ربما يجدر بالرئيس الفرنسي جاك شيراك ان يندب حظه السيء بالقياس الى رؤساء الجمهورية الخمسة الذين سبقوه الى قصر الاليزيه. فهو ما برح منذ العام 1997 يراكم الاخطاء في الحكم ومعها الفضائح والانهيارات السياسية. واذا كان الخطأ الاكبر قد نجم عن قراره الشهير حل "الجمعية الوطنية" التي كانت توفّر له غالبية مريحة في الحكم، فإن فوز اليسار الائتلافي في الانتخابات النيابية فرض عليه حكومة تعايش يسارية برئاسة ليونيل جوسبان خصمه السابق في رئاسيات العام 1995 وخصمه الضمني في رئاسيات العام 2002. ومنذ ذلك التاريخ لا يسمع شيراك اخباراً "تُسرُّ القلب" وينشرح لها الصدر، فجنرالاته الكبار ينفضّون عنه وفي طليعتهم شارل باسكوا وزير الداخلية السابق الذي انشقّ عن التيار الديغولي وأسّس حزبه الخاص مع اليميني الشهير والمتشدّد فيليب دوفيليه. أما حزبه الديغولي "التجمع من اجل الجمهورية" فقد اختار ميشيل اليوماري السيدة الحديدية التي لم يكن شيراك يرغب في توليها رئاسة الحزب الذي بناه حجراً حجراً وحمله الى رئاسة الدولة الفرنسية. وكما في رئاسة الحزب، كان على شيراك ان يقبل على مضض بفيليب سيغان مرشحاً رسمياً للديغوليين في الانتخابات البلدية المقبلة 2001 في بلدية باريس، ضارباً عرض الحائط بمرشحته المفضلة فرانسواز دوبانغيو، وبجاك تيبيري رئيس البلدية الحالي الغارق مع زوجته بالفضائح والمصرّ على خوض الانتخابات البلدية على رغم نزع الثقة عنه من حزبه ومن التكتل اليميني في آن معاً. ويحلو لتيبيري الذي شكّل متراساً مدافعاً بعناد عن رئيس الجمهورية وعن الفضائح الكامنة والمتفجّرة خلال فترة ولايته الطويلة في بلدية العاصمة، ان يهدد بفتح الملفات اذا ما فقد ثقة رئيس الجمهورية الذي امتنع عن توجيه اي نقدٍ له على رغم انشقاقه عن التيار الديغولي وتحدّيه السافر لمرشح الحزب الرسمي سيغان. وعندما لا تأتيه الاخبار السيئة من محيطه المباشر ومن رفاقه المخلصين، يشاهد شيراك بأمّ العين حلفاءه اليمينيين يتنافسون على شق طرق مستقلة عنه، فها هو الليبرالي فرانسوا بايرو يعلن ترشيحه لرئاسة الجمهورية، بعدما اعلن الليبرالي اليميني الآخر آلان مادلان نيّته الترشح لمنصب يعرف ان شيراك يتطلّع اليه بقوة، فيما باسكوا الوجه الديغولي التاريخي قطع مسافات طويلة على الطريق نفسه. ووسط هذه الجوقة من المرشحين المعلنين قد تظهر اسماء يمينية اخرى، ومن الطبيعي ان يؤدي ظهورها الى تعزيز فرص اليسار في الفوز برئاسة الجمهورية اذا ما حافظ جوسبان خلال العامين المقبلين على التماسك الحالي في ائتلافه الحكومي الناجح. واذا كان شيراك قد تحمّل بصبر يُحسد عليه، اخبار اليمين السيئة، واخبار اليسار الحاكم الجيدة في الآن معاً، فإنه كان يراهن على رئاسة بلاده للاتحاد الاوروبي خلال الشهور الستة الماضية ابتداء من حزيران يونيو من العام الحالي. فهو كان يعتقد بأن رئاسته للاتحاد اذا ما تكلّلت بانجازات اوروبية جذرية، ستتيح له الالتفاف على اليمين واليسار معاً، فيفرض نفسه كرئيس يحمل الانجازات للفرنسيين على اختلاف تياراتهم، من العالم واوروبا معاً. غير ان ميزان التجارة الخارجية خذله للمرة الاولى عندما سجّل تراجعاً ملحوظاً، فيما الخلاف الالماني - الفرنسي عشية قمة نيس الاوروبية يخيم بظله على نتائج القمة وعلى محصلة الرئاسة الفرنسية لدورة الاتحاد الاوروبي الحالية خصوصاً اذا ما استطاع المستشار الالماني غيرهارد شرودر ان يزيد من حصة التمثيل الالماني في المفوضية الاوروبية على حساب المساواة في التمثيل بين برلينوباريس المعتمدة منذ العام 1951. لكن على رغم الاخبار السيئة المنهمرة عليه من كل صوب، فان استطلاعات الرأي لم تخذل رئيس الجمهورية الذي خسر نقاطاً ثمينة منذ الصيف الماضي، من دون ان تصل هذه الخسارة الى القاع وظلّ متفوقاً على رئيس وزرائه الذي تعرّض لاختبارات صعبة في الملف الكورسيكي وفقد وزراء في حكومته من الوزن الثقيل. الا ان بورصة الاستطلاعات بدأت تتنكر لرئيس الجمهورية منذ الاعلان عن فضائح الفساد المالي مطلع الخريف وبداية الشتاء الحالي وبصورة خاصة فضيحة "ميري" الشهيرة والمعروفة بفضيحة "الكاسيت" والتي يروي فيها احد المسؤولين السابقين في بلدية باريس وفي التيار الديغولي، بالصوت والصورة، تفاصيل عن مشاركته وبعلم رئيس بلدية باريس السابق، في تمويل الحزب الديغولي بصورة غير قانونية وعبر صفقات كانت تتم في مجال صيانة "المنازل الاجتماعية" وتوفر عشرات الملايين من الفرنكات لخزينة "التجمع من اجل الجمهورية" وخزائن الاحزاب الاخرى. وكان ميري المصاب بالسرطان قد قرّر تسجيل اعترافاته على كاسيت وطلب نشرها بعد وفاته ثأراً لتنكّر رفاقه القدامى له عندما وقع في قبضة العدالة. 600 مليون فرنك وما ان انحسر الحديث عن كاسيت ميري حتى انفجرت فضيحة جديدة، بطلها هذه المرّة ميشال روسان الوزير السابق وعضو الاستخبارات الداخلية السابق والذراع اليمين لشيراك في بلدية باريس وأحد الرجال الأكثر قرباً منه والاكثر اخلاصاً له. فقد ألقت العدالة القبض على روسان بتهمة التمويل غير المشروع للحزب الديغولي ولرئيس الجمهورية خلال الفترة الواقعة بين 1986 و1996 وفيها حصيلة اموال تقدّر بحوالي 600 مليون فرنك فرنسي. امام الفضيحة الجديدة لم يعد بوسع رئيس الجمهورية القول مجدداً، كما في الفضيحة الاولى، انه مستهدفاً شخصياً وان ثمة أيادي معروفة، تريد النيل منه والاساءة الى سمعته. ففي المرة الاولى كانت الكاسيت التي حملت الفضيحة بحوزة دومينيك ستراوس كان احد ابرز الشخصيات السياسية الاشتراكية والوزير السابق الاهم في حكومة جوسبان وبالتالي كان من الممكن الربط بين الاشتراكيين والفضيحة "المبرمجة" التي اندلعت للتغطية على تراجع اسهم جوسبان في استطلاعات الرأي حسب التحليلات الديغولية في حينه. اما فضيحة روسان فهي تنتمي الى المربّع الاول في البيت الديغولي وقد انفجرت بعيداً عن ايدي الاشتراكيين وبمبادرة من القضاء نفسه، ما يعني ان الطوق حول رئيس الجمهورية بدأ يضيق اكثر فأكثر، وبالتالي لم يعد بوسعه التزام الصمت، ولم يعد بوسع المخلصين له التحدّث عن مؤامرة جديدة واكتساب صدقية لدى الرأي العام. والمرجح ان فضيحة روسان ستجرّ فضائح جديدة قد تؤدي الى انهيار مفاجئ في اوساط الرئيس ودفعه الى الخضوع للاستجواب من طرف مجلس القضاء الاعلى واذا ما تم ذلك فان شيراك سيكون الرئيس الاول في الجمهورية الخامسة الذي يخضع لمثل هذا الاجراء وساعتئذ ستهبط حظوظه في الفوز بولاية رئاسية جديدة. واللافت في الفضيحة الجديدة ان رئيس الجمهورية يلتزم الصمت ولا يردّ على المطالبين الكثر بضرورة ان يشرح للرأي العام حقيقة الاتهامات الموجهة ضده عبر القضاء ووسائل الاعلام. ويستخدم شيراك، ولربما بإفراط، الحصانة الدستورية التي يتمتع بها، فقد اصدر المجلس الدستوري وهو اعلى هيئة قضائية في فرنسا، مطالعة في 22 كانون الثاني يناير العام 1999 تؤكد ان رئيس الجمهورية لا يخضع للمساءلة القضائية خلال ولايته الا امام مجلس القضاء الاعلى وبتهمة الخيانة العظمى استناداً الى المادة 68 من الدستور. وقد صدرت هذه المطالعة بعدما اكتشف القاضي باتريك دومير في العام نفسه، رسالة موقّعة من شيراك عندما كان عمدة لباريس، وتتصل بفضيحة "وظائف وهمية" اكتشفت في البلدية وخلال عهد شيراك. سابقة كلينتون غير ان هذه المطالعة لا تنأى برئيس الجمهورية عن ملف الدعاوى المرفوعة حول الفضائح المذكورة، فثمة مطالعات اخرى ترى ان الرئيس يمكن ان يستدعى للشهادة في هذه الملفات من دون ان توجّه اليه تهمة معينة فيها، أضف الى ذلك ان حصانته القضائية تظل محصورة بفترة ولايته الرئاسية وتسقط تلقائياً مع نهاية الولاية، ما يعني ان رئيس الجمهورية سيجد نفسه بمواجهة القضاء مباشرة، عندما يصبح مرشحاً للرئاسة في ختام ولايته، اي في الفترة التي سيكون فيها بأمسّ الحاجة للابتعاد عن المساءلة القضائية. في مواجهة ذلك، ثمة من يعتقد بأن بوسع الرئيس ان يبادر بنفسه في الحديث عن الاتهامات التي تتناوله. ويعتقد المقرّبون منه انه ما ان يتحدث مرة واحدة عن الملفات المذكورة حتى يصبح وضعه كوضع الرئيس بيل كلينتون الذي نجا من العاصفة عبر الانخراط فيها وليس عبر ادارة الظهر لها. ويرى هؤلاء ان شيراك قد يبادر الى ذلك بعد انتهاء الرئاسة الفرنسية للاتحاد الاوروبي، كي لا تتأثر الولاية الفرنسية لأوروبا بالفضائح الداخلية الفرنسية. واذا كان من الصعب التأكد من صحة هذه التوقعات ومن معرفة ملامح الاستراتيجية الدفاعية التي سيعتمدها رئيس الجمهورية فان عدداً متزايداً من مناصريه بات يعتقد بأن عليه ان يقدّم تفسيرات وشروحات للاتهامات التي تطوله مباشرة، وعلى رأس هؤلاء، سيغان الذي يخوض معركة حرجة للغاية في الانتخابات البلدية ولربما يحتاج في هذه المعركة الى "شفافية" رئيس الجمهورية ازاء الملفات المطروحة بدلاً من الصمت الذي يهدد فرص الديغوليين في الفوز برئاسة بلدية العاصمة. وكائناً ما كان الخيار الذي سيعتمده شيراك ازاء هذه الملفات المتفجّرة، فإنه يظل محفوفاً بالمخاطر. ذلك ان مكافحة الفساد السياسي من طرف القضاء، مسألة يجمع عليها الرأي العام الفرنسي والقسم الأعظم من الطبقة السياسية. وبالتالي لن يكون من السهل تبرير "الفساد" المالي بالحديث عن الماضي حيث كانت الاموال الانتخابية والحزبية تتجمع في ظل غموض قانوني كبير. فالملفات موضع الشكوى تعود الى الاعوام التي صدرت فيها قوانين تنظيم التمويل السياسي وطرق الصرف في الحملات الانتخابية، وتم العفو عن الممارسات السابقة، ما يعني ان هامش المناورة ضيّق للغاية امام الشرح والتفسير، ولعل ادراك الرئيس الفرنسي هذه الحقيقة هو الذي يُفسّر صمته وتمسكه المفرط بحصانته الدستورية. والراجح ان المخرج الوحيد الذي يرتسم امام شيراك والحلقة الضيّقة من مساعديه، يكمن في تسليط الاضواء اكثر فأكثر على ما اصطلح على تسميته ب"جمهورية القضاة" والسلطات اللامحدودة التي يتمتعون بها. فهؤلاء يرفعون سيوف العدل فوق كل الرؤوس ولا يخضعون لأي رقابة غير رقابة ضمائرهم، وهم لا يشعرون بتعاطف كبير مع الطبقة السياسية ويصلون احياناً الى حد تعريض مصالح فرنسا العليا للخطر كما هي الحال في الدعوى التي يزمع القاضي جان لوي بروغيير رفعها ضد العقيد معمر القذافي في قضية طائرة "يوتا" التي كانت مرشحة للتسوية النهائية بين القذافي وشيراك عبر رسائل تفصيلية متبادلة بين الطرفين. وفي مواجهة "جمهورية القضاة" ربما يتمكن شيراك من الفوز بأصوات متضررين كثر لكنه سيخسر حتماً معركة "الشفافية" وسيادة "الاخلاق" للممارسة السياسية في فرنسا وهذه مسألة تحظى بتعاطف كبير من الرأي العام الذي يفقد تدريجاً ثقته بالطبقة السياسية وتنحسر مشاركته في العملية الديموقراطية كما بيّنت نتائج الانتخابات وآخرها نسبة المشاركة الضئيلة في الاستفتاء الشعبي حول اختصار الولاية الرئاسية من سبع الى خمس سنوات ابتداء من العام 2002. وتبقى القضية الأصعب من ذلك كله، كامنة في الحجم الضخم لممثلي الشعب في فرنسا والبالغ عددهم 500 ألف في المناصب البلدية والاقليمية والمقاطعات والنواب والشيوخ والبرلمان الاوروبي وفي الحجم الهائل لعدد الناخبين الذي يتعدى الاربعين مليون نسمة. فمن يضمن "الشفافية" في هذا البازار الديموقراطي الهائل؟ هذا السؤال سيبقى معلقاً سواء انتصرت جمهورية القضاة... او جمهورية السياسيين