من مسقط رأسه الى غفوة عينيه، في "كولومبي لي دوزيغليز" - ضيعته المتواضعة في مقاطعة "الشمباني" شرق فرنسا، ظل الجنرال شارل ديغول العسكري الاكثر ديموقراطية في التاريخ الحديث، والقائد الفرنسي الاقرب الى قلب العالم في خفقانه الألفيّ الاخير، مثلما ظل الرئيس اليتيم الذي قال لا لجميع الزمن الغلط. ولعلّ اجمل لاءاته، عند تركه كرسيّ الجمهورية كبيراً زاهداً مغادراً الى بيته. وفي جديد تاريخ الجنرال ان احتفل اخيراً، ولمناسبة ثلاثين عاماً على رحيله، بتدشين تمثال له باللباس العسكري الذي بدا فيه اثناء عبوره جادة الشانزيليزيه صيف العام 1944 زعيماً لفرنسا الحرة. وفي الاحتفال، الذي رعاه الرئيس جاك شيراك،تحلّق تحت التمثال نجل الجنرال الاميرال فيليب ديغول وبعض الأقرباء اضافة الى عدد كبير من الشخصيات السياسية والعسكرية والديغولية. اما التمثال، وهو الاول للجنرال ديغول في باريس، والواقف جميلاً وعالياً عند تقاطع جادتي الشانزيليزيه وونستون تشرشل، فهو من صنع النحّات جان كاردو ومن البرونز. ومن تتمة هذه الحكاية ان صانع مجد فرنسا الحرة مات فقيراً. وبيته الفلاحي في قريته البعيدة كاد يتداعى في غياب الصيانة المكلفة فرنسياً، مما استدعى تدخّل بعض الاهل بفكرة تحويله مزاراً للاوفياء وللفضوليين وبثمن دخولهم يُصان البيت من هول العواصف. فتدخله، زائراً، بعد ان تدفع 17 فرنكاً مثلاً ثمن فنجان قهوة، لتشاهد منزل الجنرال المتواضع، وتخرج حزيناً وغاضباً معاً وانت تتخيل الفوارق الشاسعة في هذا الزمان . وفي عودة الى التمثال الباريسي، فقد سبقه اطلاق اسم الجنرال على ساحة النجمة المحيطة بقوس النصر، ومن ثم على المطارين الحديثين في ضاحية رواسي. بينما تنتشر تماثيل الجنرال ديغول في نحو مئتي مدينة وبلدة ودسكرة فرنسية، اضافة الى لندن وواشنطن ومقاطعة كيبيك الفرنسية في كندا. وفي التمثال الباريسي ايضاً، ان تحفظت عائلة ديغول طويلاً ازاءه تواضعاً، ورفضاً، الى حدّ ان حفيده، النائب الاوروبي، شارل ديغول، المنتمي الى حزب الجبهة الوطنية اليميني القومي، أطلق بياناً في المناسبة الاخيرة، شديد اللهجة ضد الرئيس "الديغولي" جاك شيراك ومخالفاً سياسته المغايرة كلياً لنهج الجنرال. و... في تكاليف التمثال ان مؤسسة "فرنسا الحرة" التي اطلقت حملة جمع الاموال، كانت اشارت الى انها بالكاد تمكنت من جمع نصف المبلغ المطلوب، لتعود وتوجه نداءً عاجلاً لجمع الجزء المتبقي من المبلغ، وليسهم في جمع ذلك المحبّون. والأغرب ان الثمن لا يساوي ثمن شقة عادية في باريس. ومهما يكن فقد نقشت على قاعدة التمثال مقولتان شهيرتان لشارل ديغول، هما: "هناك ميثاق تاريخي بين عظمة فرنسا والحرية في العالم". و"باريس مُهانة، مُحطّمة، شهيدة لكنّها محررة"