ماذا حدث لمبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري لدى بطريرك الموارنة نصر الله بطرس صفير؟ هل هي بنت أفكار بري وحده أم تفويض سوري رفيع المستوى أم أن تطوّر الأحداث الذي رافقها أفضى الى محاولة التنصّل منها؟ قد يكون من السذاجة الاعتقاد بأن مبادرة بري ليست وليدة تفاهم بينه وبين السوريين خصوصاً أن مضمونها يتجاوز موضوع إعادة انتشار الجيش السوري في لبنان الى مسائل لا تقل دقة في ما ناقشه بري وصفير عبر الوسطاء أولاً، ثم وجهاً لوجه في الخلوة التي عقداها وحرصا على أن لا ينضم إليهما ثالث بغية إنجاح مداولاتهما، وهي مداولات عرف بها السوريون قبل ذهاب بري الى بكركي كونهم كانوا المعنيين مباشرة بجدول أعمال هذه المبادرة. وبذلك يقتضي القول إن ثمة شركاء ثلاثة في مبادرة رئيس المجلس، طرفاها الأساسيان دمشق وبكركي، وبينهما يقيم الوسيط رئيس البرلمان. يدفع ذلك الى التأكيد أن المبادرة تعود الى أيلول سبتمبر الماضي عندما ناقش موفدون لبري وصفير أفكاراً تتصل بفتح حوار سوري - مسيحي انطلاقاً من الموقع الذي يتخذه بطريرك الموارنة كمرجعية دينية ووطنية وسياسية أساساً وهو ما سلّمت به لاحقاً تطورات المبادرة ونتائجها الأخيرة. بعد بضعة اجتماعات بدا أن الطرفين توصلا الى قواسم مشتركة في مواضيع عدة تضمنتها مسودة من ستة بنود أمكن عندها الخوض في زيارة يقوم بها رئيس المجلس لبكركي تتويجاً للاتفاق. إلا أن البيان الذي أصدره مجلس الأساقفة الموارنة برئاسة البطريرك في 20 أيلول كاد ينسف كل هذه الجهود نظراً الى خطورة ما تضمنه من حملة قاسية على سورية ودعوة الى انسحاب جيشها من لبنان وتحميلها مسؤولية انهيار الوضع الاقتصادي بسبب العمالة السورية. وعلى الفور انقطعت الاتصالات بين بري وصفير لبعض الوقت لتستأنف في منتصف تشرين الثاني نوفمبر. في هذه الغضون، لم يكتم بري استغرابه لموقف مجلس الأساقفة وحملته على سورية في ظل حوار يديره مع بكركي. ومع ذلك لم يتردد في التأكيد أنه يؤيد وجود الجيش السوري في لبنان في الوقت الحاضر وحتى إنجاز التسوية الإقليمية. وفي الأول من تشرين الثاني مثلت حكومة الرئيس رفيق الحريري أمام مجلس النواب لنيل الثقة، فكان أن أطلق النائب البير مخيبر، أول المتحدثين في تلك الجلسة، قنبلة بدعوة الجيش السوري الى مغادرة الأراضي اللبنانية، تبعه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، وإن بمرونة أفضل، بدعوته الى تصويب العلاقات اللبنانية - السورية وإعادة تجميع القوات السورية تطبيقاً لاتفاق الطائف. وقبل ذلك بأسابيع كان الوزير نجيب ميقاتي، الصديق الشخصي للرئيس بشار الأسد، قد تحدث عن الحاجة الى تصويب العلاقات اللبنانية - السورية، وبحكم موقعه القريب من الأسد لم يكن ليتحدث في هذا الموضوع لو لم يجد سلفاً تجاوباً من الرئيس السوري في مناقشة هذا الموضوع. وشكل موقفا مخيبر وجنبلاط على تفاوت حدتهما واختلاف مضمونيهما فضلاً عن موقعي الرجلين لدى سورية، الشرارة التي أفلتت الزمام في مجلس النواب للمطالبة بإعادة انتشار الجيش السوري في لبنان. على أن بري الذي قال أنه سيتكلم "للتاريخ" لاحقاً في هذا الموضوع، امتنع عن مناقشته وأوكل موقفه الى النائب علي حسن خليل. وبعد ذلك تجددت قنوات الاتصال بينه وبين بكركي ليتوصلا الى ما يشبه مسودة التفاهم على ستة بنود. وفي الحصيلة طلب بري ان توجه إليه دعوة رسمية من البطريرك للغداء الى مائدته في بكركي فتكون مناسبة لمناقشة المسودة التي التقت أوساط بكركي ورئيس المجلس على التأكيد أن الزيارة هي تكريس لكل ما أثير فيها. والواقع أن السوريين لم يكونوا بعيدين عن الاطلاع على كل المراحل. في هذه الأثناء كانت دمشق قد أقفلت أبوابها في وجه جنبلاط الذي التزم الصمت. إلا أن موضوع المطالبة بإعادة نشر الجيش السوري لم يسحب من التداول وتنامى في أكثر من وسط سياسي وليس لدى غلاة المعارضين فقط. وغداة الخلوة الطويلة بين بري وصفير صرّح البطريرك ل"وكالة الصحافة الفرنسية" أنه مصر على المطالبة بانسحاب الجيش السوري من لبنان كاملاً، وعطف على هذا الموقف انتقاداً للمؤسسات الدستورية اللبنانية ليقول إنها واقعة تحت"الهيمنة" السورية، وموضحاً أيضاً أن المشكلة ليست في وجود الجيش السوري فحسب، وإنما في النفوذ السياسي السوري في البلاد. وللتو، وفي خطوة لا سابقة لها، تولت دوائر في القصر الجمهوري توزيع تصريح البطريرك على "الوكالة الوطنية للإعلام" الرسمية التي نشرته، الأمر الذي لم تقدم عليه قبلاً. إلا أن ذلك عكس مغزى سياسياً آخر هو عدم رضى رئيس الجمهورية إميل لحود على مسعى بري الذي كان وجّه في تصريحه في بكركي إثر خلوته وصفير انتقادين مبطّنين: أولهما أن حكم الأكثرية للأقلية يكون في ظل "الراعي الصالح"، وثانيهما تأكيده أن إعادة تجميع الجيش السوري في لبنان بدأ في نيسان ابريل وسيُستكمل لاحقاً. موقفا بري هذان أبرزا نوعاً من التناقض بينه وبين رئيس الجمهورية في موضوع يتصل مباشرة بوجود الجيش السوري في لبنان. إذ إن الموقف الذي سبق أن أعلنه رئيس الجمهورية في رسالة الاستقلال، قال برفض البحث في موضوع وجود الجيش السوري في لبنان الذي هو "وجود شرعي وموقت"، وقال لحود أيضاً إنه يحكم باسم الأكثرية مما يوجب على الأقلية الرضوخ الى أن يتسنى لها الوصول الى السلطة بالانتخاب وتقرير خياراتها في هذا الموضوع. وبدا أن ثمة اصطفافاً سياسياً جديداً: رئيس الجمهورية يرفض البحث في موضوع وجود الجيش السوري في لبنان وقد اعتبر إثارته "خدمة مجانية لإسرائيل"، فيما يسعى بري الى التقريب بين دمشق وبكركي من باب توليه تعهداً سورياً بإعادة تجميع الجيش السوري، اما بكركي وجنبلاط فتطابق موقفاهما الى حد كبير في موضوعي السيادة الوطنية واستقلال القرار الوطني، من دون الاشتراك في الموقف من الدعوة الى انسحاب الجيش السوري من لبنان. مع ذلك، وبعد ساعات على التصريح الذي أدلى به البطريرك صفير ل"وكالة الصحافة الفرنسية"، حرصت أوساط رئيس الجمهورية على تأكيد دعمه الحوار الجاري والذي لا يعتبره موجهاً ضد أحد. إلا أن لحود شدد على تحفّظه عن إثارة الوجود العسكري السوري ليؤكد أن الموقف الذي أبرزه في رسالة الاستقلال هو الذي يمثل الموقف الرسمي للدولة اللبنانية. في الوقت نفسه، وبعد رد فعل بري على ما أدلى به صفير، إذ اعتبر أن ثمة "إطلاق نار" على مبادرته، جاء توقيت كلام وزير الخارجية السوري فاروق الشرع، في اليوم نفسه لكلام البطريرك، ليقول فيه إن لا فريق ثالثاً في موضوع إعادة انتشار الجيش السوري في لبنان الذي تقرره الدولتان اللبنانية والسورية فقط. في ظل كل ذلك بدا أن مبادرة بري أضحت في مهب الريح. أما الأسباب، فشتى ومنها: 1- وجود موقفين سوريين من مبادرة بري لا يعكسان بالضرورة وجود قرارين أيضاً. فثمة قرار واحد هو عند الرئيس السوري بالذات. أما الموقفان فمصدران لأكثر من رأي في موضوع إعادة تجميع الجيش السوري في لبنان لجهة حصوله وجعله مكسباً سياسياً للبطريرك الماروني، أو عدم حصوله. لكن المهم هو موقف الأسد على نحو ما عبّر عنه أمام الشخصيات اللبنانية التي استقبلها تباعاً بتأكيد رغبته في الانفتاح على المسيحيين ومحاورتهم وتشديده على فرصة جديدة للتعاون، مع تذكيره لهم أن الجيش السوري باشر إعادة تجميع قواته، إلا أن الانسحاب الشامل من لبنان مرتبط بالتسوية الشاملة والعادلة في المنطقة لا قبل ذلك. كذلك عبّر الأسد خصوصاً أمام الوزير السابق فؤاد بطرس عن مواقف إيجابية من البطريرك تتصل بسعيه الى الانفتاح عليه. وهي الرسالة التي حملها بطرس من الرئيس السوري الى صفير. لذلك يبدو موقف الرئيس السوري الأكثر تعبيراً عما تريده دمشق أو لا تريده من الحوار مع الكنيسة المارونية وسائر القوى والشخصيات المسيحية. 2- امتعاض بري من الحملات على مبادرته، مع استغرابه لأن يكون المصدر الأول لما سماه "إطلاق النار" على هذه المبادرة قد جاء من بكركي وتحديداً في تصريح البطريرك ل"وكالة الصحافة الفرنسية"، على رغم اتفاقه معه في خلوتهما قبل ساعات قليلة على سحب موضوع إعادة انتشار الجيش السوري من التداول والسجال السياسي الساخن وإتاحة الفرصة أمام تهدئة تساعد على إنجاز التعهدات التي قطعها بري باسم السوريين للبطريرك، وقد ساهم تصريح صفير ذلك في بناء أول عقبة أمام المسعى أتى بعده الموقف السوري ليعلن ان رئيس المجلس لا يمثل سورية في كل ما أثاره مع صفير، مما بعث على الاعتقاد بوأد مبادرته سلفاً. ومع أن بري يصر على التأكيد أنه ماض في مبادرته، إلا أنه يعرف حجم العقبات والعراقيل التي باتت تواجهه من بيروتودمشق، كما يعرف أيضاً أن هناك متضررين من حوار بكركي مع سورية الى الحد الذي جعله يتساءل: هل يعرقلون المبادرة لأنني أنا الذي أقودها؟ 3- محاولة عرقلة مبادرة بري عبر إحالة اي مناقشة لموضوع وجود الجيش السوري في لبنان على الدولتين اللبنانية والسورية مع أن رئيس المجلس قال إثر خلوته وصفير ان بت هذا الموضوع من صلاحيات المؤسسات المعنية. علماً ان عمليات إعادة تجميع للقوات كانت بدأت قبل أشهر وبمعزل عن دور المؤسسات المعنية في الدولتين. وهو ما أظهره إخلاء السوريين عدداً كبيراً من المواقع والجنود في بيروت وضاحيتها الجنوبية والجبل والجنوب والشمال بعيداً عن الأضواء، من غير أن تتناول هذه المهمة الدولتان اللبنانية والسورية. وهي الثغرة التي تحاول مبادرة بري النفاذ منها من غير سيطرتها على دور ليس لها. بل هو أيضاً ما قاله البطريرك تكراراً من أنه لا يريد الحلول مكان الدولة اللبنانية في مهمتها، إلا أنه يستغرب على الدوام تجاهلها منذ عام 1992 وحتى اليوم تطبيق البند المتعلق بإعادة تجميع القوات السورية في اتفاق الطائف الذي يصر عليه. ومع هذه المواقف يتلاقى موقف رئيس الجمهورية المعارض لكل ما يحصل، على الأقل قياساً بما يقول به لحود، الرافض البحث في أي أمر يتصل بالوجود العسكري السوري خارج نطاق التسوية الشاملة. لكن اللافت في الأمر أيضاً أن وزير الخارجية السوري انتقد - من غير أن يسمي - اي عمل من شأنه إثارة إعادة تجميع القوات، ثم لم يلبث أن اتصل برئيس البرلمان ليعلمه بأن مَن قصده في كلامه هو بطريرك الموارنة لا بري بالذات. مما عنى لرئيس المجلس عدم ممانعة دمشق لتحرك بري، أو على الأقل عدم اعتبار مبادرته تتناقض مع الموقف السوري القائل باتفاق الدولتين اللبنانية والسورية. أما إلى أين من ذلك؟ لا جواب صريحاً، أوساط بري تقول إنه سيتكلم بعد أيام من سحب موضوع مبادرته من التداول. إلا أنها تشير في المقابل الى أن المبادرة قائمة ولا يزال رئيس المجلس يصر عليها بعدما تبلغ رسمياً أن لا تحفظ سورياً على ما يقوم به، وأن لا قرارين سوريين في هذا الموضوع، بل قرار واحد، وإن يكن ثمة رأيان سوريان حياله