كانت سيول ملتقى قمة أوروبية - آسيوية جمعت 25 رئيس دولة وحكومة، وعلى رغم أن هذه القمة جاءت ضمن الاجتماعات الدورية لرؤساء دول المجموعة الأوروبية ودول آسيان، فهي تمّت في سياق الاحتفال الكوري بحصول الرئيس كيم داي جونغ على جائزة نوبل للسلام التي كافأت جهوده للانفتاح والتقرب من كوريا الشمالية. ولكن هذه القمة كانت مسرحاً لعملية تجاذب دولية دفعت أوروبا ثمناً سياسياً باهظاً لها وسلطت الأضواء على ضعف وهشاشة سياستها "الموحدة" تجاه القضايا الكبرى، وبينت مقدار انقلاب التحالفات في المنطقة التي تتنافس الدول الكبرى على ولوج أسواقها الواعدة. ومع أن الولاياتالمتحدة غابت عن اللقاء الآسيوي - الأوروبي إلا أنها كانت وراء ما حصل من تباين ظهر بين الدول الكبرى الأوروبية وفي الموقف الواجب اتخاذه من نظام كوريا الشمالية في ظل المتغيرات الجديدة التي طرأت على المنطقة منذ الزيارة التاريخية للرئيس الكوري الجنوبي لكوريا الشمالية. ويعود هذا إلى التغيير الجذري الذي أدخلته واشنطن على سياستها تجاه بيونغ يانغ في أعقاب الزيارة والتقارب الذي يقف وراءه الشعب الكوري بحزم والذي جاءت جائزة نوبل لتسلط الأضواء عليه وتعطيه بعداً دولياً. وقد فاجأت بريطانيا الرئيس جاك شيراك بإعلانها إقامة علاقات ديبلوماسية مع كوريا الشمالية، من دون أخذ عناء ابلاغ الحكومة الفرنسية التي تترأس المجموعة الأوروبية والتي من المفترض أن تتكلم باسمها. ولم تمض ساعات حتى أعلنت ألمانيا من جانبها أيضا إقامة علاقات مع الشطر الشمالي. وعلى رغم صعوبة موقف باريس فإن المسؤولين الفرنسيين الذين كانوا في العاصمة الكورية شددوا على أن هذا الاختلاف في الرأي لا يغير من الموقف الفرنسي القائل بوجوب انتظار إشارات من الزعيم الشمالي تعبر عن حسن نية، وعن بعض التطور في مجال حقوق الإنسان، قبل البدء بتدفئة العلاقات معه. وينتظر أن تترك هذه التطورات التي أذهلت المسؤولين الفرنسيين من هذا التصرف الذي كان يمكن تداركه عبر تبليغ فرنسا بخطوة الدولتين، آثاراً على خطط تطوير سياسة أوروبية موحدة. لكن الأمر يتجاوز الانشقاق في صفوف الأوروبيين ليظهر خطاً جديداً في التحالفات التي تتثبت في المنطقة الآسيوية للسنوات المقبلة. وقبل أسابيع قليلة كان الخط السياسي الذي تتبعه الدول الصناعية السبع تجاه المسألة الكورية، يقوم على مسلمات بسيطة هدفها محاصرة النظام الستاليني الأخير في العالم وردعه عن التحرك جنوباً والحد من علاقاته الخارجية، خصوصاً المتعلقة بتصدير تقنية الأسلحة الصاروخية، ومحاولة خنق اقتصاده للحد من قدرته على متابعة أبحاثه وتطويره للسلاح النووي. غير أن تسارع الأحداث في الأشهر الماضية، خصوصاً الوقع الإيجابي الذي سجلته الزيارات بين البلدين وحسن إدارة الرئيس الشمالي لعملية الإعلام والتسويق التي رافقت هذه الزيارات ومن بينها عمليات لمّ شمل العائلات والصدى الطيب الذي تركته لدى الرأي العام، أعادت خلط الكثير من الأوراق وطرحت خطوطاً جديدة يمكن أن تصل إلى أهداف لا تتماشى مع استراتيجيات الكثير من الدول المحيطة بشبه الجزيرة. ودفع هذا واشنطن إلى تغيير جذري في سياستها تجاه الحكم الشيوعي في الشمال، فانقلبت لهجة التهديد والوعيد التي كانت من نصيب بيونغ يانغ إلى تبادل أنخاب بين وزير خارجية كوريا الشمالية ومادلين أولبريت التي زارت العاصمة الشمالية لتحضير زيارة الرئيس بيل كلينتون. وفجأة خف الحديث عن الخطر النووي الذي يهدد العالم من جراء الأسلحة النووية الكورية، و"ابتلع" الكونغرس الأميركي قراراته التي تمنع الاتصال بمسؤولين كوريين شماليين، وتحظر بيع كوريا الشمالية مواد أميركية أو تقديم مساعدات مالية واعتمادات مصرفية لها. ويعود سبب التغير في سياسة واشنطن الى تسارع خطوات التقارب بين الكوريتين والخوف من إعلان الوحدة بين الدولتين بشكل مفاجئ في ظل انهيار الاقتصاد الكوري الشمالي وانتشار المجاعة، خصوصاً على أبواب موسم الشتاء الذي من المنتظر أن تسوء خلاله أحوال التموين والاحتياط الغذائي في الشمال. لكل هذه الأسباب بدأت الاستراتيجية الأميركية تبتعد عن الأهداف القومية التي يخطط لها المسؤولون في سيول. ففي السابق كانت كوريا الجنوبية تحاول تخفيف الضغط الديبلوماسي والاقتصادي عن كوريا الشمالية بهدف منع النظام الشيوعي من محاولة الهروب إلى الأمام بتسخين الوضع في المنطقة. وفي هذا السياق كانت تبارك كل خطوة تقوم بها الدول الغربية باتجاه الشمال. أما الآن فهي تود الاعتماد على ديناميكية السلام التي ولدتها خطواتها السلمية، وهي باتت تود إبقاء الضغط الغربي، الديبلوماسي والاقتصادي، على بيونغ يانغ... مع إبقاء باب واحد مفتوح أمام الشمال هو باب التفاوض معها. ويرى الكثير من المسؤولين في سيول أن الثمار أينعت وحان قطافها. لذا فإن إبقاء المطالب الغربية قائمة بوجه النظام الشمالي يصب في مصلحة الوحدة الكورية حسب وجهة نظر كوريا الجنوبية. أما الانفتاح الذي فاجأت واشنطن العالم به، خصوصاً الإعلان عن احتمال زيارة كلينتون إلى بيونغ يانغ فإنه سياسة تصب عكس الاتجاه الذي ترغب به سيول، ويعطي الرئيس كيم يونغ إيل بالون أوكسيجين يسمح له بالصمود ويمد بعمر نظامه، خصوصاً أنه أثبت دراية في التعامل مع المعطيات الدولية والاستفادة من نقاط ضعف الغير واستعمال الإعلام لمصلحته. وكل هذا يمكن أن يبقي سراب الوحدة أمام الجنوبيين مع نزيف المساعدات الاقتصادية التي ترافق هذا الحلم المبتعد . والسؤال، ماذا تريد واشنطن؟ وحدة كورية بقيادة الجنوب أم كوريتين منفصلتين؟ إن الاستراتيجية الجديدة التي تطبقها واشنطن منذ أشهر تجيب بصراحة على هذا التساؤل، فهي لا ترى بعين الرضى عملية التوحيد. على الأقل في الوقت الحالي. وتجد واشنطن في هذا دعماً من الدول الفاعلة في المنطقة: اليابان والصين وكذلك روسيا. فكوريا الشمالية في حال انفتاحها تشكل سوقاً ضخمة يصعب تجاهلها، خصوصاً أن اقتصادها بحاجة لعملية إعادة تأهيل شاملة. وترغب الشركات الكورية الجنوبية الكبرى بالاستفراد بهذه السوق "الداخلية"، بينما تنظر الدول الأخرى نظرة حسد إلى "ورشة إعمار العصر" كما يسميها بعض رجال الأعمال الذين بدأوا بالتوافد إلى العاصمة الشمالية التي ظلت منبوذة طوال نصف قرن. ولم يكن غريباً أن الدول "الغائبة" اقتصادياً عن كوريا الجنوبية، أو الضعيفة التواجد فيها تدعم التوجه الأميركي لمد يد الإغاثة إلى الشمال، بينما الدول المتواجدة بقوة في كوريا الجنوبية ترغب بدعم التوجه الجنوبي لإبقاء الضغط على الشمال لتتم الوحدة بشروط الجنوب. ويقول مراقب أوروبي ان فرنسا المتواجدة بقوة في كوريا الجنوبية يمكنها الانتظار. فهي في حال تمت الوحدة متواجدة في السوق الكورية بقوة، ومن هنا استراتيجية باريس المرتكزة على الالتصاق باستراتيجية سيول. والواقع أن فرنسا استطاعت في السنوات الأخيرة كسب أسواق عدة في الشطر الجنوبي، منها بيع طائرات "إير باص" والقطار السريع "تي. جي. في" لربط المدن الكورية وتحديث نظام السكك الحديد اضافة إلى مترو العاصمة. والتعاون الصناعي بين البلدين في أحلى حالاته، خصوصاً أن شركة رينو التي تمتلك الحكومة 40 في المئة من أسهمها استطاعت وضع اليد على التكتل الصناعي دايوو، اضافة إلى التعاون القائم في مجالات الطاقة النووية السلمية. وترى سيول من جهتها أن مد يدها إلى أوروبا يساعدها على الخروج من معادلة الحلف الأميركي الحصري، خصوصاً أن ثقل الوجود العسكري الأميركي المتواجد أصلاً في كوريا لحمايتها من "عدوان شمالي" بدأ يشكل نقطة استقطاب لتصاعد النزعة القومية لدى الكوريين الجنوبيين. ومن هنا فإن تحرك حليف أميركا الأقرب بريطانيا لم يكن فقط في سياق مساعدة واشنطن بل يصب أولاً في باب مساعدة النفس وعرقلة توسع الشركات الفرنسية على حساب الشركات والمصالح البريطانية. وقد لحقتها في هذا الحساب ألمانيا بعدما كانت إيطاليا سبقت الجميع بالاعتراف بالنظام الشمالي. لكن الأوروبيين يتخوفون من أن تكون نتيجة الزيارة المحتملة لكلينتون إلى كوريا الشمالية عقد اتفاق شامل "بين أعداء الأمس على حساب حلفاء الأمس" لمصلحة الشركات الأميركية التي لا تنظر بعين الرضا الى توافد الشركات الغربية إلى العاصمة الكورية الشمالية فيما هي تخسر الأسواق لأنها مكبلة بقرارات الكونغرس