى أنصار الطفيلي ان قرار حسن نصرالله - وهو أول أمين عام للحزب من الجنوب - استند الى معطيات المنافسة بين المنطقتين، وليس الى اعتبارات عقائدية بررها "حزب الله" بمعاقبة كل من يشق عصا الطاعة على القيادة. وفي هذا الاطار يمكن تفسير الهتافات التي اطلقها مشيوعو الشيخ خضر طليس ضد حسن نصرالله، هاتفين بموته لأن تعاطيه مع حركة الطفيلي أحدثت البلبلة والانشقاق. مؤرخو الحركات السياسية والاجتماعية في لبنان، يحرصون على اظهار التباين في الطبائع بين شيعة الجنوب وشيعة بعلبك - الهرمل. وهم يدللون على الفوارق بابراز الانتماءات القبلية في منطقة كان يتحكم بأفراد طائفتها زعماء سبع قبائل. ولقد ساعد الفرنسيون على دعم زعامة صبري حمادة زعيم قبيلته مثلما دعم الرئيس فؤاد شهاب فضل الله دندش زعيم الدنادشة. وتبين من مراجعة الأحداث اللبنانية ان ابناء منطقة بعلبك - الهرمل عرفوا دائماً بطبائع الفريق المتمرد على قرارات الدولة وقوانينها. وعزا الرئيس شهاب هذا السلوك السلبي الى التجاهل والاهمال اللذين تعاملت بهما السلطة مع الأهلين، مثال ذلك انها لم توفر لهم المشاريع المنتجة، وكانت تتباهى باتلاف محاصيل الحشيشة في عرض اعلامي للتدليل على انسجامها مع القرارات الدولية. علماً بأن تلك المنطقة لم تنتج أكثر من 20 طناً في السنة كان الزعماء يحتكرون مردودها المادي. وحدث في ظل الفوضى وانتعاش سلطة الميليشيات خلال فترة الحرب ان انتعشت بالمقابل زراعة الحشيشة. ثم تطور هذا القطاع بواسطة "المافيا" التي طاردتها الدولة الايطالية وشددت الحصار على مصادر رزقها فانتقل بعض افرادها الى لبنان. والمؤكد ان هذه الشبكة ساهمت في تطوير زراعة شجيرات "الخشخاش" في جرود بعلبك - الهرمل. ويقول خبراء الزراعة ان هذه الشجيرات نمت في الأرض اللبنانية الخصبة أفضل بكثير من نموها في أفغانستان وباكستان وتركيا وحتى كولومبيا، وبسبب انتاج الخشخاش انشئت خمسة مصانع للكوكايين ومشتقاته في مواقع نائية ومحروسة. ويزعم تقرير الكونغرس الأميركي ان المحصول السنوي للمنتجات الزراعية المحظورة في لبنان كان يدر مبالغ طائلة وصلت ذات سنة الى 3 بليون دولار. ومن المنطقي ان هذه المبالغ كانت تتوزع على أصحاب العلاقة من المزارع الى المسوّق الى الحامي الى الراعي. وقيل في حينه ان الزعماء المحليين وقادة الأحزاب والسياسيين كانوا يحصلون على كميات من المال اعتبرت كافية لتحسين أوضاع انصارهم ومحازبيهم. صحيح ان ايران في تلك المرحلة كانت ترسل المخصصات لپ"حزب الله"… ولكن الصحيح ايضاً ان الكميات المتوافرة في ايران لا تشكل أكثر من 2 في المئة من الأموال التي أمنت المستوصفات واجهزة التلفزيون والرعاية الصحية والدواء والغذاء لآلاف العائلات. وعندما قررت الدولة بمساعدة سورية، اتلاف هذه المحاصيل المحظورة كتوطئة لمحو اسم لبنان عن قائمة الدول المنتجة والمصدرة، توقفت فجأة الأموال الخفية التي كانت توزع بسخاء على المحاسيب والأنصار. ومن الطبيعي ان تتأثر مصادر "حزب الله" مثله مثل الأحزاب الأخرى، بنتائج هذا القرار، ولقد استغل الشيخ صبحي الطفيلي هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة ليطلق شعار "ثورة الجياع" مقلداً بذلك مثله الأعلى الامام موسى الصدر على اعتبار ان هذه الدعوة ستجد أرضية خصبة بين المحتاجين والعاطلين عن العمل. وحرص خلال تهجمه على قيادة حسن نصرالله ان يمتدح ايران وسورية وذلك بهدف اعطاء الانطباع بأن مساندة هاتين الدولتين الراعيتين لحركته، هي الاطار السياسي الذي يتحرك من خلاله. ويبدو ان الأسلوب المهادن الذي تعاطت به الدولة مع حركة العصيان التي قادها، هو الذي شجعه على مواصلة التصعيد، الأمر الذي انتهى باعلان قرار فصله من "حزب الله". وبدلاً ان يواجه القرار بتخفيف لهجة التحدي، رفع درجة العنف وقاد جماعته في عملية احتلال مقر الحوزة الدينية التابعة لپ"حزب الله" في بعلبك. عندئذ تدخل الجيش اللبناني لاخراجه من الحوزة واعلان ملاحقته كشخص خارج على القانون. مع اختلاف الأدوار يتساءل المحللون عن المصير الذي أعدته الدولة للطفيلي في ظل التهم الموجهة اليه؟ هل هو مصير النفي كما تعاملت مع العماد ميشال عون، خصوصاً وان هذا الحل يوفر عليها وعلى سواها الكثير من الاحراج. والسبب ان المقاومة المسلحة انطلقت من منطقته، وانه شخصياً كان يتعاون في انتقاء وتدريب المجاهدين الذين قدمت بلدته بريتال منهم أربعين شهيداً. ومعنى هذا ان المحاكمة ستضطره الى فتح ملفات مغلقة، والى الكشف عن أسرار من الأفضل عدم الجهر بها. ولكن قيادة الجيش اللبناني مصرة على استكمال الملاحقة القضائية حفاظاً على كرامة المؤسسة العسكرية وسلامة أفرادها. علماً بأن بيان حركة ثورة الجياع اتهم "حزب الله" - قيادة حسن نصرالله بقتل الضابط اللبناني، ملمحاً الى ان الرصاص الذي أرداه هو الرصاص الذي أردى الشيخ خضر طليس، أحد مسؤولي حركة الطفيلي، وواضح من هذا التفسير ان الطفيلي يهدف الى خلق شرخ بين الجيش و"حزب الله" باعتبارهما شريكان حالياً في مسألة التنسيق لحماية أمن الجنوب. محللون آخرون يميلون الى القول بأن الشيخ صبحي الطفيلي قد يواجه مصير الدكتور سمير جعجع - أي السجن - وليس مصير النفي الذي تعاملت به الدولة من الظاهرة العونية. ويقدم هؤلاء بعض المؤشرات على رفع الغطاء السوري - الايراني عن الشيخ الطفيلي، خصوصاً وان طهران قررت التعاون مع الدولة اللبنانية في مختلف المجالات، ومن خلال الانفتاح السوري على القيادات المسيحية، يتوقع المراقبون الا تعترض دمشق على تنفيذ القانون ولو بحق شخص يعتبر في خندق المقاومة. وكما تسيّس القضايا في لبنان، ويتداخل في حواشيها العامل الشخصي والحزبي والسياسي، هكذا تسيست قضية الشيخ صبحي الطفيلي، ولم يسلم من هذا النهش الاعلامي السيد محمد حسين فضل الله أو الامام محمد مهدي شمس الدين، فاذا بالصحف تصنفهما في خانة المؤيد والمعارض للنهج الطفيلي. وهذا ما يشاع عن رئيس المجلس نبيه بري الذي اعتبر في صفوف مؤيدي الطفيلي لأن وزراءه الثلاثة صوتوا ضد احالة قضيته على المجلس العدلي. وترى قيادة "حزب الله" ان حركة "أمل" تحاول الاستفادة من ضعف الحزب في منطقة بعلبك لكي تملأ الفراغ وتظهر بمظهر القوة الحاضنة للطفيلي الذي استثنى وزيره نائب البقاع الغربي محمود أبو حمدان من الانتقاد، وعامله بطريقة مختلفة عن الطريقة التي عامل بها وزراء الدولة ونوابها. يبقى السؤال المهم: هل تؤثر هذه الهزة السياسية على وحدة الصف الشيعي، أم انها ستضرب مناعته بفعل نتائجها السلبية، مثلما أضعفت معركة عون - جعجع الموقف المسيحي وعطلت فعاليته السياسية؟ من الصعب المقارنة بين المعركتين والموقفين لأن "حزب الله" الذي استثنته سورية خلال عملية تجريد الأسلحة من الميليشيات سيبقى القوة الرئيسية على ساحة النضال في الجنوب. وربما تتأثر بهذه الأزمة العناصر المؤيدة للطفيلي، ولكن سورية لن تسمح بأي عمل يؤذي خاصرتها في المنطقة التي تعتبرها امتداداً لأمنها القومي!