تركت زيارة البابا يوحنا بولس الثاني لمصر - وهي الأولى من نوعها في التاريخ - انعكاسات عدة، وربما أسهمت - على حد تعبير أحد المفكرين المصريين - في رسم خريطة جديدة للمنطقة. وذلك على رغم اقتصار زيارة البابا على الجانب الروحي، إذ أن التوقيت كان حاسماً بسبب الصعوبات الذي تواجهها عملية السلام .ولقي البابا الذي حل ضيفاً في بلد الأزهر الشريف ترحيباً وتوقيراً من الحكومة وجميع الطوائف الإسلامية والمسيحية، وأعطى- بجدوله الرسمي الضيق - إشارات لإصرار شاركه فيه أكبر مرجعيتين إسلامية ومسيحية في مصر: شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي وبطريرك الكرازة المرقسية الارثوذكسية البابا شنودة الثالث، الى أن الحوار - وليس الصدام - طريق المستقبل. وتحدث لپ"الوسط" رجال دين ومفكرون مصريون عن انعكاسات زيارة البابا وأهميتها. فقد لاحظ وكيل الأزهر الشريف ورئيس لجنة الحوار بين الأزهر والفاتيكان الدكتور فوزي فاضل الزفزاف أن هذه الزيارة كانت رمزاً للتعاون والمحبة والأخوة والسلام، ليس لرجال الدين المسيحي فقط، ولكن لكل رجال الدين، وكانت دعوة موجهة اليهم ليمدوا أيديهم معاً لخدمة البشرية ونزع اسباب التطرف ومحاربة التعصب. ووصف الزفزاف الزيارة بأنها دعوة للتفاؤل ورسالة إلى المتعصبين والمتشائمين تؤكد أن الأديان كلها سماوية، ورجال الدين كلهم يعملون لخير البشرية. إن خدمة الحوار كهدف استراتيجي تحققت، فلقاء الرموز الكبيرة للإسلام والمسيحية، يجعل الآخرين أكثر استعداداً لنبذ الفرقة والخلاف. وأشار إلى أن لجنة الحوار بين الأزهر والفاتيكان بدأت عملها في أيار مايو 1999، وقطعت خطوات كبيرة من دون أي عقبات، وتوقع الزفزاف خطوات أخرى في سبيل توثيق عرى الحوار "الوليد"، مشيراً الى أن الاتصالات تجري الآن لعقد مؤتمر الحوار في مقر كلية أصول الدين في جامعة الأزهر بين الأزهر والفاتيكان في أيار المقبل لبحث سبل تدعيم هذا الحوار وتفعيله. وعبر الأب اسطفانوس الثاني بطريرك الأقباط الكاثوليك في مصر عن الفرح الكبير الذي تشعر به الكنيسة الكاثوليكية بسبب هذه الزيارة، وقال: "إن الكنيسة الكاثوليكية لديها الانفتاح الكافي لملاقاة الآخر مهما كان. وزيارة البابا هي زيارة للأخوة في المسيح وهم الأرثوذكس وللأخوة المسلمين الذين نعبد معهم إلهاً واحداً، ودائماً يمد الفاتيكان والبابا جسوراً مع الجميع". واضاف: كانت زيارة البابا في الأساس روحية، اذ زار سيناء التي مر بها سيدنا إبراهيم، حين كان الجوع شديداً في أرض كنعان، ومر بها موسى حيث استلم الوصايا العشر، ثم السيد المسيح الذي هرب عبرها إلى مصر من بطش هيرودس، وعاد بعد موته. وأكد البطريرك أنها أيضاً زيارة تاريخية، إذ هي الأولى لأي من باباوات روما لمصر التي شربت أرضها دماء الشهداء الذين قاوموا الوثنية، أرض آباء الكنيسة المصريين الذين دافعوا عن الإيمان. وهي ايضاً زيارة لمصر أكبر دولة عربية إسلامية، وأكثر دولة عربية تضم مسيحيين، وهي وإن لم تكن سياسية إلا أن لها اهمية الزيارة السياسية، اذ تطابقت وجهات النظر بين مصر والفاتيكان حول عملية السلام والقضية الفلسطينية والقدس. كما أن البابا يحمل تقديراً خاصاً للرئيس حسني مبارك. وأعرب البطريرك عن ثقته بأن الزيارة التي كانت مأمولة لزمن طويل توجت الحوار الإسلامي - المسيحي الذي بدأ بين الأزهر والفاتيكان، وقوّت جسور الحوار بين الكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكية. ولم يكن لهذه الزيارة أي علاقة بمسألة الفتنة الطائفية، أو أي شيء من قبيل ما جرى في قرية الكُشح في صعيد مصر أخيراً. "لأن ما جرى ليس فتنة إنما جهل وفقر، وقد تجاوزنا كمسلمين ومسيحيين كل ما جرى. والزيارة في النهاية ألقت الضوء على الكنيسة الكاثوليكية في مصر التي وإن كان عدد المؤمنين بها صغيراً نسبياً حوالي 300 ألف إلا أنها مرموقة بمدارسها المنتشرة من الاسكندرية حتى أسوان. فهي تمتلك 170 مدرسة غالبية طلبتها مسلمون . ويرى الدكتور اسماعيل الدفتار الاستاذ في جامعة الأزهر وخطيب مسجد عمرو بن العاص أن الزيارة كانت مهمة، اذ "التقى زعيم كاثوليكي بزعماء مسلمين تعبيراً عن روح التسامح التي تدعو إليها الأديان السماوية. ونحن كمسلمين - يقول الدفتار - وانطلاقاً من إيماننا بديننا واتباعاً لقرآننا ومنهج نبينا نقول لأي زائر: "أهلا ومرحباً"، فإن الله عز وجل يقول: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتُقْسِطوا إليهم إن الله يحب المُقْسِطِين". وقد كان النبي صلى الله علىه وسلم يستقبل الوفود من جميع الطوائف، في مسجده، ويرحب بهم ويُريهم مدى الود والتسامح اللذين جاء بهما الإسلام ونبي الإسلام. ولاحظ الدكتور مصطفى الفقي مساعد وزير الخارجية للشؤون العربية أن قيمة زيارة البابا لمصر ذات الشخصية الإسلامية الخاصة، وبلد الأزهر. "تعني نوعاً من التآلف بين الأديان. اذ انها أظهرت صورة الإسلام الحقيقية أمام القطب الكنسي الكبير. ولعل أهم ملف في هذه الزيارة هو التوقيت، إذ يُقصف لبنان البلد العربي العزيز لدى الغرب والفاتيكان، وتدخل القضية الفلسطينية مرحلة حرجة خصوصاً في ما يتعلق بالمقدسات. كما جاءت الزيارة في وقت تصاعدت فيه بعض مظاهر الفتنة في الصعيد بعد ما جرى في الكُشح. لذلك أبرزت الزيارة الوجه التاريخي السمح للشخصية المصرية أمام العالم. وعادت الأوضاع الى طبيعتها في هذه القرية، ونهض دور الدولة في الكُشح على مستوى القضاء والإعلام بشكل لا غبار عليه، وبالتالي عززت الزيارة هذه الصورة. ويؤكد المستشار طارق البشري الطابع السياسي لزيارة البابا. ويقول: "المعروف ان البابا في الحقيقة في كل رحلاته خلال السنوات العشرين الماضية يقوم بنشاط سياسي في إطار السياسة الغربية بطبيعة الحال، وقد بدأها بزيارة بلده بولندا وكلنا يعرف ما حدث هناك. هذا الأمر يجعلنا نتفهم الأهداف السياسية للزيارة، خصوصاً أن مصر وغالبيتها مسلمون والأقلية أرثوذكس وأقلية الأقلية هم الكاثوليك. لقد ذهب البابا نفسه من قبل إلى جنوب السودان ووقف بجوار الجنوبيين وتطلعاتهم، وعلينا ألا نغفل هذا. أما الجانب الإيجابي من الزيارة، ففي رأيي أن هناك تعاوناً أو روحاً من التوافق الفكري بين الفاتيكان والمسلمين خاصة في المسائل الأخلاقية مؤتمر السكان في القاهرة ومؤتمر المرأة في بكين والموقف المشترك ضد الإجهاض. وهو تعاون مهم ومطلوب دعمه". واضاف: لا أعرف مدى أهمية الحوار الإسلامي - المسيحي، فالحوار في ما يتعلق بالأصول الدينية صعب، لأن كل دين له مسلماته الفكرية، والحوار في المطلقات لا يؤدي إلى نتيجة عملية وإنما يبرز الخلافات. ولكن الحوار ينبغي أن يكون بين المتدينين وليس بين الأديان، لأن لكلٍ مرجعيته الشرعية ومعتقداته التي يصدر منها في قضايا التآخي والمساواة وحقوق الإنسان. وأرى أن الحوار يجب أن يكون حول الفروع، أما المطلقات فهي بطبيعتها عصيّة على التنازلات النسبية والحلول الوسط، وكلما أنصرف الحوار إلى النواحي الاجتماعية والسلوكية كان أفضل. أما البابا فإن تصريحاته عن القدس فهي مواتية للسياسة المصرية وهذا أمر جيد، وهو في النهاية زعيم روحي للكاثوليك في العالم، والترحيب الذي قوبل به واجب، وتوقيره واجب، والسعي للجوانب الايجابية في هذه الزيارة أوجب". ويعتقد الانبا موسى اسقف الشباب في الكنيسة القبطية الارثوذكسية وأحد أعضاء الوفد الذي رافق البابا خلال زيارته لمصر. أن الأثر الأول لهذه الزيارة دعم روابط المحبة على أصعدة، عدة. وأشار الى الدور العالمي للبابا وكذلك الدور العالمي للبابا شنودة بعد أن انتشرت الكنيسة القبطية، ومن هنا يأتي البعد الدولي للزيارة، أما على مستوى الشرق الأوسط، فإن للزيارة عائداً يصب في دفع عملية السلام في الشرق الاوسط وللبابا موقف قوي داعم للسلطة الفلسطينية في شأن القدس نرجو أن يزداد، ليس فقط من أجل القدس، ولكن من أجل كل الأراضي العربية المحتلة، خصوصاً بعد أن تأزمت الأمور، وبعد الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان. وللبابا ثقله السياسي كرئيس دولة وله صلاته المعروفة مع إسرائيل، ونرجو أن يقوم بدوره إحقاقاً للحق العربي عامة والفلسطيني خاصة. ويذهب المفكر المصري الدكتور ميلاد حنا الى أن زيارة البابا الى القاهرة علامة تاريخية غير مسبوقة، "فلم يسبق لأي من باباوات روما أن قَدِمَ للقاهرة، ومن ثم فإن بابا روما من خلال زيارته شيد جسوراً جديدة مع بداية ألفية ميلادية جديدة مع كل "من الأزهر أكبر مؤسسة دينية في مصر ومع الكنيسة القبطية الارثوذكسية أكبر مؤسسة دينية مسيحية في مصر. هذا عن الماضي، أما الحاضر والمستقبل فإن البابا كان أحد العقول التي ساهمت في تغيير خريطة العالم وإنهاء الحرب الباردة ولم يكن متصوراً أن حقبة التسعينات ستتحول الى هذا الكم الهائل من الصراعات العرقية والمذهبية والدينية، ولما كانت المنطقة العربية هي موطن نشأة اليهودية والمسيحية والإسلام، فإن امكان تعايش هذه الديانات الثلاثة سيكون عاملاً مهماً مساعداً في إقلال الصراعات المحلية في مواقع كثيرة، ونشأت نتيجة إنتهاء الحرب الباردة، إن البابا وهو في هذه السن الطاعنة وينتقل بصعوبة ويناضل لعله يرى في حياته، بدايات لبناء جسور حوار حقيقي بين الأديان الثلاثة، فهو يتمنى أن تبقى الاقليات المسيحية في العالم العربي كيانات حية فعالة موجودة هنا ولا تغادر الى الغرب، كما يتمنى أن تكون القدس مكان وجود فعال للديانات الثلاث من دون صراع ما أمكن. وتحدث المفكر المصري الدكتور رفيق حبيب عن الدعم الذي وفّرته الزيارة لتوطيد العلاقات مع الكنيسة الكاثوليكية، خصوصاً أن لها دوراً فاعلاً في عملية السلام بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، وترجيح كفة الجانب الفلسطيني خصوصاً حول مسألة القدس. لقد كان للفاتيكان موقف داعم للحقوق العربية ساهم في إعطائها سنداً، ولذلك تمت الزيارة في وقت مهم لأنها سبقت مرحلة ما يسمى بمفاوضات الحل النهائي. وأعتقد أنه بإمكان مصر أن تلعب دوراً في الوصول الى موقف للفاتيكان يدعم الحق العربي في القدس الشرقية